كوثر بن هنية مخرجة تونسية نجحت وهى في مستهل مشوارها الإبداعي أن
تلفت إليها الأنظار بقوة خصوصاً بعد فيملها الروائي الطويل "شلاط
تونس" 2013 الذي شاركت به في عدة مهرجانات ومنها الدورة 67 بمهرجان
"كان" 2014 ضمن برنامجACID
وكالة نشر أفلام السينما المستقلّة. كذلك سبق للمخرجة أن قدمت
شريطاً روائياً قصيراً لافتاً بعنوان "يد اللوح"، إلى جانب
الوثائقي "الأئمة يذهبون إلى المساجد". بينما كانت على وشك
الانتهاء من تصوير فيلمها الجديد ومنذ أيام قليلة حصلت بن هنية على
جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فيلمها "شلاط تونس" في مهرجان
الجزائر الثاني للسينما المغاربية، كما حصل فيلمها القصير "يد
اللوح" على جائزة أحسن فيلم من مهرجان دونسان آرت في فالنسيا في
أسبانيا.
يعد "شلاط تونس" في تقديري فيلما سينمائياً ثورياً في شكله
ومضمونه، ويجب تدريسه في المعاهد السينمائية لأنه ينتمي للأعمال
العابرة للنوعية المصنوعة بمهارة ومستوى فني راق، فهو ليس روائياً
خالصاً كما أنه ليس وثائقياً تماماً، وإن كان يرتدي ثوب الوثائقي.
هو عمل يجب تدريسه للطلاب ولعشاق السينما لتأمله ولإدراك كيف يمكن
أن يُوظف الشكل لخدمة المضمون، إذ ينطلق الفيلم من واقعة الشلاط
ذلك الرجل المجهول الذي كان يتجوّل على دراجته في شوارع تونس عام
2003 ويضرب النساء اللائي يمشين على أرصفة المدينة بشفرة سكين على
أردافهن، ثم تنساب الدراما – بشكلها الوثائقي والروائي - في الفيلم
لتسائل الواقع التونسي مجتمعيا وسياسياً، ولتكشف عن أوضاع المرأة
فيه، وعلاقتها بالرجل ونظرته إليها. ولأنه بالفيلم يختلط على
المتلقي الأمر فيما يتعلق بالوثائقي والروائي إلى حد الالتباس
الجميل والمدهش لذلك أجريت هذا الحوار مع المخرجة الواعدة حول
كواليس فيلمها ومشاهده:
·
السخرية سمة تميز فيلميك "يد اللوح"، و"شلاط تونس" وإن كانت في
الأخير سخرية يمكن وصفها بالكوميديا السوداء .. من أين اكتسبت تلك
الروح؟ وهل تحرصين أثناء الكتابة على غرس بعض المواقف الساخرة من
أجل جذب الجمهور؟
أعتقد أن روح الدعابة التي يمكن أن تصبح سخرية سوداء هي سمة موجودة
عند شعوبنا العربية لمجابهة الأشياء القاتمة، فروح الدعابة هي إحدى
طرق المقاومة، وتحطيم الأصنام الفكرية.. إنها حيلة الضعفاء وغير
القادرين على المساهمة في التغيرات الكبرى، ونظراً لأن السينما لا
تغير العالم - ولكنها تفعل ما هو أفضل، اذ تُغير طريقة رؤيتنا
للعالم - فالدعابة والسخرية السوداء تروض الواقع وتمنحنا مسافة
وفرصة لنبتعد قليلاً عن الأشياء لذلك أحبذها فلنضحك جميعا مما لا
يطاق عسى أن نجد متنفسا.
·
في "يد اللوح" استعدت شقاوة طفولتك وطورتي الفكرة وصنعت فيلماً
جميلاً... فكيف ومتى بدأت معك فكرة "شلاط تونس"، أو ما الذي أوحى
إليك بالفكرة؟
فكرة الشلاط جاءتني من حدث عابر شغل الشارع التونسي خلال صيف2003،
والغريب في الأمر أن هذا الحدث العابر وقع كذلك في عدة بلدان
عربية أخرى ففي مصر كان اسمه سفاح المعادي، وفي المغرب كان اسمه
مولى البكيالة، وكأنه مرض معدي يطفو على السطح من حين الى أخر في
مدينة ما وجب أن تتوفر فيها بعض الظروف ليعود الشلاط من جديد.
