رغم
إخفاقاتها الأخيرة
سينما الوسترن على موعد جديد مع هواة قصص الغرب
وديكابريو
لندن: محمد رُضــا
على الرغم من أن قلة من المشاهدين، نسبيا، اكترثت لفيلم «مليون
طريقة للموت في الغرب» الذي انطلقت عروضه في مطلع الشهر الماضي،
واكترثت أقل لفيلم «ذ لون رانجر» الذي شهد عروضه قبل سنة تامة، إلا
أن العمل على «المبعوث«The
Revenant
سينطلق ليكون جاهزا للعرض في مطلع العام المقبل.
الجامع بين هذه المشاريع الثلاثة هو أنها أفلام «وسترن». الأول
كوميدي النبرة من بطولة وإخراج سث ماكفارلان، الثاني مغامرات
عشوائية الشكل من بطولة جوني دب وإخراج غور فربينسكي، أما الثالث
فهو من إخراج أليخاندرو غونزاليز إناريتو ومن بطولة ليوناردو
ديكابريو وتوم هاردي.
إلى جانب أن المخرج الثالث هو أفضل من المذكورين السابقين معا،
هناك تحد ملقى على عاتق صاحب «بابل» و«بيوتيفول» و- الفيلم الأشهر
- «جاذبية». فهو يدفع باتجاه نوع من الأفلام بات محدود القدرة على
الجذب ولولا اسم إناريتو ونجاح فيلمه الخيالي العلمي المبهر الأخير
لما قررت إحدى شركات هوليوود «نيو ريجنسي» توظيف عشرات ملايين
الدولارات (إن بقيت الميزانية دون المائة ألف) في شكل سينمائي
استنفد نجاحه الكبير مع نهاية السبعينات.
الحال، بالنسبة لأفلام الوسترن، لم يكن هكذا مطلقا. في الثلاثينات
والأربعينات والخمسينات، كان نصف الإنتاج الأميركي هو من هذا النوع
تحديدا. الإقبال عليه كان مثل الإقبال على أفلام الخيال العلمي
اليوم أو الهواتف الذكية حاليا. هو الذي صنع صرح مخرجين كبارا في
تاريخ هوليوود مثل جون فورد وراوول وولش وهوارد هوكس وبد بوويتكر
وأنطوني مان ودلمر دافز وسواهم الكثيرون. والنوع هو جعل من راندولف
سكوت وجون واين وأودي مورفي وهوبيلانغ كاسيدي وعشرات آخرين نجوما
فوق الريح.
فيلم «الوسترن» هو النوعية الأميركية الصافية. هو كل ما لدى أميركا
تقديمه من تاريخ خاص بها، ففي حين تستطيع السينمات الأوروبية
الحديث عن تاريخ أبعد منالا، الغرب الأميركي وحروب السيطرة عليه
ونشوء النزاعات الجماعية والفردية والطينة البكر التي بلورت كل ما
هو «أميركانا» لاحقا ولد في نحو قرنين من الزمان سبق مباشرة حرب
الاستقلال ثم الحرب الأهلية وتواصل إلى العقود العشرة الأولى من
القرن العشرين.
الوسترن هو أميركي، مثل السباغتي بالنسبة لإيطاليا وشانيل بالنسبة
لفرنسا ولندن بريدج بالنسبة لبريطانيا. وكل سينما في العالم تصنع
الفيلم الكوميدي والعاطفي والبوليسي والمرعب والموسيقي والدرامي،
السينما الأميركية وحدها هي التي تصنع الوسترن أميركيا وعلى أصوله.
أما المحاولات التي تمت في ألمانيا أو إيطاليا أو إسبانيا في
الستينات فهو تقليد يصل إلى درجة الهزر، أما الوسترن الأميركي فهو
النوع الأميركي الخالص في السينما. ليس فقط لأنه انطلق من عام 1903
بفيلم «سرقة القطار الكبرى» لأدوين س. بورتر بل أساس لأنه نوع
يستند إلى التاريخ ذاته. هكذا كانوا. هكذا حاربوا. هكذا تصرفوا.
