خالد النبوي في "كامب ديفيد" علي أكبر مسارح أمريكا
واشنطن: أمل فوزى
أن تشعر بالإنجاز ليس بالضرورة أن يكون إنجازاً منسوبا إليك
شخصياً.. هذا ما شعرته تحديدا بعد حضورى لمسرحية كامب ديفيد التى
تعرض فى الفترة من 21 مارس وحتى 3 مايو على واحد من أهم مسارح
أمريكا وهو
Arena Stage
كنت محظوظة أن أقف وسط جموع الجمهور الأمريكى المتنوع وأصفق معهم
بحرارة لعرض رائع مثل كامب ديفيد، وأن أشهد بنفسى لحظة نجاح وإنجاز
وفخر وتقدير (للسادات) .. الذى يحيى الجمهور فى نهاية العرض والذى
خطف الأنظار والاهتمام خلال 100 دقيقة هى مدة العرض.. إن روعة هذا
الإنجاز الذى شعرت به منحه لى، بل منحه للمجتمع المصرى - الفنان
الرائع المجتهد والمثابر .. خالد النبوى .. الذى جسد شخصية السادات
ببراعة مدهشة.. إنجازى هو أننى شاهدت ذلك العمل الإبداعى الراقى،
وأننى شهدت لحظات نجاح فنان وممثل مصرى فى محفل عالمى مهم كهذا، هو
فخر له يستحقه، وفخر منحه لمصر وللمصريين برقى بالغ.
إنه خالد النبوى.. الذى أنجز «السادات» فى أمريكا.
بعد مرور 36 عاماً على معاهدة السلام واتفاقية كامب ديفيد قرر
المؤلف المسرحى لورانس رايت فتح ملف توثيق كواليس الثلاثة عشر
يوماً الحرجة التى دارت بين الرئيس السادات ومناحم بيجن برعاية
الرئيس الأمريكى جيمى كارتر فى منتجعه الرئاسى لمحاولة الوصول إلى
توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ثلاثة عشر يوما لا نعلم الكثير عما دار
فيها ومع مرور الزمن لا يتبقى من التاريخ سوى الحدث والنتيجة، ولكن
توثيق التاريخ دراميًا وإبداعياً عملية شديدة التعقيد ويبقى
الاختلاف الأيديولوجى تتوارثه أجيال، ولكن تبقى حقيقة واحدة أن
الفن والإبداع كالسحر يمكنه أن يوحد كل الرؤى المختلفة والمتصارعة
أيضاً تحت سقف واحد وبين أروقة مكان يحكمه قانون «الفن والإتقان
والتناغم الإبداعى فى الأداء».
وهذا هو الإنجاز الذى حققه ذلك العرض الذى لقى تهافتا جماهيريا
مذهلا على مدار 40 ليلة عرض بحفلات صباحية ومسائية بكثافة لا تقل
عن ألف مشاهد يومياً .. شىء رائع ومدعاة للفخر أن يكون «خالد
النبوى» الممثل المصرى المتمكن من أدواته والمطور لها بمنتهى
الجدية والاجتهاد مجسداً لدور الرئيس السادات حاضرا ببراعة فى
أدائه، فى توحده مع السادات، فى ثقته وهو يمثل شخصية تاريخية فى
فترة سياسية شائكة، بلغة إنجليزية متقنة أمام جمهور غربى ووسط نخبة
من أهم ممثلى ورواد المسرح الأمريكى مثل:
Ron Rifkinصاحب
الجوائز العالمية والذى جسد دور مناحم بيجن، والذى كان بينهما
مناظرة شديدة السخونة وصراع وجدال سياسى والذى هو جوهر النص ورغم
المبارزة السياسية بين الشخصيتين، فإنه يثير دهشتك وإعجابك حالة
التناغم التمثيلى المدهش الاحترافى بينهما.
رون ريفكين
Ron Rifkin
الممثل الرائع ذو الأربعة وسبعين عاماً والذى التقيته سريعا بعد
العرض وفى غياب خالد النبوى قال لى : «خالد ليس ممثلاً رائعاً فحسب
لكنه من أجمل وأنقى البنى آدمين الذين قابلتهم فى حياتى» .. جميل
هذا الممثل القدير الذى لم يكن مضطرا للحديث بهذا الصدق والحماس عن
ممثل تعامل معه فى عمل مسرحى سينتهى بعد أيام سوى أنه شعر بذلك
وأراد التعبير عنه، حتى فى غيابه، كم كنت سعيدة وفخورة وكأن ذلك
الرأى والإطراء يخصنى شخصياً وكذلك حضور الممثلة الموهوبة «رينيه
زيلوجر» فى كواليس المسرح وأنا فى انتظار خالد من الانتهاء من نزع
«الماكياج» الذى يستغرق جهداً ووقتاً لعمله ثلاث ساعات قبل العرض
يوميا. قالت: زيلوجر لى: لقد كنت مأخوذة بأداء خالد جدا على
المسرح.. هو ممثل له حضور رائع!
