المخرج الجزائري احمد راشدي الذي يعرض فيلمه الجمعة ضمن فعاليات
الدورة الرابعة لمهرجان الفيلم العربي بعنوان (مصطفى بن بلعيد).
هو واحد من رواد السينما العربية القلائل الذين اخذوا على عاتقهم
الانتقال بالسينما العربية من محليتها الى أرجاء المعمورة، حيث
عرفته مهرجانات السينما العربية والعالمية بأفلامه العديدة اللافتة
وقطف عنها جوائز رفيعة، كما تناولتها أقلام النقاد بالثناء
والإعجاب والجدل حينا.
بدأ راشدي (مواليد العام 1938 ) العمل بالسينما مع المخرج الفرنسي
رينيه فوتييه الذي كان يعمل لصالح جبهة التحرير الجزائرية.
بعد الاستقلال عمل مع زملائه في تأسيس المركز السمعي البصري وعين
مديرا للديوان القومي للتجارة والصناعة السينمائية العام 1967 ومن
خلاله قدم التمويل لأفلام عربية مصرية ولبنانية–من بينها فيلم
(العصفور) ليوسف شاهين - حين عجز صناعها عن إنجازها لولا دعم
المركز الذي مثل نموذجا يحتذى في الإنتاج السينمائي العربي
المشترك.
حقق راشدي مجموعة من الأفلام القصيرة: (الاستفتاء) العام 1962 ،
(مسيرة شعب) ، (أيام الآحاد) ، (لجنة التيسير) ، (نية سنة الصفر)
وجميعها العام 1963 ، (الدرس ) 1967، (مشاكل الشباب) 1965، (أيادي
العصافير) 1966، (هذه كوبا) 1968 ، (الموضحين للتجسير) 1969.
وفي حقل الأفلام الطويلة أنجز: (فجر المعذبين) 1965 ونال عنه جائزة
مهرجان كارلو فيفاري العام 1965، (الأفيون والعصا) 1969، (لتحيا
الجزائر) 1972، (التورط) ، (نشيد الوداع)، (أرض السراب)، (كانت
الحرب) و(حليم في باريس) 1975، (مصطفى بولعيد) 2008.
عد فيلم (فجر المعذبين) من أهم أوائل الأفلام التسجيلية العربية
الطويلة وأكثرها تماسكا وتميزا على صعيد لغته الفكرية الفائقة في
القبض على الوثيقة التاريخية المأخوذة من الأرشيف الدولي الأوروبي
تحديدا وتحويلها إلى أداة قوية في الإدانة وهي تفضح بجبروت الصورة
الوجود الاستعماري في بلدان العالم الثالث.
وأكد الفيلم قدرة الطاقات الإنسانية البسيطة في قارات أفريقيا
واسيا وأميركا اللاتينية على التحرر من أغلال المستعمر وكان لها
ذلك.
في فيلمه البديع (الأفيون والعصا) تناول موضوع البطولة الجماعية
لأهالي قرية جزائرية في ومقاومتهم الاحتلال الفرنسي إبان حرب
التحرير في ثلاث حكايات متباينة: الأولى بين الأهالي أنفسهم ،
والثانية بين الأهالي والمستعمر الفرنسي ، والثالثة بين الأهالي
ورجالات جبهة التحرير الجزائرية وهو الصراع الذي انتهى بحصول
الجزائر على الاستقلال.
كنت التقيت المخرج راشدي على هامش فعاليات مهرجان الفيلم العربي
الدولي بوهران وكان هذا الحوار الذي تنقل بين البدايات وسنوات
الرصاص وفضاءات الاحتفاء والتكريم التي تحيط به من كل جانب
باعتباره واحدا من رواد العمل السينمائي وابرز قاماته سواء في
السينما العربية أو سينما بلدان العالم الثالث عموما.
