يا عزيزتى راندا: إبداع هنرى بركات ملك لمصر كلها
بقلم سمير
فريد
١٢/
٥/
٢٠١٤
نشر الزميل محسن حسنى فى «المصرى اليوم» حواراً مع السيدة راندا
الابنة الكبرى للمخرج السينمائى الكبير هنرى بركات «١٩١٤ - ١٩٩٧»
جاء فيه أنها ذهبت إلى وزيرى الثقافة والإعلام تطالب بالاحتفال
بالذكرى المئوية لمولد والدها هذا العام، والتى تحل يوم ١١ يونيو
القادم، وأن الوزيرين رحبا، وأكدا اهتمامهما بالمناسبة وتقديرهما
لإبداع الفنان الكبير.
الواقع أن المئوية لا تقتصر على يوم الميلاد، وإنما السنة كلها،
ولا يوجد أحد من صناع أو نقاد السينما فى مصر لا يعرف قيمة بركات،
سواء من الذين عاصروه وعرفوه، أو من الأجيال الجديدة التى تعرفه من
أفلامه. ومن المعروف أن مكتبة الإسكندرية تضع برنامجها السنوى فى
نوفمبر من العام السابق، وقد خصصت برنامج «يوم السينما المصرية» فى
٢١ يونيو، وهو بالصدفة بعد عشرة أيام من يوم مولد بركات، للاحتفال
بمئوية ميلاده، حيث تعرض فى افتتاح البرنامج حلقة برنامج «زووم إن»
التى قدمتها سلمى الشماع بعد وفاته من إنتاج القناة الأولى فى
التليفزيون المصرى، ثم تعرض ثلاثة من أفلامه جاءت ضمن قائمة
المكتبة لأهم مائة فيلم مصرى فى مائة سنة، وهى «لحن الخلود» عام
١٩٥٢، و«حسن ونعيمة» عام ١٩٥٩، و«فى بيتنا رجل» عام ١٩٦١.
وتخصص المكتبة العدد ١٤٠ من نشرة البرامج السينمائية عن بركات،
ويتضمن القائمة الكاملة المحققة لأفلامه التى أخرجها فى مصر
ولبنان، سواء الطويلة أو القصيرة.
ومنذ أول اجتماع لإدارة مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى أغسطس
من العام الماضى، والمقرر أن يعقد دورته الـ٣٦ من ٩ إلى ١٨ نوفمبر
القادم، قررت لجنة الإدارة الاحتفال بمئوية بركات، وأن تكون
موضوعاً لمعرض المهرجان الذى يقام فى مركز الهناجر للفنون بمنطقة
الأوبرا، وكلفت الناقدة والباحثة صفاء الليثى بإعداد المعرض تحت
إشراف الفنان مصطفى عوض، مدير المعارض بالمهرجان، كما كلف الناقد
الكبير كمال رمزى، رئيس تحرير كتب المهرجان، الناقد مجدى الطيب
بتأليف كتاب عن الفنان وسيرة حياته. وقد تمت التكليفات قبل عشرة
شهور حتى يتم إعداد المعرض وتحرير الكتاب على النحو المنشود
اللائق.
يا عزيزتى راندا: إبداع هنرى بركات ملك لمصر كلها.
اليوم يعرض «هذا ليس فيلماً» فى القاهرة ولايزال بناهى مسجوناً
بقلم سمير
فريد
١١/
٥/
٢٠١٤
تشهد القاهرة فى الثامنة مساء اليوم، عرض الفيلم الإيرانى «هذا ليس
فيلماً»، فى مسرح الفلكى بمقر الجامعة الأمريكية فى ميدان التحرير،
وذلك فى إطار مهرجان الربيع للفنون، الذى تنظمه مؤسسة «المورد
الثقافى».
هذا هو الفيلم الذى أخرجه فنان السينما الإيرانى الكبير، جعفر
بناهى، داخل بيته وأرسله فى كعكة إلى إدارة مهرجان «كان»، وعرضه
المهرجان فى دورة عام ٢٠١١، فقد أنتج سراً وأرسل إلى الخارج سراً،
ولكن مهرجان «كان» عرضه علناً، وأصبح الفيلم الوحيد من نوعه فى
العالم.