·
أين كانت أحاسيس ومشاعر كوثر بن هنية من أحداث الشلاط 2003، هل
أصابك الخوف أو ظل معك لفترة، أم كيف تلقيت أنت وأفراد عائلتك تلك
الأنباء وقتها؟
لا.. لم أصب بالخوف، لكن الشلاط شكل لغزا محيرا بالنسبة لي، ظل
لغز يخبئ أشياء عميقة يمكن أن تطلق العنان لخيال تآمري جامح.
·
عندما بدأت تختمر فكرة الفيلم في ذهنك هل قررت صياغتها في قالب
روائي منذ البداية، أم أنك بعد البحث وجدت صعوبة في تنفيذها بشكل
وثائقي خالص؟
في البداية كان لدي الرغبة في أن أقوم بوثائقي خالص على شاكلة
أفلام تقصي الحقائق، لكن الأمر كان أشبه بالمستحيل تحت حكم بن على،
فالواقع كان ملكاً للحزب الحاكم، يجمله كما يشاء لصنع بروباجندا
بليدة "فتونس بلد الفرح الدائم" -على حد تعبير أحد شعارات الحزب
-لا يمكن أن يعكر صفوها شلاط أو متعصب وإن حدث ذلك فيجب اخفاءه
وعدم الحديث عنه، لذلك توجهت نحو الصيغة الروائية، فكتبت سيناريو
فيلم روائي بحت، لكن بعد الثورة تمكنت من ممارسة فعل الاستقصاء
مستغلة رياح الحرية، فتحصلت على محاضر بحث الشرطة وأرشيف القضية
الحقيقية واكتشفت بعض المعلومات الحقيقية التي طعمت بها السيناريو
الروائي فجلال مثلاً وجدت اسمه وعنوانه في محاضر الشرطة كالمتهم
الأول في القضية وبحثنا عنه طويلا حتى عثرنا عليه في الحي الذي
يسكن فيه.
·
ومثلاً، الخبر الإذاعي في مستهل الفيلم، وقصة الفتاة زهرة التي
انتحرت بعد حادث السرقة، وقصة الضحية الموشومة التي قامت بتشليط
نفسها وادعت أن الششلاط هو من فعل هذا بها، هل كانت خصوبة الخيال
تلعب دورها بالكامل أم أن تلك الحوادث استندت على خيط رفيع من واقع
ما، سواء من الأرشيف أو التحقيق الاستقصائي؟
الخبر الإذاعي هو من تأليفي، كذلك قصة زهرة، وقصة الضحية الموشومة.
كلها أحداث روائية. فقد كان الأرشيف حول قضية الشلاط ضحلا، فقط
وجدت فيه بعض المقالات الصفية في ركن الأحداث العابرة تردد نفس
الرواية؛ مجهول على دراجة نارية، الشرطة أمسكت مشبوها فيه...
·
مشهدك ومعركتك مع الحارس أمام السجن عندما ذهبت للسؤال عن الشلاط
ورغبتك في تصويره بداخل السجن... أنا شخصياً التبس عليَّ الأمر..
فاتقان الممثل الذي قام بدور الحارس، وتلقائيته جعلتني أصدق أن
المشهد وثائقي. طبعاً الكاميرا المهتزة منحت الإحساس بأن اللقطة
مسروقة وبأن الكاميرامان يختلس التصوير. هذا إلى جانب أن توظيف
نظرات الحارس وكلماته الآمرة بأن توقفي التصوير قد منحت المشهد
مصداقية وواقعية كبيرة ورائعة.. فهل تحكي لي كيف بنيت هذا المشهد؟
بمعنى هل تم التصوير أمام السجن بالفعل؟ أم تم تصوير اللقطة العامة
فقط أمام السجن، ثم تمت إعادة بناء هيكل للسجن لاستكمال المشهد في
لقطة قريبة تبدأ مناسم السجن؟؟..
المشهد روائي بحت. اشتغلت مع الممثل لبعض الوقت لجعل ردوده تبدو
عفوية وصورنا أمام سجن حقيقي بترخيص من وزارة العدل لدرجة أنه
أثناء التصوير جاءنا بعض حراس السجن لتجاذب أطراف الحديث وقالوا
لي أن المشهد غير واقعي لأن الحارس الممثل لحيته ليست محلوقه كما
يجب وكما هو واجب على الحراس ورجال الشرطة، كما أن زيه لا يحتوي
على شارة وزارة العدل، وبالنسبة لنا كان الأمر طبيعي لأن الأزياء
الرسمية التي تعطى للتمثيل يجب أن لا تحتوي على الشارات الرسمية.
