من بين الأفلام الوثائقية المهمة التي أُنجزت مؤخراً هو فيلم "لالش
النوراني" للمخرج الكردي العراقي آسو حاجي الذي يجمع بين مهنتي
الصحافة والإخراج السينمائي. وقد عُرض هذا الفيلم الناجح فنياً ضمن
فعاليات الدورة الثامنة لمهرجان لندن للفيلم الكردي. لقد شاهدت
فيلم "لالش النوراني" واستمعت بلغتة البصرية، وخطابه الجمالي الذي
ينطوي عليه. ولا أتردد في منح الفيلم درجة ممتاز أو أربعة نجوم ضمن
مقاييس الأفلام التي تنجز في بلد مثل العراق!
تقنية البناء الفني
استعمل المخرج آسو حاجي تقنيتين لا غير في إنجاز هذا الفيلم
الوثائقي وهما "الفويس أوفر" و"المقابلات الشخصية". وقد استطاع
بواسطة هاتين التقنيتين إيصال الرسالتين الفنية والفكرية إلى
المتلقي بغض النظر عن جنسيته سواء أكان عراقياً أم عربياً أم
عالمياً. لقد عمد المخرج في تقنية "الفويس أوفر" أن يؤثث الفراغ
الذي لم يملأه المتحدثون العشرة وقد تكررت أحاديث بعضهم غير مرة
خصوصاً بير خدر سليمان الذي قدّم استشارات متعددة لمخرج الفيلم إلى
جانب السيد شيرو بير فرمان.
يؤكد المخرج وكاتب السيناريو آسو حاجي بأن الإيزيديين هم كُرد
عِرقياً وتُعتبر ديانتهم الإيزيدية هي الأقدم في منطقة الشرق التي
وُصفت بأنها مهد الديانات، تماماً كما تُوصف ميسوبوتاميا بأنها
"مهد الحضارات". كما يعتبر الإيزيديين أقلية دينية قد يصل عددهم
إلى نصف مليون مواطن عراقي لكن آلافاً مؤلفة منهم قد تشرّدوا إلى
المنافي الأوروبية بسبب السياسات القمعية للدولة العثمانية من جهة،
وللسلطات العراقية من أخرى حيث تبعثروا في جمهوريات الاتحاد
السوفييتي السابق والعديد من الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا.
لا شك في أن المخرج الناجح يسعى للارتقاء بفيلمه إلى مستوى الوثيقة
التي لا يمكن دحضها بسهولة لذلك يتوجب عليه، خصوصاً إذا كان هو
كاتب السيناريو ومؤلف القصة السينمائية العامة للفيلم الوثائقي كما
هو الحال في هذا الفيلم. فكل الأنواع السينمائية سواء أكانت روائية
أم وثائقية أم قصيرة لابد أن تنطوي على قصص محددة لا تعوزها
الحبكة، ولا تفتقر إلى البناء الفني الرصين. من هنا ينبغي على
المخرج أن يبحث ويدقق في تعداد الإيزيديين العراقيين الذين يتمحور
عليهم الفيلم، وهل أن الرقم نصف مليون مواطن إيزيدي هو رقم دقيق
مئة في المئة؟ وإذا كان كذلك فما هي المصادر والمراجع التاريخية
التي اعتمد عليها؟
أشار المخرج إشارة عابرة إلى أن الإيزيدية هي استمرار للديانة
الميثرانية القديمة التي ظهرت خلال الحقبة السومرية ولكن الموسوعة
البريطانية تقول إن الإيزيدية هي ديانة توفيقية تجمع بين ديانات
متعددة ولعل أهمّ ما فيها أنها تركز على النور وتعادي الظلام، وهذا
ما لمسناه في تفاصيل هذا الفيلم. انتقل المخرج فجأة وعبر الفويس
أوفر أيضاً إلى الموقع الجغرافي لمعبد لالش النوراني وقال إنه يقع
بين ثلاثة جبال ويُعتبر المكان الأقدس لدى أتباع الديانة
الإيزيدية. كما قدّم لنا معلومات دقيقة عن هذا المعبد الذي يبعد
53كم عن محافظة دهوك، و10 كم عن قضاء شِيخان. ووفقاً للكتاب المقدس
للإيزيديين تعتبر لالش هي الخميرة لخلق الكون والحياة.