وقد صور بناهى الفيلم داخل بيته لأن السلطات الإيرانية حددت إقامته
فيه، ومنعته من الخروج إلى الشارع، وبذلك تحوّل البيت إلى سجن بكل
معنى الكلمة، ولكن وبفضل الثورة التكنولوجية، التى حولت الكاميرا
إلى قلم، كتب ذلك الفيلم داخل البيت، تماماً كما كتبت العديد من
الروايات الأدبية داخل السجون على أوراق مخترعة وأقلام ليس لها
علاقة بالأقلام، وكان الحكم الذى صدر ضد بناهى بالسجن لمدة ست
سنوات، ومنعه من صنع الأفلام لمدة عشرين سنة، وعندما أثار الحكم ما
أثاره من احتجاجات دولية واسعة، تم «تخفيفه» بأن يقضى السنوات الست
فى بيته، لكنه استطاع أن يبتكر هذا الشكل الجديد من الأفلام، التى
يمكن أن نطلق عليها أفلام السجون على غرار أدب السجون.
والسبب فى عقاب بناهى يفوق الخيال، وربما لا مثيل له فى كل
التاريخ، وهو أنه كان «ينوى» عمل فيلم ضد النظام السياسى، وهذا هو
النص الحرفى للحكم، وليس تفسيراً أو تعليقاً من جانبنا، ومن البدهى
أن الله وحده سبحانه وتعالى من يعرف النيات، ولكن قضاة النظام
يدعون معرفة النيات أيضاً، ولم لا وهو نظام من يطلقون على أنفسهم
آيات الله، ويسمون حزبهم حزب الله، ويتفوقون على رجال الكنيسة فى
العصور الوسطى الأوروبية، ومنهم من كان حكمه على «جويا» بأن «يمحى
اسمه من الوجود إلى الأبد».
وقد صدر الحكم على بناهى بعد الثورة الشعبية الكبرى ضد النظام عام
٢٠٠٩، بعد ٣٠ سنة على الثورة ضد نظام الشاه، والتى سرقها آيات
الله، كما سرق الإخوان ثورة ٢٥ يناير فى مصر تماماً، ولاشك أنه مثل
أى فنان حقيقى كان مع الشعب فى ثورته، ولاشك أنه كان ينوى أن يصنع
فيلماً يعبر فيه عن تأييده لهذه الثورة بشكل أو آخر، ومن المؤسف
حقاً أن ينسى العالم مع مرور الزمن أن جعفر بناهى لايزال مسجوناً،
ولا يستطيع الخروج من بيته أو السفر خارج بلاده، ولكنه سيخرج يوماً
عندما ينتصر الشعب وينتزع حريته.
صدق أو لا تصدق: عمرو واكد كان فى الميدان لتعذيب الثوار!
بقلم سمير
فريد
١٠/
٥/
٢٠١٤
القضية التى ينظرها القضاء فى مصر هذه الأيام، والتى رفعها الممثل
السينمائى عمرو واكد ضد المذيع التليفزيونى عبدالرحيم على يجب أن
تنشر فى باب «صدق أو لا تصدق» الشهير الذى ينشر فى «الأهرام»
يومياً منذ عقود طويلة!
اتهم المذيع عمرو واكد بأنه اشترك مع الإخوان المسلمين فى تعذيب
الثوار فى ميدان التحرير أثناء أحداث ثورة ٢٥ يناير المجيدة عام
٢٠١١، والتى كانت أول ثورة شعبية فى مصر منذ ثورة ١٩١٩ من أجل
الحرية وإسقاط نظام حكم الحزب الواحد بعد أكثر من نصف قرن.
كان عمرو واكد من أوائل الفنانين الشباب الذين اشتركوا فى الدعوة
إلى الثورة وفى مظاهرات الثورة طوال الـ١٨ يوماً التى شهدت أحداثها
فى الشارع. ومثل أى فنان حقيقى لم يكتف بذلك، وإنما أنتج بنفسه
الفيلم الروائى الطويل «الشتا اللى فات» إخراج إبراهيم البطوط،
وقام بتمثيل الدور الأول فيه، وبدأ تصوير الفيلم فى الميدان أثناء
الثورة، وكان أول فيلم روائى طويل عنها، والذى عرض فى مهرجان
فينسيا، أعرق مهرجانات السينما الدولية فى العالم، عام ٢٠١٢، ثم فى
افتتاح مهرجان القاهرة فى نفس العام.