هكذا كانوا أبطالا وهكذا كانوا أشرارا هكذا حملوا المسدسات حول
خصورهم، وارتدوا القبعات العريضة فوق رؤوسهم.
*
حين أخفق المثقفون
*
في زمن مضى، ربط الكثير من المثقفين العرب وعدد كبير من المثقفين
في الغرب، بين سينما الوسترن وبين الإمبريالية متمثلة بالولايات
المتحدة التي تحاول خلق حالة رواج للبطل الأميركي وجعله نموذجا
يحتذى به. لكن المسألة ليست بهذه البساطة والتجريد، ولا هي على هذا
النحو من التعميم الذي يطلقه المرء ويمضي عادا أن رصاصته الطائشة
أصابت الهدف المقصود.
الوسترن الأميركي كأي نوع من أنواع السينما الروائية، عبارة عن قصص
تروى وشخصيات تؤديها وأفكار تتناقلها الصور. ما في داخل القصص وما
تعكسه تلك الشخصيات من مواقف وما تعبر عنه تلك الصور هو أمر لا
علاقة له بما يعتري الموقف المتطرف سواء أكان مؤيدا لها أو معارضا.
أفلام الوسترن حفلت بأنواع من المواضيع: أفلام الصراع بين
المستوطنين البيض وأصحاب الأراضي (الهنود الحمر)، أفلام الحرب
الأهلية وما تخللها أو تلاها، أفلام رعاة البقر (وهي فئة من الفئات
وليست كل الفئات كما درج البعض على اعتبارها لأنها تدور بطبيعة
الحال حول رعاة بقر)، أفلام المدن حيث الصراع بين الأخيار والأشرار
يدور داخل البيئة الاجتماعية ذاتها. وهناك الوسترن الجاد، والوسترن
الهزلي، والوسترن الغنائي، والوسترن النفسي والوسترن المعادي للغرب
وذلك القائم على الحركة وحدها.
إلى كل ذلك، فإن النظر إلى البطل على أساس أنه كان يسعى لنشر
البطولة الأميركية كنموذج للعالم، كما كان يقال، تجده في معظم
الأحوال قاصرا. فالحال أن معظم أبطال الغرب الأميركي هم من
المهزومين اجتماعيا، من المتضررين ماديا، من الذين هربت أيامهم
الماضية مندثرة بين أصابعهم وما زال المستقبل بعيد الحدوث. أبطال
الغرب يسعون إلى تأسيس عدالة ليس من الضروري أن تعني شيئا لأي
مجتمع آخر ولا تتعدى دلالاتها حدود ولاية أريزونا أو تكساس أو
وايومنغ، ولا حتى حدود أي مدينة قديمة في أي من هذه الولايات.
وهي أفلام تقول الكثير ضد أميركا ونشأتها التي بنيت، حسب الكثير من
الأفلام ومن دون تدخل فيما تقول، على الجشع والسرقة ونهب الأراضي
وسرقة المواشي والعنف وسطوة الجريمة.
ومع أن هناك أفلاما من نوعية البطل الذي دائما على حق (ما يجعله
غبيا في القراءة المعمقة) إلا أن هناك أفلاما ضد هذا النوع من
الأبطال، وضد الإنسان الأبيض الذي غزا الغرب وقضى على حضارة
القبائل التي عاشت فيه وحاربها وقتل ملايين منها.
هبوط اضطراري
سينما الوسترن كانت الأكثر انتشارا بين أنواع السينمات الأخرى
(البوليسي والعاطفي وأفلام الرعب والخيال العلمي). في النصف الثاني
من الخمسينات تأثر قبل سواه من الأنواع بالهجمة التي شنها
التلفزيون على هذا النوع فحصد الكثير من الوجوه التي لعبت أدوار
البطولة أو الأدوار المساندة وصنع مسلسلات كثيرة كلها راجت لفترات
قصيرة أو طويلة مثل «رد رايدر» و«هوبلانغ كاسيدي» و«آني أوكلي»
و«مغامرات رن تن تن» في الخمسينات و«رانغلر» و«آوتلوز» و«روهايد»
و«الفرجيني» في الستينات (وهناك مئات سواها).