خلق الكون
عرّج المخرج منذ البداية على عملية خلق الكون التي تعتبر ركناً
مهماً في الديانة الإيزيدية حيث يؤمن الإيزيديون بفكرة خلق العالم
الشائعة لدى المسلمين. الأمر الذي يعزز وجهة النظر التوفيقية التي
أشرنا إليها تواً. أشار المخرج إلى طقس ليلة البراءة الذي تجري
وقائعه في معبد لالش أيضا وعرّفنا على المجموعتين اللتين يتكون
منها المجلس الروحاني وهما "جوقي ميري" و "بابا شيخ" الذين يطلقون
شواربهم ولحاهم ولا يُسمح لهم بتشذيبها لأسباب دينية.
يرينا المخرج طقساً آخر اسمه "قنطر" وينبهنا منذ بداية الفيلم إلى
أهمية "النبع الأبيض" والفتائل أو القناديل المُوقدة والرقص
والغناء على صوت الآلتين المقدستين وهما الناي والدف. كما يلفت
عنايتنا إلى الشعيرة الاحتفالية المقدسة "السماع"، ودور "الفقير"
الذي يكسو نفسه بخرقة وهو يمثل طاووس ملك وشيخ عدي والذي يتبعه
الرجال الروحيون السبعة في خط مستقيم، ثم يلتحق بهم سبعة آخرون.
تحاكي حركة "السماع" حركة الكواكب حول الشمس حيث يدور الرجال
الروحيون هنا على الأرض ويرقصون حول النار التي تمثل الشمس والضوء.
هؤلاء الروحيون هم كائنات صوفية عرفانية متواضعة يتحركون بانتظام
عجيب حول نار مضرمة وثمة امرأة تحمل صينية البخور بالقرب منهم،
ويجب ألا تنطفئ النار، ولا يذوي الفتيل. إن دعاء الشيخ عدي مستجاب
وأن ما يقوله هو الحقيقة.
اعتمد المخرج في بناء الفيلم على الشخصيات العشر المتكلمة التي لم
تستطع أن تقول كل شيئ دفعة واحدة. فكريم سليمان أول المتحدثين ركز
على اللهب الذي يمثل الشمس، وعلى الراقصين الأربعة عشر الذين
يدورون حول الشمس بمجموعتين تشير بمجملها إلى الكواكب التي تدور
حول الشمس. كما أشار المتحدث الثاني، وهو رجل دين لم نرَ اسمه على
الشاشة، إلى "الفقير" والخرقة السوداء التي يرتديها، وهي ذات
الخرقة التي يرتديها الصوفي. وهذه الفكرة مستقاة أيضاً من التصوف
الإسلامي. كما أن الإشارة إلى الكواكب قد تذكرنا بالطقوس البابلية
والصابئية أيضا.