ولم يكن من الغريب أن يشترك عمرو واكد فى ثورة الشعب المصرى من أجل
الحرية، فهو من جيل جديد من الممثلين المثقفين العضويين الذين لا
يريدون تغيير واقع السينما فقط، وإنما واقع الحياة فى بلادهم
أيضاً. ولم يكن من الغريب أن ينتج فيلم إبراهيم البطوط، وهو الأب
الروحى لحركة السينما المصرية المستقلة التى بدأت منذ عشرين سنة
ويزيد، ووصلت إلى ذروتها بعد الثورة.
ولكن الغريب حقاً أن يتهم عمرو واكد بأنه من الإخوان الذين يمارسون
العنف، بل التعذيب، وموضوع «الشتا اللى فات» لمن لا يعرف هو
التعذيب فى السجون، بدعوى حماية أمن الدولة، بينما التعذيب الخطوة
الأخيرة لسقوط أى دولة، ويعتبر من الأفلام القليلة التى تدافع عن
حقوق الإنسان، وأكثرها إدانة للتعذيب قبل الثورة وأثناءها وبعدها،
وكيف لفنان أن يعذب إنساناً. كلا، لا تنشر القضية فى «صدق أو لا
تصدق»، وإنما فى «لا تصدق ولا تصدق»!
اليوم: فنان السينما السورى الكبير محمد ملص يعرض أفلامه فى
القاهرة
بقلم سمير
فريد
٨/
٥/
٢٠١٤
يصل إلى القاهرة اليوم فنان السينما السورى الكبير محمد ملص ضيفاً
على دار «زاوية»، أحدث مشروعات شركة مصر العالمية «يوسف شاهين
وشركاه»، التى تديرها ابنة أخته المنتجة والمخرجة ماريان خورى،
وتحقق بها أحد أحلام خالها الراحل العظيم، فى وجود ولو «زاوية»
تعرض الأفلام التى تنتج بعيداً عن مقاييس السوق، ولاشك أن روح يوسف
شاهين تشارك كل صناع ونقاد السينما فى مصر فى الترحيب بالفنان
السورى.
تعرض «زاوية» فى السادسة مساء اليوم «أحلام المدينة» ١٩٨٤، وفى نفس
الموعد غداً «الليل» ١٩٩٢، ويوم السبت «باب المقام» ٢٠٠٤، ويوم
الأحد «سلم إلى دمشق» الذى أتمه الفنان العام الماضى، وكان عرضه
العالمى الأول فى مهرجان دبى السينمائى الدولى، وذلك تمهيداً لعرضه
العام ابتداءً من الأربعاء المقبل. يحضر ملص عروض أفلامه الأربعة،
وهى كل الأفلام الروائية الطويلة التى أخرجها فى ثلاثين سنة إلى
جانب عشرة من الأفلام التسجيلية الطويلة والقصيرة التى أخرجها منذ
عام ١٩٧٢ وهو طالب فى معهد السينما بموسكو قبل تخرجه عام ١٩٧٤، وفى
كل أفلامه من جميع الأطوال والأجناس عبر محمد ملص عن رؤية عميقة
لواقع وتاريخ سوريا وبأسلوب خاص ومتميز بالجدة والحداثة.
«سلم إلى دمشق» خلاصة هذه الرؤية وعمادها الإيمان بالحرية، وذروة
جديدة فى تطور أسلوبه من الجدة والحداثة إلى ما بعد الحداثة بكل
آفاقها الرحبة، (انظر «صوت وصورة» عدد ٥ يناير الماضى بعنوان «أحسن
فيلم عربى عام ٢٠١٣: سلم إلى الحرية»)، و«سلم إلى الحرية» ليس
تلاعباً بالعنوان، ففى نهاية الفيلم يضع إحدى شخصياته الرئيسية
سلماً على سطح البناية التى يقيم فيها، ويصعد درجات السلم كأنه
يريد أن يصل إلى السماء، وأن يسمعه كل العالم ويهتف بكلمة واحدة هى
«الحرية».
إنه هتاف الشعب السورى، وكل شعوب الدنيا فى كل العصور، ولكن الشعب
السورى، ومن بين كل الشعوب، يشهد منذ ثلاث سنوات ويزيد ما لم يشهده
أى شعب آخر فى عصرنا، عصر الثورة التكنولوجية والعولمة، والأرض
قرية صغيرة، فالناس يُقتلون فى كل مكان، وأغلب المدن والقرى تتحول
إلى أطلال، والملايين يلجأون إلى الدول المجاورة، والعالم يتفرج
وكأن سوريا فى كوكب آخر، ومن قلب هذه المعاناة جاء فيلم ملص
الجديد. مرحباً بك فى بلد الثورتين من أجل الحرية.