ضمن الاحتفاء بإبداعاتك السينمائية وعرض مقاطع منها في مهرجان
وهران وجدتك تعمل بحماس وشغف على مشروعك الجديد الضخم – كما لاحظت
– من المشاهد الأولية.. هل لك أن تعطينا نبذة عن الفيلم؟
كما تعلم إن شخصية مصطفى بن بولعيد هي لواحد من شهداء حرب التحرير
الجزائرية ورغبت أن أعيدها إلى النور في مسعى لتبيان دورها الحاسم
والمفصلي في تاريخ الثورة الجزائرية دون إغفال مكانتها الاجتماعية
وحراكها في تفاصيل الواقع الذي كانت تعيشه الجزائر في تلك الحقبة.
وماذا عن تمويل الفيلم والشركة التي تعمل على إنتاجه خاصة وحسب ما
شاهدت فالعمل يبدو من النوع الإنتاجي المبهر والمكلف ؟
- اجل الفيلم من النوع التاريخي الروائي الطويل.. وتطلب تصويره
ميزانية عالية استطعت تدبيرها عبر العثور على تمويل من شركات وخاصة
ان احتفالية الجزائر عاصمة للثقافة رفدت الميزانية من خلال دعم
إضافي وأيضا تمكن الفيلم من الحصول على مجاميع وملابس وإكسسوارات
ومعدات وأدوات ومباني تلائم تلك الحقبة وهو ما وفرته وزارة الدفاع
على نحو سد الكثير من عقبات التمويل.
واضح إن السينما الجزائرية تسير اليوم في طريق مغاير لبداياتها حيث
توجهات المركز السينمائي الجزائري الداعم الوحيد والثابت لها آنذاك
والآن هي ممولة شبه كامل من الخارج كيف تنظر إلى هذا التحول في
النتاج الجزائري المشترك مع فرنسا تحديدا ؟
دعني منذ البداية أن أوضح إنني لست بالمطلق ضد تحقيق أفلام جزائرية
بالتعاون مع جهات أوروبية فأنت تعرف حجم الوجود لأشخاص وسينمائيين
جزائريين هناك هؤلاء أرى من حقهم أن يتجهوا للبلدان التي حملوا وما
زالوا جنسياتها بان تمنحهم حق الإنتاج.. لكن أقف في حيرة غالبا
أمام تلك الأفلام متسائلا عما تقدمه.. لا شك ان هناك الكثير من
الأفلام تبشر بمواهب قادمة والبعض منها وقف عاجزا أمام الاشتباك مع
قضايا ومصائر الإنسان في الجزائر وبالتالي غابت عنها المخيلة
السينمائية وظلت أسيرة لمواقف تنحاز إلى راس المال الذي يضع شرطه
الخاص وأحيانا تتباين مع وجهة نظر صانع ومتلقي الفيلم.
وماذا عن اللهجة التي تنطق فيها تلك الأفلام.. أليس من حلول أخرى
لهذه الإشكالية بان يجري تجاوز هذه المسألة في حل يرضي أطراف
المعادلة ليتمكن المتلقي العربي في بلدان المشرق من متابعتها بشكل
سلس وسهل؟.
ثمة رؤى عديدة تحكم على نتاج السينما المغاربية عموما ليس في
الجزائر فقط بصعوبة متابعتها نظرا للهجة الناطقة بها فهي إما تهيمن
عليها اللغة الفرنسية أو تكاد تكون شديدة الإغراق في اللهجة
المحلية.. وكما تعلم وإن شرائح عديدة من مجتمعات هذه المنطقة تعمل
على تصوير واقعها اليومي في أفلام ناطقة باللغة الامازيغية وكان لا
بد عن «الترجمة» سواء باللغة الفصحى أو الدارجة في بلدان المشرق
ونترك هذه المسألة إلى التراكم الذي سيعتاد عليها المشرق العربي
كما اعتدنا نحن على التواصل مع الفيلم المصري والإنتاج الدرامي
الأردني والسوري واللبناني الذي ويصلنا اغلبه من خلال شاشة
التلفزيون.