معنى لالش
حسناً فعل حينما قدّم المخرج آراء متعددة بشأن معنى كلمة لالش
ودلالتها، وهو يقرّ سلفاً بأنها لا ترتكن إلى شواهد علمية
وإركيولوجية. فأحد هذه الآراء يقول بأن كلمة
(Lalish)
تتكون من مقطعين، الأول
(Lal)
والثاني
(Lish)
ويعنيان (الأخرس) و (الأطرش) على التوالي. ويبدو هذا المعنى مقنعاً
لأن على الناس الداخلين إلى هذا المعبد المقدّس أن يكونوا هادئين
كالخرسان، ولا يسمعون أي كلام كالطرشان، ويجب أن يكتفوا بالصلاة
إلى الربّ. أما الرأي الثالث فقد اختصره المخرج بأن مقطع
(La)
يعني (قرب) و
(Lish)
يعني (جسد)، فيكون المعنى (قرب الجسد). أما الرأي الرابع والأخير
فيربطه بالاسم السومري
(Lakish)
الذي يعني الضوء والحياة. وهذه التأويلات جميعها قريبة من الشعائر
والطقوس الإيزيدية. أما الكتاب الإيزيدي المقدس فيقول إن معنى
(لالش) هو خميرة الأرض والكون. كانت الأرض لا روح لها إلى أن هبطت
إلى لالش فنبتت الأشجار. أرض لالش مقدسة كلها لذلك يتوجب على
الإيزيديين أن يمشوا حفاة الأقدام ولا يطأون عتبات الأبواب احتراما
للالش. أما أكثر الينابيع قداسة فهو الينبوع الأبيض الذي يعتقدون
بأنه كان موجوداً قبل خلق الكون والحياة. كما يؤمنون بأن مياه
الينبوع الأبيض الذي لم تختلط مياهه بمياه طوفان نوح لذلك بقيت
صافية وبيضاء مثل الحليب الأبيض. فلاغرابة أن يستعملوها كخميرة
للبن والخبز. ويجب على كل إيزيدي أن يزور لالش أول مرة أن يتعمد
بمياهها وإلا فلا يعتبر إيزيدياً حقيقيا. وقد شاهدنا مشهد تعميد
الطفل الرضيع بالماء وكيف تمنّت له السيدة المعمِّدة حياة آمنة
مريحة.
لم تقل المتحدثة الثالثة التي عمّدت الطفل الرضيع أكثر مما قالوه
عن مياه الينبوع الأبيض وعن طريقتها في التعميد والاحتفال الذي
يعقب تلك العملية.
المراحل الثلاث
مرّت الديانة الإيزيدية بثلاث مراحل تاريخية مهمة، الأولى تعود إلى
حقبة ميثرا، وهي مرحلة عبادة الظواهر الطبيعية مثل الشمس، والقمر،
والنجوم، ولكل ظاهرة إلاهها لكن الإله الأكثر أهمية هو ميثرا أو
الشمس. أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التوحيد التي تبدأ مع مجيئ
إبراهيم الخليل. أما المرحلة الثالثة والأخيرة والتي تعتبر الأكثر
أهمية بالنسبة للإيزيديين هي مرحلة الشيخ عدي بن زفير هكاري الذي
قدِم من الشام إلى لالش حيث وحّد الإيزيديين بعد وقوعهم تحت سيطرة
المسيحيين لأكثر من قرن. كان شيخ عدي صوفياً وعرفانياً جدّد
الإيزيدية من خلال ضخّ الصوفية إليها. والتصوف يعني هنا إدراك الله
عن طريق التأمل والرؤيا. وأقام بالعديد من الإصلاحات التي تناسب
ذلك العصر ضمن الجالية الإيزيدية.
أكد بير خدر بأن الإيزيديين يعبدون الله ويؤمنون بالملائكة السبعة:
إسرائيل، جبرائيل، ميكائيل، غاردائيل، شمخائيل، عزازيل وإسرافيل.
وأن رئيسهم هو طاووس ملك الذي خُلق من نور الله ومن سرّه. لا يؤمن
الإيزيديون بموت الروح، فالجسد هو الذي يموت لأنه مخلوق من تراب
وإلى التراب سوف يعود. كما يؤمنون بتناسخ الأرواح ويشبهون هذه
العملية بتغيير الثياب وأن روح الله لا تتلاشى وإنما تنتقل من جسد
إلى آخر وفقاً لأعمالها ومآثرها.
ينظر الإيزيديون إلى الشيخ عدي التقي الورع بكثير من التبجيل
والتوقير والاحترام، فقد هبط من جبل هكاري وامتلك سر طاووس وكشف عن
كرامات ومعجزات كثيرة. وأجبر طاووس ملك كل الزوار أن يكونوا أتباع
الشيخ عدي الذي ضرب بعصاه صخرة صلدة فتفجّر منها الماء. وهذه إحالة
أخرى إلى الموروث الإسلامي.