الفيلم عندما يستحيل تلخيصه فى كلمات وإنما يشاهد كاملاً لتلقيه
بقلم سمير
فريد
٧/
٥/
٢٠١٤
يبدأ اليوم الأسبوع الثانى من عرض الفيلم المصرى «الخروج للنهار»
إخراج هالة لطفى، والذى لم يكن من الغريب أن يتم اختياره ضمن قائمة
أهم مائة فيلم فى تاريخ السينما العربية فى استفتاء مهرجان دبى عام
٢٠١٣، رغم أنه من إنتاج عام ٢٠١٢، كما لم يكن من الغريب أن يأتى
فيلم «المومياء» إخراج شادى عبدالسلام فى أول القائمة.
الفيلمان ينتميان إلى السينما الخالصة، أرفع درجات سينما المؤلف،
وهى لا تعنى أن يكتب المخرج السيناريو، كما يتصور البعض، وإنما أن
يكتب الفيلم بلغة السينما دون تأثر بغيرها من لغات التعبير، أو
بعبارة أخرى عندما يصبح من المستحيل تلخيص الفيلم فى كلمات لتلقيه
على النحو الصحيح، وإنما مشاهدته من أول إلى آخر لقطة، فمعناه هو
مبناه من بدايته إلى نهايته.
وتتكامل فنون السينما فى أسلوب هالة لطفى من تصوير «محمود لطفى»
ومونتاج «هبة عثمان» وديكور «شهيرة مشير» وأزياء «نيرة الدهشورى»
وصوت «عبدالرحمن محمود»، وكلهم من شباب الفنانين المبدعين، وتتكامل
هذه الفنون مع مجموعة الممثلين أحمد لطفى «الأب» وسلمى النجار
«الأم» ودنيا ماهر «الابنة» ودعاء عريقات «فتاة «الميكروباص»»،
وغيرهم فى كل الأدوار ولو كان بعضها فى لقطة واحدة لا تتجاوز ثوانى
معدودة من مدة العرض التى تصل إلى ٩٦ دقيقة من دون لقطة زائدة، أو
أخرى تفتقد وجودها.
الديكور يعبر عن واقع البيت- المقبرة، والأزياء تعبر عن واقع
الشخصيات، والتمثيل ليس تمثيلاً، وإنما تعبير داخلى عميق وبسيط
عنها، وخاصة لاختيار وجوه جديدة وإدارتها ببراعة. وكما أن التمثيل
ليس تمثيلاً، كذلك فإن التصوير ليس تنويراً، أى مجرد إضاءة المشهد،
وإنما تعبير عن معنى الفيلم، عن معنى «الخروج للنهار» ودخول أشعة
الشمس لتنذر بالموت وهى مصدر الحياة.
التصوير ليس بالألوان ولا بالأبيض والأسود، وليس بالأبيض والأزرق
«لونا الموت»، وإنما بدرجات من البنى والأصفر تعبيراً عن القلق
الوجودى للشخصية المحورية، وهى الابنة، الناطقة باسم المؤلفة.
وحركة الكاميرا وصفية تتناسب مع المعنى، وتتناسب مع أحجام اللقطات
للسرد الوصفى، وهى لقطات طويلة تحقق غرض الدعوة إلى التأمل، ولا
تقل المشاهد شبه التسجيلية للشارع درامية عن المشاهد التمثيلية
داخل وخارج البيت. ومثل كل أسلوب لا يستمد أسلوب «الخروج للنهار»
قوته من الاختيار الدقيق لمفردات لغة السينما التى تكون عناصره،
وإنما أيضاً من استبعاد عناصر أخرى، وأهمها استبعاد الموسيقى من
شريط الصوت، فالموسيقى هنا هى موسيقى الصوت والصورة والضوء والظل،
وليست موسيقى الآلات الموسيقية.
كلاسيكى فى الشكل رومانتيكى فى المضمون ونموذج للسينما الخالصة
بقلم سمير
فريد
٦/
٥/
٢٠١٤
«الخروج للنهار» إخراج هالة لطفى، الذى يعرض الآن فى القاهرة
والإسكندرية، فيلم كلاسيكى من حيث الشكل، أى فى محافظته على
الوحدات الدرامية الثلاث. كما وضعها أرسطو فى القرن الخامس قبل
الميلاد، وهى الزمان والمكان والموضوع، فالزمان دورة شمس واحدة، من
صباح يوم إلى صباح اليوم التالى، والمكان بيت لا نغادره إلا إلى
الشارع والمستشفى، والموضوع هو الوجود الإنسانى بين الحياة والموت.