كيف بدأ اهتمامك بالسينما.. أرى ان الظروف التي كانت تحيط ببيئتك
قادتك بسهولة إلى فضاءات الفن السابع ؟
الأمر كان مصادفة وكأنه بمثابة أمر تنفيذ لمهمة عندما كنت أخوض حرب
التحرير جرى انتقائي مع زملاء آخرين من اجل الالتحاق بدورة موضوعها
فن التصوير السينمائي في مسعى لتوظيف الكاميرا السينمائية في
عمليات التحرير والبناء من ناحية ولوضع الرأي العام العالمي أمام
ممارسات الاحتلال الفرنسي وفظائعه في الجزائر من ناحية أخرى.
وشيئا فشيئا وجدت نفسي أقدم الكثير من الأعمال التعبوية والتحريضية
بمشاركة آخرين في وحدة سينمائية فضحنا من خلالها حجم الزيف والخداع
للرأي العالمي.
وعقب الاستقلال قررت مواصلة دراسة السينما على نحو تفصيلي في معهد
متخصص في فرنسا ثم اتبعت ذلك بفصول دراسية في ايطاليا ثم في
الولايات المتحدة الأمريكية فقد جذبني هذا النوع من العمل مبكرا
وذلك بان اعمل كمخرج سينمائي وتحقق لي ذلك بعد معاناة طويلة من
الإصرار والعناد.
بعد مشوار طويل وخصب في العمل السينمائي.. إلا إن هناك بعضاً من
النقاد يرى ان راشدي مخرج كان يؤمل منه ابعد من ذلك وأيضا الكثير
من العطاء نظرا لريادتك من ناحية ولاضطلاعك بمناصب رسمية في مركز
السينما بالجزائر من ناحية أخرى.. كيف تنظر إلى هذا الاتهام الموجه
إليك اليوم ؟
كنت دائما حبيسا لهواية المتابعة والشغف بالصورة في كل تحولاتها
وتجلياتها والتي تجسدت أمام عيني مبكرا بذلك السحر الآتي من الشاشة
البيضاء بحيث دفعني إلى التوجه صوب دراستها لسنوات وان ادخل مضمار
العمل في السينما التي تمنح شخص مثلي التواصل والاستمرارية مع
قضايا الناس في أي مكان رغم مخزونها الذي لا ينضب من الماسي والصد
والإهمال والتردد والعقبات.
في اجتماعهم الأخير بوهران اسند مدراء المهرجانات السينمائية
العربية لك مهمة النهوض بجهاز يتأسس على تدفق المعلومات سمي بالبنك
كيف تنظر الى وظيفة هذا الجهاز وما هي خطتك في إيجاده على ارض
الواقع؟
الغرض من استحداث البنك يتوقف على التنسيق المبكر بين المهرجانات
والمناسبات السينمائية العربية بغية إيجاد تنافس حميد بينهم بعيدا
عن الاستئثار بالأفلام العربية القليلة أصلا والمنجزة حديثا ليصار
توزيعها بعدالة على الجميع ووفق مشاركة ايجابية تتطلع التنظيم
والتنسيق وتيسير سبل عرض تلك الأفلام في المهرجانات العربية بسلاسة
بحيث تستفيد منه ذائقة المتلقي وتتفهمه بلغته الأصلية المصاحبة
لترجمة بلغة المتلقي لا لبس فيها وبعيدا عن التعصب والرؤية
الأحادية.
ومن الطبيعي أن يجري عرض أسس وقواعد وأفكار البنك على كثير من
أصدقائنا في أرجاء الوطن العربي بانتظار ردودهم واقتراحاتهم ووجهات
نظرهم والذي سيكون مفتوحا للاشتراك أمام جميع السينمائيين العرب
نقادا وكتابا ومخرجين وتقنيين.