·
هل سمحت لك السلطات بالتصوير في بعض الأماكن بسهولة دون معوقات مثل
دار القضاء (حتى لو كانت اللقطة عامة، وعلى ما يبدو أن تصوير
الحوار مع المحامي تم خارجها) كذلك اللقطة العامة لنقطة البوليس
التي استفسرت فيها عن الشلاط واسمه؟
صورنا الفيلم على فترات زمنية متباعدة وللحصول على التراخيص
اللازمة كان الأمر يختلف من حكومة إلى أخرى في مشهد المحكمة كان
الترخيص ينص على ألا ندخل بالكاميرا إلى داخل المحكمة فتحدثت مع
المحامي من خلال قضبان المحكمة، هو في الداخل ونحن في الخارج، لكن
المشهد صور بالكامل أمام المحكمة.
·
ما هو مقدار الحرية التي أتاحتها لك الثورة في تنقيبك عن الشلاط،
وما وراء الشلاط؟ ممكن تعطيني أمثلة من خلال فيلمك؟
كما ذكرت سابقاً أن الثورة أتاحت لي فرصة الحصول على أرشيف القضية
و فهم ما وقع فعليا في تلك الفترة كما أن الثورة سمحت لي بتصوير
الفيلم برخصة تصوير رسمية من وزارة الثقافة. عندما بدأت العمل على
الفيلم قبل الثورة مع حبيب عطية منتج الفيلم التونسي قررنا أن
نصوره بطريقة سرية وألا نطلب دعماً مالياً من وزارة الثقافة
التونسية والتي تُعد المصدر الوحيد لتمويل الأفلام التونسية على أن
نتقدم بطلب للحصول على ترخيص لتصوير شيء أخر دون الإشارة إلى فيلم
الشلاط، لكن بعد الثورة تمكننا من الحصول على الترخيص وعلى الدعم
المالي حتي وإن كان دعماً لإنهاء المشروع.
·
ما هي طبيعة المشاكل والصعوبات التي كان من الممكن أن تواجهك لو تم
التصوير قبل الثورة؟
كان من المتوقع أن تكون المشاكل أمنية، اذ أن وجود كاميرا في
الشارع قبل الثورة كان أمراً يثير الريبة، ويستوجب من الشرطة أن
تقوم بالتفتيش في نوايا المصورين.
·
هل هناك شخصيات اعترضت بعد تصويرها مما اضطرك للحذف؟
لا لم يعترض أحد، لكني حذفت العديد من الشخصيات التي صورتها ولم
أجد لها مكاناً في الحبكة النهائية للفيلم، كما أن العديد من ضحايا
الشلاط لم يوافقوا أساساً على الحديث أمام الكاميرا.
·
هل كنت تتعمدي مفاجأة الناس في الشارع أو المقهى أحياناً
بالكاميرا؟
نعم مشهد المقاهي في أول الفيلم هو كاميرا تتجول في الشارع وفي
المقاهي
·
آراء الشخصيات في المقهى بدت لي حقيقية واقعية باستثناء الشخص الذي
قال: "أنا رجل وعندي غرائز فلما أغتصبها محدش يلومني." بعد تأمله
طويلاً ومشاهدته أكثر من مرة يخبرني إحساسي الدفين بأن طريقة
كلامه، وأسلوبه وأدائه تمثيلي، وكأنك دفعت به لقلب المشهد ليكون
بمثابة العنصر المحفز الذي يساعد على تفعيل الوسط، كأنه الخميرة
ليجعل الآخرين يقولون ويعترفون؟ فهل هذا صواب أم تراني بالغت في
تقديري؟
نعم، هناك مبالغة، اذ أن هذا الشخص حقيقي، كان يسترق السمع حينما
كنت أتحدث مع العجوز ذي القبعة ودخل في المشهد للإجابة على السؤال
المحرج الذي طرحته على العجوز :"امرأة مش مستورة تتشلط؟» ففاجئني
بأدائه الواثق من نفسه وتفاعلت معه.