«الخروج إلى النهار» العنوان الأصلى للكتاب المصرى القديم «الفرعونى»
الذى عرف باسم «كتاب الموتى»، ويعنى أن الموت خروج إلى حياة أخرى،
وأنها النهار، كأن الحياة عبور من الظلام، وهكذا تفلسف المصريون
القدماء تجاه الموت، وهكذا عبرت هالة لطفى من خلال البيت الذى
يحتضر فيه الأب طوال الفيلم، ولا فرق بينه وبين المقبرة، ومن أول
لقطة فى الصباح المبكر يتم فتح النوافذ والشرفات ليدخل النهار
ممثلاً فى أشعة الشمس، منذراً بالموت الذى يأتى فى النهاية من دون
أن نرى موت الأب، وإنما نرى الأم تجدد مرتبة فراشه «تنجيد القطن»،
والابنة تسأل أين سيدفن، وأين تقع مدافن الأسرة؟
والابنة شخصية رومانتيكية تبحث عن معنى الحياة والموت والحب والكره
والقوة والعجز، وتلجأ إلى الدين ممثلاً فى ذهابها ليلاً إلى مسجد
الحسين، ولكنها تتوه بين أسوار القاهرة الإسلامية القديمة، وعلى
شريط الصوت نستمع إلى أصداء أناشيد صوفية تأتى من بعيد تمتدح
الرسول وتنادى أرحم الراحمين.
إنها ترفض الراديو والتليفزيون، وتفضل أن تختار الشريط الذى تسمعه
بإرادتها، وكما يحب والداها أغانى أم كلثوم، تحب هى أغانى
عبدالوهاب، وعندما تشترك مع والدتها فى علاج «قرحة الفراش» على جسد
والدها، لا نعرف الفرق بين هذه المعالجة و«تغسيل» الجسد بعد الموت،
وعندما تغضب من الملاءات البيضاء التى تأتى بها أمها من المستشفى
قائلة كم ماتوا عليها، لا نعرف الفرق بين هذه الملاءات والأكفان
البيضاء، وعندما تذهب إلى محل لبيع الأجهزة الطبية تسأل عن ثمن
المرتبة الصحية، نرى الأطراف الصناعية، ولا نعرف الفرق بينها وبين
الأطراف الطبيعية.
يدرك الأب العاجز فى صمته أنه أصبح عبئاً على زوجته وابنتهما، وهما
تهتمان برعايته بحب وتتفانيان فى خدمته، ولكنهما فى نفس الوقت
تتألمان من الشرط الذى وضعا فيه، بل تغضبان أحياناً، ولكنه الغضب
حباً. أما عن كون الفيلم من السينما الخالصة، أو السينما عندما تصل
إلى مرتبة الموسيقى، أى التجريد المطلق، ولكن بلغة السينما
التجسيدية، فلها حديث آخر عن الأسلوب.
الفلسفة أعلى درجات الفكر والموسيقى أعلى درجات الفن
بقلم سمير
فريد
٥/
٥/
٢٠١٤
المعروف أن الفلسفة هى أعلى درجات الفكر، وأن الموسيقى هى أعلى
درجات الفن، وقد جمع الفيلم المصرى «الخروج للنهار» إخراج هالة
لطفى المتاح لجمهوره الآن فى القاهرة والأسكندرية بين الفلسفة
والموسيقى معاً، انس شاشة التليفزيون وشاشة الكمبيوتر وشاشة
الموبايل: هذا فيلم لا يتم تلقيه بشكل صحيح إلا على شاشة السينما.
يعبر الفيلم عن رؤية مخرجته وكاتبته لأكبر المشاكل الفلسفية، وهى
مشكلة الوجود الإنسانى، أو الحياة والموت من خلال معادل درامى
موضوعى نموذجى يقوم على ثلاثة أشخاص يمثلون ثلاثى الوجود (الأب
والأم والابنة). وبينما نعرف فى البداية أن اسم الابنة سعاد، نعرف
فى النهاية أن اسم الأم حياة، ولكلا الاسمين دلالة واضحة، إذ يبحث
الإنسان عن السعادة طوال حياته، أما الأب فهو شيخ مريض وعاجز عن
الحركة ومن دون اسم.