على ذلك، لم يتوقف «وسترن» الشاشات الكبيرة. هوليوود حاربت لأجل
دعمه مما جعله ينتقل من مجرد أعمال صغيرة ومتوسطة الإنتاج في
الغالب إلى أفلام مكلفة ترصع بالنجوم على الرغم من أن عدد المنتج
من هذا النوع تضاءل عما كان عليه سابقا إنها الفترة التي بدأنا
نشاهد فيها جون واين بالألوان، والفترة التي ولد فيها سينمائيا
كلينت أيستوود. كذلك هي الفترة التي توقفت - عمليا - هوليوود عن
تصوير البطل المطلق أو التعامل فوقيا وعنصريا مع المواطنين
الأصليين. وهذا المد استمر إلى نهاية السبعينات ثم توقف في
الثمانينات.
هوليوود حاولت إبقاء العلاقة بين هذا النوع وبين المشاهدين الجدد
(المراهقين والشبان) قائمة في الثمانينات والتسعينات فعمدت إلى جعل
أبطالها مجموعة من النجوم الشبان بمواضيع لا تحمل أي عمق يذكر
وبشخصيات تشابه شخصيات الممثلين الذين يقومون بأدائها لدرجة
التماثل. فقط المكان والزمان مختلفان، أما تصاميم الشعر والنظرات
والابتسامات فكلها من نوع أغلفة المجلات. من بين هذه الأفلام
«فتيات سيئات» (1994) و«وايلد وايلد وست» (1999) من بين أخرى.
فيلم واحد من ذلك الحين تجرأ على أن يكون جادا وهو «جيرونيمو:
أسطورة أميركية» لوولتر هيل الذي استخلص من التاريخ الأميركي تلك
الحرب الكبيرة التي قادها زعيم الأباتشي جيرونيمو ضد الجيشين
المكسيكي والأميركي بمجموعة محاربين لم تتجاوز 35 فردا لأكثر من
سبع سنوات.
حين فشلت محاولة صنع رواج من هذه الأفلام توقف ضخ المزيد من
الأفلام. كلينت إيستوود أخرج «غير المسامح» وأخرج كڤن كوستنر
«الرقص مع الذئاب» ثم «سلسلة هضاب مفتوحة» لكن عدا ذلك قليلا، بل
نادرا ما ذهبت هوليوود في اتجاه الغرب الأميركي من جديد.
في عام 2007 أقدمت هوليوود على تحقيق فيلمين رئيسين هما «10:3 إلى
يوما» و«اغتيال جسي جيمس على يدي الجبان روبرت فورد». الأول بوشر
بعرضه تجاريا في الولايات المتحدة هذا الأسبوع، والثاني عرض في
مهرجان ڤنسيا الأخير وحصل براد بت عنه على جائزة أفضل ممثل.
النجاح كان محدودا لدرجة. أن فيلم الوسترن الأول بعد ذلك ظهر في
نهاية سنة 2010 عندما قامت المخرجة كيلي رايكهارت بتحقيق الفيلم
المستقل «اختصار ميك» تبعها الأخوان جوول وإيتان كوون بفيلم «عزم
حقيقي». منذ ذلك عام وحتى 2013 تم تحقيق خمسة أفلام أخرى من تلك
التي عرضت سينمائيا بينها «دجنغو طليقا» لكوينتين تارنتينو و«ذا
لون رانجر» لغور فربينسكي. لا يدخل في هذا العدد بضع عشرات من
أفلام الوسترن الصغيرة التي توجهت إلى أسطوانات الديجيتال.
لكن هذا الاستمرار الصعب وحده يدل على أن الوسترن لم يمت تماما وأن
هوليوود تستطيع أن تستمع إلى مشروع جديد إذا ما توفرت له العناصر
الصحيحة.. على ذلك، هذه العناصر ليست ضمانا وعليه لا يمكن توقع أن
تعود عقارب السينما لتلائم عقارب القرن التاسع عشر حيث دارت رحى
أكثر أفلام الوسترن نجاحا |