هذه الشهادات الرائعة من ممثلين لهم قامتهم الفنية عن ممثل مصرى
معروف باجتهاده وجديته والتزامه وعشقه للفن أشعرنى بالسعادة..
سعادة الإنجاز!!
لم تكن شهادات البشر وحدهم هى الدالة على أن خالد قد أنجز نجاحاً
يستحق أن نعلم عنه فى مصر خاصة مع فنان مثله يفضل العمل فى صمت.
لكن أى صمت هذا عندما يتصدر بوستر وإعلانات المسرحية وعليها صورته
مع رون ريفكين «مناحم بيجن» ومع الممثل الأمريكى ريتشارد توماس
«جيمى كارتر»، والممثلة هالى فووت «روزالين كارتر» فى شوارع
واشنطن دى سى وفى محطات المترو وفى وسائل الإعلام الأمريكية.
أى صمت هذا عندما تكتب مجلة برودواى - أهم مجلة متخصصة للمسرح فى
أمريكا، وكلنا نعرف ماذا تعنى مسارح برودواى فى نيويورك التى
اشتهرت بعرض أهم الروايات العالمية والتى تظل على خشبة هذا المسرح
لسنوات قد تمتد إلى عشرة أعوام. كتبت المجلة باحتفال نقدى رائع عن
المسرحية وعن أداء الممثلين المتحدى وعن الفنان المصرى خالد النبوى
الذى قدم شخصية معقدة مثل السادات بمثل هذا الأداء الاحترافى.
أى صمت هذا بعد أن كتب فى مجلة فورين بوليسى: ( كان خالد رائعا فى
تجسيد الرئيس السادات، كان عاطفيا عند اللزوم وغاضبا عندما تحتاج
اللحظة .. يكفى أنه يجعلك تحبه طول الوقت)!
أى صمت بعد أن كتب بيتر ماركس فى صحيفة الواشنطن بوست :
(''النبوى'' يستحضر إنسانية السادات الحذرة بشكل مذهل).
أى صمت هذا وأصوات تصفيق الجمهور بعد نهاية العرض كانت تدوى إعجابا
للعمل كاملاً وبدون تحيز لأحد سوى التحيز للمتعة وللجمال وللنجاح
الراقى.
أى صمت هذا وأنت تسمع جمهوراً يثنى على المسرحية وينطقون اسم
«النبوى» فى سياق مدحهم وانبهارهم بتجسيده للسادات.
«التجسيد».. إنها مسألة لا تعتمد على كون خالد النبوى ممثلاً
محترفاً فحسب، بل لأنه يعشق «التعلم» ويغوص فى دراسة الدور وكأنه
الأول بالنسبة له، هذه الروح «الطازجة» تنعش الممثل خاصة عندما
يتواجد فى منظومة متكاملة معتمدة على «العمل الجماعى الحقيقى»،
استماع جاد للآراء بين كل فريق العمل، بروفات تستمر لشهور تعتمد
على أن يتقن كل فرد مهمته ودوره وفق تخصصه، سواء كان ممثلاً،
منتجا، إدارياً، فنياً.. فريق يعمل برؤية جماعية : كيف ينجح «عملنا
الفنى»، وليس برؤية ذاتية: «كيف ينجح دورى فى ذلك العمل الفنى»!
الفرق كبير بين الرؤيتين!
مسرحية كامب ديفيد ليست سرداً للوقائع فحسب ولكنها كانت أيضاً -
كما يصفها المؤلف المسرحى لوانس رايت دليلاً يقدم إلى كل الزعماء
فى العالم أن السلام فكرة يمكن تحقيقها، ليست سهلة ولكنها غير
مستحيلة.. وكيف ينتج السلام من وسط عداء، ولكن مصلحة الشعوب تبقى..
قد تختلف أو تتفق مع ذلك المنهج أو الرؤية ومعك كل الحق، فما يقوله
«رايت» هى وجهة نظر، وقد نكون ضد اتفاقية كامب ديفيد، والمعروف أن
النبوى نفسه ضد الاتفاقية.. لكنه يرى أن توقيت عرض المسرحية مهم
للغاية، ففى وقت يحاول البعض تلخيص المجتمع المصرى بالعنف والإرهاب
تلخيصاً جاهلاً، فمن المهم أن يعرف العالم التاريخ جيداً أن الشعب
المصرى طالما كان شعباً ليس محباً للسلام فحسب، بل هو داعٍ للسلام
وصانع له.