تحدث نصرت بابا شيخ عن زمزم التي لم تكن موجودة عندما جاء الشيخ
عدي، وإنما كان هناك الينبوع الأبيض فقط حيث صام أربعين يوماً في
(جلخانة) وكان يتناول وجبات سحوره وفطوره في داخلها ثم تدفق الماء
النقي داخل هذا الكهف الذي لا يُسمح لأحد من غير الإيزيديين بدخوله.
يأخذنا المخرج بين متحدث وآخر إلى مفصل من مفاصل معبد لالش أو لبعض
الطقوس الدينية التي تُقام بين جنباته. فنفهم أن ضريح الشيخ عدي
يقع فوق زمزم المشار إليها تواً، هذا الضريح الذي يقدّسه
الإيزيديون، ويقومون بالطواف حوله، ويؤدون التراتيل الدينية تحت
قبة لالش، وبالإضافة إلى هذه القبة هناك قبتان أخريان وفي أعلى كل
منها هناك هلال تربط به قطع قماش خضراء وحمراء وبيضاء وصفراء.
في إحدى غرف مزار الشيخ عدي هناك جرار قديمة عمرها أكثر من ألف عام
مملوءة بالزيت المستقطر من أشجار الزيتون المقدسة في لالش حيث
يُستعمل لإيقاد الفتائل في مساءات الأربعاءات والجمع خلال
الاحتفالات والأعياد، فلالش يجب ألا تبقى من دون ضوء. فالنار لها
قداسة خاصة عند الإيزيديين والكُرد بصورة عامة وذلك يعود إلى زمن
الميثرانية عندما كان إله الشمس أكبر وأعظم إله مقدس، ولهذا فهم
يُوصفون أحياناً كعبدة للشمس والنار.
لا تخرج الصورة التي وضعنا فيها المتحدث السابع بابا جاويش عن فكرة
الشمس والنور التي تضيئ المناطق المظلمة. فالله هو النور، والشمس
هي نور الله كما أنها إحدى العناصر المقدسة الأربعة التراب والماء
والهواء والنار. وبما أن الشمس مقدسة فإن صلواتهم مرتبطة بها فهم
يتجهون نحوها في أوقات الشروق والغروب ويؤدون صلواتهم. أما قبل أن
يناموا فيتجهوا نحو معبد لالش ويؤدون الصلاة أيضاً، فلالش والينبوع
الأبيض مقدسان عند الإيزيديين مثل الشمس تماما.
الرموز والإشارات
يحتفي معبد لالش بعدد كبير من الرموز والإشارات المرسومة على
جدرانه بأشكال مختلفة من بينها الشمس والأفعى المقدسة، وصور لآلهة
معينة تمثل حقباً تاريخية محددة.
يتوقف الباحث قيصر عند بعض الرموز المرسومة على جدران لالش كالشمس،
وإله الخصب السومري، والأفعى المقدسة حيث يعود بير خدر للحديث عن
السبب الذي دفعهم لتقديس الأفعى، ففي زمن نوح ارتطمت سفينته بصخرة
فانثقب قاعها لكن الأفعى كوّرت نفسها في ذلك الثقب ومنعت السفينة
من الغرق لتنقذ البشرية من موت مؤكد. كما أن الأفعى هي رمز الحكمة
والمعرفة ولهذا نراها مرسومة على البوابات كما ترمز إلى الأبدية
والخلود.
تتسع دائرة الرموز لتشمل الطعام الإيزيدي أيضاً فـ "البارات" التي
هي نوع من أنواع الخبز الذي يصنع على شكل كرات صغيرة موادها من
منتجات لالش ومياه الينبوع الأبيض. ولا أحد يتدخل في صناعة هذه
البارات سوى عائلة الفقير كما لا يُسمح للآخرين الدخول إلى الكهف
الذي تصنع فيه البارات المقدسة من قبل شيخات، أو نساء عذراوات أو
رجال عزّاب، سوى الشيوخ وعائلة الفقير، وخدّام المعبد.