وعدم وجود اسم للأب له دلالته أيضاً، فمنه تأتى بذرة الحياة من
ناحية، وهو فى نفس الوقت فقد القدرة على الحياة، ومات عملياً وإن
لم يمت فعلياً، ويواجه الأب الموت بالصمت، كما عبر بيكيت فى
مسرحياته عن رؤيته لاستغلال الوجود والعدم عنده، وحتى لا يتصور
المتلقى أن الأب أبكم ينطق فى البداية بكلمات قليلة: أشعر بالضيق
والملل وأريد أن أنام، وهى كلمات دالة بدورها عن فقدان الرغبة
للاستمرار فى الحياة، وليس فقط القدرة على الاستمرار فيها.
ويمتد الصمت إلى الابنة التى تتفرغ لرعاية والدها، والأم التى تعمل
ممرضة فى البيت وفى المستشفى معا، فهما لا تنطقان طوال الفيلم إلا
بكلمات معدودة ونحن لا نغادر البيت إلا إلى الشارع مع سعاد، أو إلى
المستشفى حيث تعمل حياة، وحيث ينتقل الأب إلى العناية المركزة بعد
أن سقط من الفراش.
وتتكامل الرؤية الحزينة لما بعد الواقع مع رؤية الواقع فى البيت
والشارع حيث تعيش الأسرة فى حى فقير من أحياء القاهرة فى الزمن
الحاضر (زمن الفيلم) فيما يشبه الأطلال المتداعية، ومع العلاقات
الخاصة للابنة، فهى لا تتبادل الحب مع ابن خالتها الشاب المجند
ياسر الذى يحبها، وهى على علاقة مع شاب آخر، لا نراه أبداً، ولا
يرد على تليفونها تهرباً منها، فتقطع العلاقة معه، فالحب أيضا
«يبدو لغزاً» مثل الحياة والموت.
ويصل التعبير عن الواقع إلى ذروته فى مشهد واحد داخل «الميكروباص»
تستقله سعاد عندما تجد إلى جوارها فتاة فى مثل عمرها ترتدى الحجاب،
وتسألها: هل هى مسيحية لأنها غير محجبة؟ فترد: لا، فتقول الفتاة
إنها «ملبوسة» بالجن، وفى الطريق إلى كاهن فى كنيسة يعالجها، ثم
تطلب منها بعض المال، وتغادر السيارة على الفور. لقد خدعتها كما
خدعها الشاب الذى خرجت لتلتقى معه، وكل شىء سراب.
«الخروج
للنهار» أو الفن عندما يخرج من القلب والعقل وكل الحواس
بقلم سمير
فريد
٤/
٥/
٢٠١٤
هناك أعمال فنية تأتى من سطح جلد الرأس، وأخرى من القلب، وثالثة من
العقل، وهناك أعمال فنية تأتى من القلب والعقل وكل الحواس، ومنها
«الخروج للنهار» إخراج هالة لطفى، الذى يعرض الآن فى مصر بعد أن
طاف فى العديد من مهرجانات السينما، وفاز بعدة جوائز وتقدير
النقاد.
مختلف تماماً وجديد تماماً مثل «المومياء» إخراج شادى عبدالسلام،
ولكن بينما كانت الدولة المصرية وراء إنتاج «المومياء» من خلال
وزارة الثقافة، يأتى «الخروج للنهار» من الإنتاج المستقل، حيث أسست
مخرجته شركة صغيرة أطلقت عليها «حصالة»، وهو تعبير مصرى عن الصندوق
الصغير الذى يضع فيه الأطفال بقايا مصروفهم اليومى للادخار.
وكانت هالة لطفى على حق فى إنتاج فيلمها بدعم من هنا ورعاية من
هناك، وبأقل التكاليف، حيث يستحيل إنتاجه فى السوق التى تفرض
مقاييسها بالضرورة، وكلما قلّت التكاليف حصل الفنان على حريته فى
التعبير، خاصة فى المسرح والسينما، ومن المصادفات التاريخية أن
شادى عبدالسلام أخرج أول أفلامه «المومياء» وهو فى الأربعين من
عمره، وكذلك هالة لطفى فى أول أفلامها «الخروج للنهار»، أى بعد
خبرة عميقة فى الفن والحياة.
