معروف عن أفلام أندريه تاركوفسكي Tarkovskyأنها
مغمورة بما يسميه هو "المناخ الحلمي" – التأثير الشبيه بالحلم –
الذي يقاوم حاجة الجمهور إلى التأكد من صحة منطق ومصداقية الأحداث
المعروضة على الشاشة.
لقد نجح تاركوفسكي، بالذات في "المرآة" The
Mirror(75-
1978) و Stalker(1980)،
في التعبير عن أحلام اليقظة بشأن الماضي والمستقبل من خلال وسائل
سينمائية خالصة: متمماً التعبير الشفهي بواسطة وسائل سمعية بصرية،
هو ينجز التنسيق الحركي الذي تتم تجربته على مستوى المحرّك الحسي،
غالباً بسبب حركة الكاميرا المتواصلة، اللحوحة، عبر الفضاء.
بدلاً من التحكم في اهتمام المتفرج عن طريق القطع من صورة إلى
أخرى، يؤكد تاركوفسكي على الطبيعة المؤقتة أو الزائلة للواقع،
والذي بواسطته هو يتخطى الدلالة المألوفة والاعتيادية للمواد
الملموسة من أجل بلوغ شيء تهمله العين المجردة وتستخف به، أو يبدو
غريباً وغير مألوف عند النظر إليه وملاحظته.
على الرغم من كل المعاني المتضمنة، الاجتماعية وتلك المتصلة
بالسيرة الذاتية، فإن "المرآة" هو فيلم حلمي بامتياز، يعكس ما
يتذكره مبدعه عن مرحلة شبابه، بينما فيلمه Stalker–
الذي يُقرأ عادةً كفنتازيا تنتمي إلى الخيال العلمي – هو حدس
هذياني عن عالم "يمثل واقع حياة الفنان الباطنية" (كما يقول
تاركوفسكي في كتابه "النحت في الزمن").
في هذين الفيلمين، تنفيذ اللقطات، خصوصاً كثافتها الحركية، هو الذي
يجعل الأشياء أو الأحداث، المعروضة على الشاشة، تبدو متخيلة
وواقعية معاً. إن معالجة تاركوفسكي للقطات المصاحبة trackingوتفاعلها
مع الحركة ضمن اللقطة، إضافة إلى المعالجة اللونية للصورة، تتعارض
مباشرة مع التضارب الإيزنشتايني (نسبةً إلى إيزنشتاين) الذي ينتجه
تجاور لقطات ساكنة. في كتابه "النحت في الزمن" يعلن تاركوفسكي على
نحو صريح أن: "الصورة السينمائية تنشأ أثناء التصوير وتوجد ضمن
الكادر، بينما المونتاج يوّحد معاً لقطات كانت ممتلئة بالزمن".
بالنسبة لتاركوفسكي، مفهوم الزمن هو المظهر الأكثر أهمية في وسط
الفيلم لأنه "متأصل في السينما ومتضمن في صلبها.. إنه ينبض عبر
أوردة الفيلم وشرايينه، ويجعله حياً من خلال ضغوطات إيقاعية
متعددة" (النحت في الزمن).
هذا يؤكد محاولة المخرج لإثارة استجابات عاطفية، غالباً ما تكون
عميقة جداً، عند المتفرج، بدلاً من إطلاق أفكار مقصود منها أن تدعم
موقفاً خاصاً تجاه المجتمع والتاريخ. نجد مثالاً واضحاً لهذا في
استخدامه الأشرطة الوثائقية من الأرشيف (مثل: عبور الجيش الأحمر
لبحيرة سيفاش في فيلمه "المرآة") التي، من خلال الضغط الإيقاعي،
تولّد شعوراً كابوسياً: مفرطاً في التعريض للنور وذا حركة سريعة.
الشريط الحقيقي، الموثوق به، يُرى كـ "مسعى فوق بشري للحظة
تراجيدية في التاريخ، بالتالي يصبح المركز، الجوهر الفعلي، قلب
فيلمي وعصبه" (النحت في الزمن).
هكذا، الدلالة التاريخية للشريط الوثائقي، الذي تم العثور عليه،
تتحول إلى رؤية ذاتية لوقائع حقيقية حدثت في الماضي، وتمت تجربتها
كرؤية موجعة ونوستالجية معاً للتاريخ.