وقد وافق على أداء شخصية السادات عندما وجد النص متوازنا وعادلاً،
لا يحمل فكرة تحيز ضد أو مع طرف معين، ولكنها كانت أشبه بالتوثيق،
وكان رأيى الشخصى أثناء وبعد مشاهدة العمل المسرحى أن هناك انتصارا
واضحا لشخصية السادات وإبائه ورفضه لتنازلات أو موافقة على ما
يطرحه بيجين فى بنود الاتفاقية، وهذا هو ما حمس خالد وأضاف هو له
فى كل تفاصيل أدائه لشخصية السادات، فى طريقة الكلام واللغة
الجسدية، وهو ما قاله خالد فى وصفه لشخصية السادات فى النص وتناقش
كثيراً مع مخرجة المسرحية «مولى سميث»، حيث وضع عنوانا فى تجسيده
للشخصية
Dignity
أى كرامة وعزة، وهذا الرسوخ كان واضحاً فى أداء خالد وثقته ممثلاً
و«ساداتاً».
الفرق كبير وشاسع بين تقليد شخصية وبين استلهام روحها وموقفها
ومشاعرها وأفكارها لتجسيدها وهذا ما أنجزه خالد.. الاستلهام
والاستحضار لروح السادات، وهل هذا هو ما جعل السيدة جيهان السادات
التى حضرت هى والرئيس الأمريكى كارتر افتتاح المسرحية فى أول يوم
يبكيان من التأثر... تأثر أن التاريخ يعود ويجسد بمثل هذا الصدق
بعد 36 عاماً.
تلقى خالد عروضا جادة وواضحة بالبقاء فى أمريكا والتمثيل هناك لكنه
قال: «أنا موجود فى بلدى.. مستعد لأى دور أحبه وأحترمه ..سأحضر
لأدائه وأعود».. أرى أن خالد أصبح مطلوباً كممثل له قيمته وحضوره
فى سوق الصناعة الأمريكية السينمائية، وأضيف إليها هذه الأيام الفن
المسرحى أيضاً، وهذا لا يأتى من فراغ وليس وليد الصدفة.. ولكنها
الموهبة والدأب والاستمرارية فى الرغبة فى تطوير الذات لا الانشغال
بها أو الانشغال بما يقوله الناس من أمور مستهلكة للإبداع وللروح
وللإنسانية.
وما يميز خالد فى رأيى كفنان، أنه لا ينبهر بنقطة أو بمحطة بعينها
فى النجاح، بل إنه يخشى من فكرة الاطمئنان والراحة بالنجاح، لأنها
فى رأيه ستقود إلى منطقة «تراجع»، وربما يكون ذلك ما يجعله قد رفض
الكثير من الأعمال التى عرضت عليه فى الفترة ما بين أول عمل يمثله
فى هوليوود «مملكة الجنة» للمخرج العالمى ريدلى سكوت وبين مسرحية
كامب.. ما يزيد على 38 سيناريو، لم يقبل خالد منهم سوى: «مملكة
الجنة، المواطن، لعبة عادلة مع شون بن» وأخيراً يقف خالد متألقاً
مشرفاً على واحد من أهم وأرقى المسارح الأمريكية فى العاصمة
واشنطن.
وكما يقول : لست مضطراً للاشتراك فى فيلم أمريكى أرى فيه تحيزاً ضد
الحقيقة، أو أن أقدم عملاً لا أرضى عنه ولا أشعره لمجرد أنه فى
هوليوود.
هذه هى فلسفة خالد النبوى منذ سنوات الذى مازال يعرف أن يقول «لا»
متسقاً مع نفسه ومع ما يريد أن يفعله فى الحياة، يرفض سيناريو
لفيلم أمريكى، لكنه يفضل أن يسافر إلى محافل فنية فى أمريكا بعد
الثورة ليقول فيها «مصر آمنة .. تعالوا إليها»، يقوم بمبادرات قد
لا يعرف عنها الكثير لتشجيع السياحة فى مصر، فيدعو الممثل الأمريكى
شون بن لتكون بادرة تشجيع للمواطنين الأمريكيين وللغرب بالقدوم إلى
مصر، يتوقف خالد عن الاشتراك فى أعمال لا ترضيه، ويفضل أن ينتج على
نفقته الخاصة حملة «مصر محدش يتحرش بها» ويهديها إلى القنوات
التليفزيونية دون مقابل.. خاالد الذى يعتز ويقدر أنه ابن معهد
الفنون المسرحية، والذى حظى بالتعلم فى مصر على يد أساتذة يذكرهم
دائماً مثل دكتورة سميرة محسن، العظيم صلاح أبوسيف، المبدع يوسف
شاهين، المخرج المسرحى جلال الشرقاوى الذى تعلم منه خالد الكثير فى
تجربته معه فى مسرحية الجنزير، كل هؤلاء كانوا أمناء عليه وعلى
موهبته، وكما يقول: (هم سبب فى تكوينى الفنى وفى وجودى هنا على
خشبة المسرح الأمريكى).