تخرجت هالة لطفى فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة
عام ١٩٩٥، وفى قسم الإخراج فى المعهد العالى للسينما بالجيزة عام
١٩٩٩، ومارست النقد السينمائى وهى طالبة فى المعهد، ولها الكثير من
المقالات الممتازة والمميزة، وعملت مساعدة للإخراج فى ثلاثة أفلام
روائية طويلة فى السوق، وأخرجت خمسة أفلام قصيرة تسجيلية وروائية
هى «كل ذلك الصوت الجميل» ١٩٩٨، و«رجاء عدم الانتظار» ١٩٩٩ من
إنتاج المعهد أثناء الدراسة، و«نموذج تهانى» ٢٠٠٠، و«صور من الماء
والتراب» ٢٠٠٢، و«عن الشعور بالبرودة» ٢٠٠٤، وسبع حلقات من المسلسل
التسجيلى «عرب أمريكا اللاتينية» إنتاج قناة الجزيرة من ٢٠٠٥ إلى
٢٠٠٦.
كانت الأفلام القصيرة فى العقد الأول من القرن الميلادى الجديد مثل
مقالات النقد فى التسعينيات، ممتازة ومتميزة، ولكن جاء الفيلم
الروائى الطويل الأول فى مطلع العقد الثانى أكثر من ممتاز ومتميز،
وإنما تحفة نادرة، والمعيار الأول للتحفة أن يأتى العمل الفنى
منفرداً ولا شبيه له، ولا يحيل المتلقى إلى أى عمل آخر: «الخروج
للنهار» وكأنك تشاهد السينما لأول مرة.
«الخروج
للنهار» تحفة من روائع السينما تتاح لجمهورها فى مصر
بقلم سمير
فريد
٣/
٥/
٢٠١٤
بدأ يوم الأربعاء الماضى عرض الفيلم المصرى «الخروج للنهار»، إخراج
هالة لطفى، فى أول أفلامها الروائية الطويلة، على ثلاث شاشات فى
القاهرة، وشاشة واحدة فى الإسكندرية، بعد نحو عامين من عرضه
العالمى الأول فى مهرجان أبوظبى عام ٢٠١٢، حيث فاز بجائزة أحسن
إخراج، وفاز بجائزة الاتحاد الدولى للنقاد (فيبريسى)، وكان أول
فيلم مصرى يفوز بهذه الجائزة فى تاريخ الاتحاد الذى تأسس منذ نصف
قرن ويزيد.
عرض الفيلم فى العديد من المهرجانات فى العالم العربى وأوروبا،
ومنها مهرجان برلين ٢٠١٣ أحد المهرجانات الكبرى الثلاثة فى العالم،
حيث عرض فى البرنامج الموازى «الملتقى»، وفاز فى مهرجان قرطاج
للأفلام العربية والأفريقية فى تونس بالجائزة البرونزية، وفى
مهرجان وهران للأفلام العربية فى الجزائر بالجائزة الذهبية، وفى
مهرجان ميلانو للأفلام الأفريقية فى إيطاليا بجائزة أحسن فيلم،
وحصل مصوره محمود لطفى على شهادة تقدير من لجنة تحكيم مهرجان
سالونيك الدولى فى اليونان. واستقبل الفيلم بحفاوة من النقاد العرب
والأجانب حيث عرض، واستحق هذا النجاح على الصعيدين العربى والدولى
بجدارة، فالفيلم تحفة من روائع السينما المصرية والعالمية، وما أقل
التحف فى السينما وكل الفنون فى مصر والعالم.
ليس من المهم ألا يجد «الخروج للنهار» سوى عدد من الشاشات يقل عن
عدد أصابع اليد الواحدة، وإنما الأهم أن يتاح لجمهوره فى مصر. وهو
جمهور محدود بحكم كونه فيلماً من خارج السينما السائدة تماماً، مثل
«المومياء» إخراج شادى عبدالسلام، وغيره من الأفلام التى تنتج على
هامش السوق، ولكن هذا الجمهور المحدود فى تقديرى ليس قليلاً، خاصة
فى القاهرة والإسكندرية، ويمكنه أن يجعل عشرين شاشة وأكثر «كاملة
العدد» لأسابيع، وإنما المشكلة فى أن يتم الاتصال مع ذلك الجمهور.