في السنوات الأخيرة تابعت عن كثب الاحتفاء بإبداعك السينمائي في
أكثر من مهرجان عربي بدءا من مهرجان البحرين للسينما المستقلة
ومرورا في بينالي السينما العربية بباريس ووصولا إلى مهرجانات
قرطاج ودبي والقاهرة ودمشق.. كيف ترى الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه
المهرجانات على صعيد ترسيخ السينما العربية وتعزيز نتاجها أو
بالنسبة إلى الثقافة السينمائية عموما؟
أبدو متفائلا بهذا الجانب.. فلا شك ان ازدياد المهرجانات
والملتقيات السينمائية لأي مجتمع يصب في اتجاه انتعاش سائر نواحي
الحياة فيه ويؤكد تنامي الفعل الإبداعي وتحفيزه لمجتمعات البلدان
التي تنظم هذه المهرجانات وهي في الوقت ذاته تعمل على خلق قواعد
جديدة لأنظمة توزيع الأفلام في أسواقها السينمائية بعد أن ظلت حكرا
على أفلام تجارية أو ترفيهية ولا تنسى أيضا ذلك الحصاد الوفير من
اللقاءات التي ينتج عنها اتفاقيات وتعاون مشترك.
وماذا عن تنامي دور الفضائيات في المجتمعات العربية.. هل سيفعل ذلك
من الحراك السينمائي حسب ما تفيض به قنوات التلفزة في أوروبا من
نتاج سينمائي متنوع اقصد التسجيلي والدرامي؟
أرى الجواب في متن سؤالك وهو ما يكشف عنه الإقبال الواسع على صالات
السينما الذي سيقود حتما إلى صوغ وظيفة القنوات الفضائية ويجعل
منها مؤسسات للإنتاج السينمائي بغية تغطية العجز في المواد
الفيلمية التي تضخها بشكل متواصل طوال اليوم ففي فرنسا التي كانت
تنتج نحو 50 فيلماً في السنة أصبحت الآن تنتج ما يزيد على اضعاف
هذا الرقم في السنة وقس عليها في بلدان العالم ستكون أمام حراك
سمعي بصري ثري على صعيد الشكل او المضمون ويكسر الحلقة الثابتة
التي لا تتبدل من حصاد الأعمال السينمائية السائدة.
قدمت منذ ثلاثة عقود فيلما تسجيليا نادرا عن الراحل عبد الحليم
حافظ وهو العمل الذي يبث بين حين وآخر على قنوات المنوعات
العربية.. الا ترى انك بهذا العمل كنت تغرد خارج السرب الذي تعارف
فيه النقاد على أفلامك ؟
ذات يوم شئت أن اعمل بنصيحة احد قامات السينما العالمية ولا شك انك
تعلم الشيء الكثير عنه هو المخرج الاميركي التركي/ الارمني الأصل
إيليا كازان عندما أهداني بطلب مني ثلاث نصائح لأستطيع أن أوظفها
بعملي السينمائي ولخصها بأهمية التحلي بالصبر وإجادة انتظار المنتج
والموزع والنجاح وأيضا القدرة على تكثيف جمل السيناريو في نقاط
رئيسية محدودة والأخيرة التي شكلت دائما هاجسا لدي بان انسحب فورا
من العمل لدى الشعور بان الوقت قد أزف.. هذه النصيحة التي كانت
تشترى بجمل في تاريخنا القديم قبضت عليها لأنها آتية من إنسان كنت
شغوفا بأفلامه بحيث جعلتني أتريث دائما بالعمل وان لا استكين بل
اندفع في تدقيق خياراتي عندما تأتي الفرصة وكيف اقتنصها وهو ما
اشتغلت عليه في مشروع لفيلم روائي طويل من تمثيل عبد الحليم حافظ
مستمدة أحداثه عن رواية « لا « لمصطفى أمين.. وقطعت في ذلك شوطا لا
باس به في التحضير والاستعداد لعمليات تصويره حيث كانت تجمعني
بالراحل حليم صداقة شخصية متينة ثمرتها كان هذا المشروع الذي انتهى
بالفيلم التسجيلي (حليم باريس) نتيجة لظروف مرضه.. وفيه رصدت جوانب
من حفلاته في باريس حيث أقيم وسجلت بالكاميرا السينمائية محطات
وحالات من الاندفاع والشعور الإنساني تجاه هذا المبدع الكبير الذي
كنت آمل أن أقدمه بفيلم روائي طويل. |