الميزة الأولى
الميزة الهامة في الصورة الحلمية عند تاركوفسكي هي أن لقطاته لم
تكن قط محرفة عن مظهرها التصويري، لكن في الوقت ذاته، الصورة
المعروضة تبدو غريبة، معالجة على نحو غير مباشر من أجل تشتيت
المعنى "الدرامي" للحدث، في حين يجعل المتفرج متورطاً مع المعاني
المتوارية أسفل المستوى السردي. في حثه للمتفرجين بأن يبحثوا عن
شيء وراء الصورة كمماثل للواقع، متيحاً لهم أن يفكروا ملياً في
الأحداث/ الأشياء المقدمة، فإنه يشاركهم في تأملهم الخاص في ما
يرونه على الشاشة. التحليل الدقيق لمشاهد الذروة في كلا الفيلمين
يُظهر أنهما يحتويان الكثير من المظاهر المميزة لعملية الحلم..
كغرابة الحالة، الحركة الجسمانية القوية، الرؤية الخارجية المعتمة
(إلغاء تخوم الصورة)، استخدام المؤثر الذي يجعل الصورة تومض ثم
تخبو (النبض الضوئي)، التغيير غير المتوقع للنسق اللوني، الانقطاع
الزماني- المكاني، التحريف التصويري للأشياء، الحركة المتباطئة،
البؤرة المتموجة (التضبيب).. كل هذا يسهم في قبول الأحداث الغريبة،
غير العادية، التي تدور على الشاشة.
على سبيل المثال، لو أن الجص الموجود في السقف يبدأ في التحلل
والسقوط، بحركة بطيئة، على الشخصية (كما في فيلم "المرآة")، أو أن
المادة السائلة تبدأ في الانهمار على الشاشات الموضوعة عمودياً في
الخلفية (كما في فيلم stalker)
فإن المتفرج يكون مجبراً على البحث عن معنى محجوب أو خفي لمثل هذه
الحالات الشاذة.
كما سبق توكيده، تاركوفسكي يجد التوازن بين الموثوقية الوجودية
لصورة الفيلم وانحرافها الظاهراتي، الذي يساعد صوره الحلمية في
تخطي "لغة" الفيلم كنظام من العلامات، واصلاً إلى مستوى التجريد
السمعي البصري. بالتالي، التجربة الحركية السينمائية الفذّة تعوق
التأويل التحليلي النفسي للحدث المصوّر: بينما هو مثير للاهتمام من
غير ريب، مثل هذا التأويل لا يفتقر إلى البرهان التحليلي فحسب بل
هو أقل كشفاً من التجربة الفعلية للمزاج الحلمي الذي تنتجه الوسائل
السينمائية الخاصة وعلاقتها بالمظهر الموضوعاتي للمشهد.
هناك نوعان من الحركة في "المرآة" و stalker:
المسار الجانبي للكاميرا بينما الشخص يهيمن على صدر الصورة
القريبة، والحركة التجريدية جزئياً (المضببة) تحدث في الخلفية
البعيدة، والكاميرا تنسل عمودياً على أشياء الطبيعة. إن أغلب
اللقطات في الجزء الأول من stalker(بعد
المقدمة) منفذة بحركة مصاحبة جانبية، مرافقة (عن قرب) الشخصيات
الثلاث (المقتفي أو الدليل والكاتب والعالِم) في رحلتهم إلى مركز
المنطقة The
Zone.
هنا الكاميرا تتخيّل شكل الأشياء التي ستوجد من خلال منظر طبيعي
خارج البؤرة والذي يُرى خلف رؤوس الثلاثة في مقدمة الصورة (غالباً
مع مؤخرة الرأس وهي تواجه الكاميرا) إلى حد أن الجزء غير الواضح من
الصورة يصبح معبّراً أكثر من الجزء الواضح. بالنتيجة، الخلفية
المضببة تهيمن على الشكل البشري في مقدمة الصورة، كما لو تحكم
حصارها على الشخصيات التي تصبح كسولة أكثر فأكثر، محدّقة في الفضاء
الخالي، مصابة بخيبة أمل مما صادفته في المكان الذي بحثوا عنه فترة
طويلة.
ينبغي على المرء أن يعي الإختلاف بين حركة الكاميرا الجانبية عند
تاركوفسكي، وحركة الكاميرا المصاحبة الموازية عند جودار كما وظفها
في فيلمه "أراك عند ماو" See
You at Mao(1969)،
حيث الكاميرا تتحرك عبر صف لا نهائي من السيارات المتوقفة، بينما
العمال يقومون بحركات آلية متكررة، أو كما في فيلم "كل شيء على ما
يرام" Tout
va bien(1972)
حيث الكاميرا تتحرك أمام عدد لا يحصى من أمناء الصندوق في
سوبرماركت، في موازاة مع اندفاع ضاج لعمال مضربين يدمرون المحل.