·
الحقيقة أن شعوري كأنك أخذت كل اللقطات من المرة الأولى من فرط
تلقائيتها وبكارتها، ومع ذلك أسألك عن المشهد السابق والمشاهد في
المقهى والكاستنج والشارع.. هل أخذت ردود الفعل من المرة الأولى،
أم كان هناك اضطرار للإعادة أحياناً؟ وكم استغرقت فترة التصوير
عموماً؟
في المقاهي صورت مادة طويلة واخترت أحسن ما فيها. لم أكن مضطرة
لإعادة المشاهد لأنها تكاد تكون من المشاهد القليلة الوثائقية
الصرفة في الفيلم. أما المشاهد الأخرى المكتوبة فقد اشتغلت مع
الممثلين مطولا لجعل آدائهم عفويا وقد أعدنا المشاهد مرات عديدة ة
حتى يتخلصون من كليشيات التمثيل. التصوير كان على مراحل عدة. هناك
مشاهد تعود إلى عام 2010، لكن التصوير الفعلي بدأ في نهاية 2011،
ثم في بداية 2012، ثم عندما تم اعتقال جلال ودخل السجن من أجل
قضية سرقة خلال التصوير وكنا لم نصور معه المشهد الأخير الذي تدور
أحداثه في السجن كذلك، فاضطرينا أن نوقف التصوير لننتظر أن يبت
القضاء في قضية جلال ووكلنا له محاميا ولم يخرج من السجن إلا بعد
سنة أي في بداية 2013، صورت خلال هذه الفترة من الانتظار فيلم يد
اللوح، ثم أكملنا معه التصوير، فعمليا هناك لقطات في قلب بعض
المشاهد صورت بفارق زمني لمدة سنة.
·
قطعاً هناك لقطات كثيرة ساحرة بالفيلم، لكن دعيني أركز على ثلاث
لقطات استثنائية في صدقها؛ عندما نرى فتاة ترتدي فستان قصير تسير
في الشارع وتلفت أنظار رواد المقهى وشاب يلتفت خلفه ليتأملها بعد
أن تجاوزته.. وسؤالي عن رد فعل هذا الشاب، وكذلك عن رد فعل صبي
المقهى الذي يمسك الصينية ويطبل عليها، فهل جاءا بشكل تلقائي على
افتراض انك حركت الممثلة ودفعت بها لقلب المشهد بينما وضعت
الكاميرا بعيدا ترصد ردود الفعل أم أن ذلك تم بتدبير مسبق منك مع
كافة الأفراد؟ بمعنى آخر هل كانت تلك اللقطتين هدية سماوية غير
متوقعة أم كانتا من وحي خيالك وتأملاتك؟
نعم دفعت بالفتاة إلى للشارع وقمت بالتصوير، صورت ردود فعل المارة
مرات عديدة إلى أن تحصلت على هذه اللقطة. الكاميرا كانت بعيدة
فتصرف الشاب بعفوية.
·
مشهد الكاستنج.. الخوف المرسوم على وجوه الشباب عندما ظهر جلال
وبدأ التهديد، هل تركتي الشباب دون أن تخبريهم بقدوم الشلاط حتى
تحصلي على رد فعل تلقائي؟ أم أنك دربتي الشباب على أداء تمثيلي؟
في الحقيقة ردة فعل الشباب حين بدأ جلال بالتهديد هي من حيل
المونتاج، اذ أنه في الواقع كل مشاهد حواري مع جلال حين يصعد على
خشبة المسرح لم يكن الشباب موجودين. هي لقطة من ضمن لقطات عديدة
صورناها للحضور وتصادف أن كانت تعابير وجوههم في تلك اللقطة
تحديداً تتناسب مع ما يقوله جلال. مونتاج الفيلم كان طويلا وشاقاً
لأني صورت مادة غزيرة ومتشعبة.
·
كذلك فيما يتعلق بمشهد حوارات الشباب في الكاستنج.. لماذا التشليط؟
لماذا الأرداف وليس الوجه، لماذا استخدام الثوم؟ هل تركت المتقدمون
يجيبون على الأسئلة ويرتجلون؟ أم أنك صاحبة فكرة الثوم وأشياء
أخري؟ هل تحكي لي عن مشهد الكاستنج أعتقد أن به ممثلون وليسوا فقط
ناس حقيقيون؟
وضعنا اعلانا في جريدة للكاستينغ وتقدم بعض الشباب فيهم ممثلين
محترفين وهواة، وقد تركتهم في البداية يرتجلون، ثم حاولت تأطير
ارتجالهم وتوجيهه. كانوا يظنون أنه كاستينج عادي وبعد التصوير
أخبرناهم أنه مشهد من مشاهد الفيلم، وتم التعاقد معهم على هذا
الأساس. |