شاهدت الفيلم أثناء المونتاج، وفى عرضه العالمى الأول فى مهرجان
أبوظبى، وشاهدته فى أول أيام عرضه العام فى سينما «زاوية» بوسط
القاهرة، وهى أول دار عرض مصرية للفن والتجربة، أو بالأحرى أروع
زوايا السينما فى مصر، ومن مصادر الإشعاع الثقافى والحضارى التى
تأسست هذا العام، وكانت تلبية لحاجة حقيقية، وبعيداً عن وصول
الثورة إلى سوق السينما، وكان الجمهور عظيماً فى تلقى الفيلم وكأنه
فى متحف يشاهد اللوحات، أو فى الأوبرا يستمع إلى الموسيقى. ويا
عشاق الفن الرفيع: هذا فيلمكم.
كارثة المطالبة بعودة القطاع العام فى السينما
بقلم سمير
فريد
١/
٥/
٢٠١٤
كانت «مدرسة السينما المصرية» التى تكونت من نحو ألف فيلم روائى
طويل أنتجت من ١٩٣٣ إلى ١٩٦٣، متكافئة مع السينما فى أوروبا
وأمريكا وكل صناعات السينما الكبرى فى العالم، حتى إن مهرجان «كان»
منذ ١٩٤٦ كان يعرض فيلما أو فيلمين فى المسابقة حتى قطعت العلاقات
مع فرنسا بعد حرب السويس عام ١٩٥٦.
ومع إنشاء القطاع العام فى السينما عام ١٩٦٣ فى إطار «القرارات»
الاشتراكية عام ١٩٦١، بدأت السينما المصرية فى التراجع عن ذلك
التكافؤ مع السينما فى العالم، ولم يكن ذلك بسبب إنتاج القطاع
العام من أفلام، فقد أنتج أفلاماً سميت حرف «ب»، وهو مصطلح
الستينيات الذى يعادل أفلام مقاولات الفيديو فى الثمانينيات، وأنتج
أفلاماً من روائع السينما فى نفس الوقت. وإنما كان ذلك لأنه فى
الوقت الذى شهد فيه فن السينما فى الستينيات أكبر وأهم حركات
التجديد فى كل تاريخه من البرازيل إلى اليابان مروراً بباريس ولندن
وروما والمجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا، بدأت مصر عصر توجيه
السينما على الطريقة السوفيتية فى الثلاثينيات، والتى كانت روسيا
ذاتها قد بدأت التمرد عليها بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى عام
١٩٥٦.
بدأ توجيه السينما لإنتاج أفلام الدعاية السياسية بواسطة الدولة
بعد الثورة الشيوعية فى روسيا عام ١٩١٧، ثم مع صعود الفاشية فى
إيطاليا فى العشرينيات، واحتدام الصراع السياسى الذى أدى إلى الحرب
العالمية الثانية فى الأربعينيات. وأفلام الدعاية السياسية ليست
رديئة فنياً بالضرورة، بل إن بعضها من أعظم كلاسيكيات الفن
السينمائى مثل أفلام إيزنشتين، ولكنها تهدر الكثير من طاقات
الفنانين فى التحايل على الضغوط التى تمارسها الدولة كمنتج يستخدم
السينما كوسيلة، ولا تعنيه حرية القضايا فى كثير أو قليل.
وقد كان القطاع العام للسينما فى مصر أول قطاع عام توقف عن الإنتاج
عام ١٩٧١ بعد أن تولى السادات السلطة وبدأ تغيير نظام «القرارات»
الاشتراكية. وفى عهد مبارك انتقلت أصول القطاع العام من الأفلام
ودور العرض والاستديوهات التى أممت أو نزعت ملكيتها أو وضعت تحت
الحراسة من وزارة الثقافة إلى ما سمى قطاع الأعمال وبالتحديد إلى
شركة الإسكان والفنادق، وهو أمر ليس له مثيل فى العالم ولا فى
تاريخ السينما منذ اختراعها.
وفى الشهر الماضى اتخذ مجلس الوزراء قراراً بإعادة هذه الأصول إلى
وزارة الثقافة، وارتفعت بعض الأصوات التى تعيش فى الماضى لتطالب
بعودة الدولة إلى إنتاج الأفلام، بدلاً من دعم الإنتاج كما فى كل
الدول الديمقراطية، وتلك كارثة محققة، ولكن ربما تكون هذه الأصوات
مناسبة للوضع القائم، وكم هو طويل وصعب الطريق إلى الديمقراطية.
samirmfarid@hotmail.com |