إن وظيفة حركة الكاميرا عند جودار هي من أجل تكثيف الفعل الجسماني
الذي يحدث أمام الكاميرا، لغايات أيديولوجية، في حين أن كاميرا
تاركوفسكي تخترق الحقائق البيئية، إنطلاقاً من إيمان المخرج بأن
الكاميرا قادرة على اكتشاف الدلالة الخفية للعالم المادي.
من جهة أخرى، لقطات تاركوفسكي المديدة أيضاً تختلف دلالياً عن
لقطات الهنغاري ميكلوش يانشو Miklós
Jancsó في
فيلميه "ريح الشتاء" Winter
Wind(1969)
و "الترنيمة الحمراء" The
Red Psalm(1972)
حيث حركة الكاميرا تصف – ضمن شروط إيقاعية – أحداثاً طقسية مرسومة
على نحو راقص أمام الكاميرا مع اهتمام سياسي صريح. أما حركة كاميرا
تاركوفسكي فتعكس – ضمن شروط سينمائية – النبض الإيقاعي المخفي تحت
المظهر الخارجي للواقع، محدثاً استجابة عاطفية قوية، إضافة إلى
التأمل.
في "المرآة" كل اللقطات المصاحبة تقريباً تحيل إلى نفسها، خصوصاً
عندما تكون الحركة ضمن الكادر متباطئة، كما في اللقطات المصاحبة
للعشب، الشجيرات، وأوراق الشجر، لتنتهي على الطاولة مع قطعة من
الخبز، وحامل الشموع ينقلب بلطف بفعل الريح (كإيماءة شعرية، اللقطة
ذاتها تتكرر مرتين في مواضع حاسمة). بل أن الحركة الأكثر فتنة هي
حركة الكاميرا الأمامية وهي تتابع الشاب أليكسي فيما هو يدخل
(بالحركة البطيئة) البيت القديم ويمر من خلال الستائر الشفافة،
الطافية، قبل أن يصل إلى المرآة العتيقة حيث يواجه الفتى انعكاسه
الوهمي. طاقة حركة كهذه تؤثر في وجهة نظر المتفرج: لأن الكاميرا
تنتحل وجهة نظر الفتى الذاتية فإن هذا يجلب المتفرج وحده إلى سطح
المرآة. الجمهور يختبر التأثير التغريبي في ما يتصل بالصورة
المنعكسة، والحدث كله يبدو غريباً.
في الوقت نفسه، تأثير هذا والحركات المماثلة هو حسي وعاطفي في آن،
حيث إيقاع الحركة المصاحبة إما يكون متزامناً أو غير متزامن مع
إيقاع النص المنطوق، والمصاحبة الموسيقية، والمظهر الموضوعاتي
للحدث.
فيلم "المرآة" يُفتتح بلقطة عامة لحقل فسيح، يُرى من وجهة نظر
امرأة جالسة على سياج خشبي، بينما في نهاية الفيلم، الكاميرا تتحرك
ببطء عبر غابة مظلمة أشجارها على نحو متزايد تحول دون رؤية الحقل
البعيد الذي رأيناه في بداية الفيلم.
فيلم stalker يعرض
علاقة مختلفة بين إيقاع افتتاحية الفيلم وخاتمته: إنه يبدأ (بعد
أسماء العاملين) بحركة كاميرا أمامية عبر المدخل الضيق لغرفة نوم
البطل (ذات الجدران المعتمة المصممة على نحو مهيب)، بينما ينتهي
بلقطة ثابتة لابنة البطل وهي تميل بحزن على الطاولة. في الحالة
الأولى، ركود الافتتاحية يتوقع الحالة النفسية الكئيبة للفيلم كله،
بينما حركة الخاتمة تعزّز الطبيعة النوستالجية للذكريات. في الحالة
الثانية، الحركة الاستهلالية تنبئ بالرحلة الغامضة، بينما النهاية
الساكنة (بؤرة الكاميرا مركزة على النافذة الموصدة) هي تقريباً
تصوّر حرفي لطريق غير نافد.