يذكر المتحدث التاسع فقير بارجاس أن هذه البارات مقدسة للإيزيديين
جميعاً، ولا يجوز القسم بها، كما أنها فأل حسن، وتحمي الإيزيدي من
الكوارث، فلا غرابة أن يضعها الإيزيديون في بيوتهم ويقبّلونها صباح
مساء في الاحتفالات الخاصة بهم. ثمة إشارة إلى أن شيخات لالش قد
هجرن الملذات الدنيوية وانقطعن إلى إرضاء الله، طاووس ملك والشيخ
عدي. كما كرسن حياتهن لإدارة شؤون المعبد وخدمة القائمين عليه.
يعرّج المتحدث العاشر بير سعيد في حديثه على "الفقراء" الذين منعوا
أنفسهم مثل "الشيخات" عن متع الحياة ولذاذاتها لأنهم يركزون أيضاً
على مرحلة ما بعد الحياة فلا غرابة أن يذلوا الأنفس والشهوات مثل
المتصوفة الإسلاميين والرهبان المسيحيين. ثمة نساء إيزيديات كثيرات
لعبن أدواراً حيوية في طقوس لالش واحتفالاتها فالأم شيرين خدمت
لالش 56 عاماً وهي تعمل كشيخة لكنها تقاعدت بسبب تقدمها في السن
ولم يعد بوسعها أن تؤدي مهماتها على الوجه الأكمل. ومكانة هؤلاء
الشيخات كبيرة في الحياة والممات على حد سواء. وثمة مشهد مؤثر
نشاهد فيه عازفي الدف والناي يعزفون موسيقاهم الجميلة إلى الموتى
الراقدين في قبورهم منذ سنوات طويلة.
حملات القمع والإبادة العرقية
لم يستطع المتحدثون العشرة أن يغطوا كل شيئ في الديانة الإيزيدية
لذلك عاد المخرج ثانية إلى تقنية الفويس أوفر وبدأ يتحدث عن
الطبقات الثلاث التي يتألف منها المجتمع الإيزيدي وهم الشيوخ
والبير والمريدون وأن الزواج محرّم بينها، كما أنهم لا يستطيعون
الزواج أحياناً من عائلات الطبقة الواحدة، وأكثر من ذلك فإن الزواج
محرّم بينهم وبين أتباع الديانات الأخرى. فالديانة الإيزيدية هي
ديانة مغلقة بامتياز، ولا تقوم على أساس التبشير غير أن بعض
الوثائق التاريخية تقول بأن بعض القبائل المسيحية قد تحولت إلى
الإيزدية ونظراً لحملات القمع والإبادة التي تعرض لها الإيزيديون
وأوشكت أن تقضي عليهم فقد أصبحو منغلقين ومعزولين ولم يسمحوا لأي
شخص من ديانة أخرى أن يلتحق بهم، كما لم يسمحوا لأعضائهم أن
يتحولوا إلى أي ديانة أخرى.
سلّط المخرج الضوء على معاناة الإيزيديين عبر التاريخ فلقد تعرضوا
إلى (72) حملة إبادة منذ زمن الزرادشتيين حتى نهاية الإمبراطورية
العثمانية التي قتلت منهم في حملة واحدة أكثر من (150) ألف إيزيدي،
كما اختفت نصوصهم المكتوبة ولم يبق منها سوى عدد ضئيل من التراتيل
الدينية المكتوبة التي تُعد من أقدم نصوص الأدب الكردي التي تعود
إلى 900 سنة في أقل تقدير. كما قدموا تضحيات كبيرة خلال حملات
الإبادة التي شنّها النظام السابق في أثناء عمليات الأنفال سيئة
الصيت التي عاثت فساداً بالحرث والنسل.
تعتبر الإيزدية إلى حدما ديانه عقلانية مرتبطة بالطبيعة. وعلى
المواطن الإيزيدي أن يحفظ لسانه وأن يتجنب السبّ والقذف، وأن يمتنع
عن النميمة، وأن ينأى بنفسه عن الكفر والتجديف.