أرى جيدًا أن النجاح له مفاتيح، ليست موهبة وحدها ولا مجهود
وإمكانات، لكنها رؤية وعقلية ورغبة حقيقية فى النجاح المبذول له
جهد مخلص.
الدليل البسيط على هذا عندما توجهت إلى
Arena Stage،
حيث أحد أهم وأكبر مسارح أمريكا، فى العاصمة واشنطن
DC
ذلك المجمع المسرحى الذى يضم خمسة مسارح، وفى كل مسرح يعرض واحد من
أهم العروض، وأعداد غفيرة من البشر يتحركون بشغف فى الشارع المتجه
إلى المسرح، وبمجرد دخولى إلى بهو المسرح شعرت بطاقة إيجابية،
أدركت مصدرها.. إنهم البشر.. سواء جمهورًا رائعًا ومبهجًا، وكذلك
عاملون يتمنون تقديم المساعدة لأى شخص، أذهلنى مشهد السيدة الأنيقة
التى تتجاوز السبعين ومهمتها إرشاد الناس إلى مقاعدهم وعندما تحدثت
إليها وجدتها شديدة الاعتزاز بتلك المهنة البسيطة التى منحتها فرصة
مشاهدة أهم العروض والنصوص المسرحية العالمية مجانا، والأكثر دهشة
أننى وجدت أن الطابع الغالب فى أروقة هذا المسرح أن من يقومون
بتوصيل الناس وإرشادهم إلى مقاعدهم من كبار السن والذين بلا مبالغة
يتجاوز الكثير منهم الستين والسبعين من العمر .. ابتسامتهم
واستمتاعهم الحقيقى بما ينجزون دليل على أن النجاح والإنجاز ليس
موضوعاً فردياً.
هذا الطرح هو نفسه الذى فاجأنى به خالد النبوى وأنا أتحدث معه عن
فكرة النجاح والإنجاز فقال لى: النجاح الذى أشعر به هو مجرد
محاولتى أن أعمل الشغلانة بتاعتى صح، فأنا ممثل وأحترم مهنتى،
وبنفس المنطق لو كل فرد أنجز مهمته ومهنته صح لحدث الإنجاز، لأن
النجاح والإنجاز الحقيقى فى الفن هو «التكامل» من أجل إنجاز القيمة
الفنية لعمل.. فالفن عمره ما كان عملاً فرديًا، فأنا لا أسعد بأن
يمدحنى الناس لأداء دور اجتهدت فيه فى فيلم به مشاكل كثيرة.
أوافقه تماماً.. فالنجاح الفردى مهم ولكن قيمته لا تدوم إذا لم يكن
متسقاً مع نجاح ومجهود منظومة متكاملة تسير على نفس مسار النجاح،
وهنا يتحقق الإنجاز الجماعى الذى يحلم به خالد النبوى وجموع من
المبدعين والثوار والمجتهدين والبسطاء فى مصر الذين تجمعهم رؤية
واحدة لكن يعملون فرادى كل فى مسار منفصل .. ولكن لوقت لن يدوم
كثيراً .. أو هكذا أحلم!
إنه الوقت الذى دائماً يراهن عليه خالد النبوى .. ذلك الرهان الذى
تحدثنا عنه منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، وقالها لى صراحة: «أنا
مراهن على الزمن والوقت».. وها هو يكررها لى خالد النبوى فى صباح
يوم دافئ فى العاصمة الأمريكية واشنطن دى سى وعلى مائدة الإفطار..
أوثق جملته مرة أخرى وهو يقول: «الوقت بيصنع المعجزات والنجاح..
الوقت هو إللى بيصنع تاريخ الشعوب، والوقت بيصنع سيرة البنى آدمين
.. أنا مش مستعجل .. المهم أن أنجز يومى وأنا أحترم إنسانيتى و«شغلانتى»
ومبادئى والبنى آدمين .. وأنى «أتعلم»! |