تحتل المرأة الإيزيدية مكانة مرموقة في المجتمع وهناك شخصيات نسوية
تقية وورعة مثل خاتونة فخرة وستيا إيس، أُم الشيخ عدي التي لا يزال
قبرها شاخصاً قرب جلخانة الشيخ عدي في لالش.
الآلات الموسيقية
لا يتوانى المخرج آسو حاجي عن التذكير بأهمية الرقص والغناء
والموسيقى التي تعد من الشعائر المهمة في الديانة الإيزيدية ولعل
الناي والدف هما من بين الآلات الموسيقية الأكثر تقديساً
للإيزيديين فلقد صنعتهما الملائكة كما يزعمون لأنها تجتذب الروح كي
تدخل جسد آدم، فلقد قالت الروح: " لا أستطيع أن أستقر داخل جسد آدم
ما لم أسمع صوت الناي والدف".
ثمة مجموعة محددة تُعرف بالقوّالين وهي متخصصة في العزف على الناي
والنقر على الدف. والقوالون هم مثل الشيوخ والكبار والمريدين يرثون
منزلتهم الاجتماعية بالولادة. وهم يدرسوا هذه الآلات منذ الصغر
ويتقنوا الألحان ويجب أن يعرفوا أية قطعة تُعزف وفي أية مناسبة.
وهناك أنواع كثيرة من الألحان مثل سماع قانون وشرف الدين وزازا
وسماع شيشم وما إلى ذلك. والموسيقى الإيزيدية هي جزء أساسي من
الموسيقى الكردية.
في نهاية الفيلم يتوقف المخرج آسو حاجي عند نشأة الاسم الإيزيدي.
فالبعض يرى أنه انحدر من الكلمة السومريةEziday
التي تعني الطريق المستقيم ثم تحولت لاحقاً إلى إيزدان
Ezdan
ثم يزدان
Yazdan
مثلما تُستعمل من قبل الكرد كإشارة إلى اسم الله. ويؤكد المخرج بأن
الإيزيدية هي ديانة كردية مئة بالمئة وذلك هو السبب في أن هذه
اللغة تعتبر مقدسة بالنسبة للإيزيدي الذي يؤمن بأن آدم تكلم
بالكردية وأن الله تكلم معه بالكردية أيضاً وأنهم يؤمنون بأن أهل
الجنة يتكلمون هذه اللغة.
لا تجد الميثولوجيا الإيزيدية حرجاً في القول بأن آدم عليه السلام
قد خلق في لالش ثم أمره طاووس ملك أن يترك السماء، وأمره أن يزرع
الأرض، ثم قابل حواء في لالش التي تعتبر بالنسبة للإيزيدي رمزاً
للقوة والبقاء.
ينهي المخرج آسو حاجي فيلمه بسؤال جوهري مفاده: لماذا تعتبر لالش
مقدسة جداً بالنسبة للإيزيديين؟ ولماذا يزورها الإيزيدي بهذه
اللهفة؟ فيأتي الجواب عفوياً وسلساً: إذا لم تكن هناك لالش فماذا
يبقى للإيزيدي في هذا العالم؟ لالش هي المكان الأكثر قداسة
للإيزيدي وهي زهرة كردستان المتبرعمة.
لابد من الإشارة في خاتمة المطاف بأن ديانة قديمة ومنغلقة
كالإيزيدية لا يمكن اختصارها في فيلم واحد لا تتجاوز مدته58 دقيقة،
فأصل الإيزيديين وتاريخهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وشعائرهم وطقوسهم
الدينية تحتاج حقيقة إلى أفلام وثائقية متعددة كي تعطيها حقها.
وعلى الرغم من اكتظاظ فيلم "لالش النوراني" بالمعلومات التاريخية
الكثيرة إلاّ أن الفيلم ناجح من الناحية الفنية وقد تألق فيه كادر
الفيلم برمته بدءاً من المصورين، مروراً بالتقنيين، وانتهاء
بالرؤية الإخراجية للمخرج آسو حاجي الذي يعِد بالكثير من الأفلام
الناجحة مستقبلا. |