الحركة البطيئة، المستخدمة عادة في السينما السردية لجعل الحدث
الزائد يبدو جذاباً بصرياً (والموظفة في أغاني الفيديو الشعبية على
نحو مبتذل ورخيص)، في أفلام تاركوفسكي هي تتخذ الوظيفة التي حددها
فسيفولود بودوفكين Vsevolod
Pudovkin قبل
أكثر من نصف قرن بوصفها "لقطة قريبة للزمن". كلما تباطأت الحركة
على شاشة تاركوفسكي، اكتسب الحدث تأثيراً عاطفياً قوياً، خصوصاً في
الذكريات النوستالجية، الكوابيس، والتخيلات (كمثال، الطيور المحلقة
في فيلم "المرآة").
عن الحركة
الحركة المتباطئة هي اللب العاطفي للصورة الحلمية عند تاركوفسكي،
والتي في لحظات الذروة تنجز ما تسميه مايا ديرين Maya
Deren"الإختراق/
الإستنطاق العمودي" للموضوع المصوّر، جاعلة المتفرج يعي مرور الزمن
وضغوطاته الإيقاعية. لاختبار كل هذا، يتعيّن على المرء أن يبحث
وراء المعنى السردي للقطة، بما أنه يوجد أسفل المظهر التمثيلي
للصورة حيث يمكن العثور على طبقات عديدة من المغزى الخارق الذي
يوصف. بناء على ذلك، "المرآة" و stalker يتخطيان
المعنى الفرويدي لصور الحلم، ذلك لأنها لا تعمل كرموز كامنة أو
مستترة بقدر ما هي تساهم في التجربة اللاواعية لعالم الحلم.
اللقطات المصاحبة tracking الطويلة
هي ليست فقط المصدر الوحيد للمناخ الحلمي السينمائي عند تاركوفسكي،
فالحالة النفسية المرادفة، الشبيهة بالحلم، تولّدها اللقطات
(المحدّقة) الساكنة التي تصوّر الحدث، المتجرّد من البعد الدرامي،
كما في اللقطة المديدة، ما قبل الأخيرة، في فيلم stalkerعندما
يجلس الرجال الثلاثة مسمرين في إحدى غرف المنطقة zoneشاعرين
بخيبة أمل مع إدراكهم بأن المكان الذي بحثوا عنه طويلاً ليس هو
"المكان الذي تتحقق فيه رغبات البشر الصادرة من القلب".
فيما هم يفكرون بقنوط في مغامرتهم، تقع حولهم سلسلة من الأحداث غير
المتوقعة، مع ذلك تظل وراء متناول العالم الخارجي: الزمن يتوقف، في
حين أن "الضغوطات الإيقاعية" الداخلية تُظهر نفسها عبر تراجع حاذق
جداً للكاميرا الموضوعة في زاوية منخفضة قليلاً والتي تجذب انتباه
المتفرج إلى الفضاء خارج الكادر: ما إذا كانت المساحة فوق الرجال
الجالسين مسقوفةً, إلى أي مدى يكون تغيّر تكوين اللقطة– المتزامن
مع التغييرات اللونية المستمرة– مبنياً على الدافع الجدير ظاهرياً
بالتصديق (اللقطة تفتتح كصورة لونية والتي تدريجياً تتغيّر إلى لون
بنّي داكن لتنتهي كصورة بالأسود والأبيض)؟ عندما يبدأ المطر، على
نحو غير متوقع، في الهطول في مقدمة الصورة (مصحوباً بصوت مضخّم
للقطرات وهي ترتطم بالمياه) مشكّلاً دائرة تومض على سطح البركة،
كما لو تعكس أشعة الشمس اللامرئية، فإن الصورة تأسر المتفرجين
بصرياً وسمعياً: غير معنيين بشأن لا احتمالية الحدث، هم – إضافةً
إلى شخصيات الفيلم – يشعرون بالشلل بفعل "الطاقة الغامضة" المنبعثة
من المنطقة (zone).
المرء هنا لا يستطيع أن يستبعد فكرة اعتماد تاركوفسكي على حدث مدمر
حقيقي حين وقعت كارثة في العام 1957 في منطقة قريبة من شيليابنسك
على إثر انفجار كيماوي لم يعلن عنه رسمياً.
الصورة الحلمية الأكثر إفتاناً في stalker هي
على الأرجح تلك التي نجدها في "غرفة الكثيب"، في تلك المنطقة
المحظورة، المغطاة أرضيتها بأكوام من الرمال. كل ما يحدث في هذه
الغرفة مرئي بوصفه "لقطة قريبة للزمن".. أي، الحركة بالتصوير البطئ.
عند موضع معيّن، طائران أسودان يدخلان الشاشة من اليسار ويحلّقان
في اتجاه الطرف الآخر من الغرفة. مباشرةً قبل وصولهما إلى الجدار
(المضاء بشكل ساطع) يختفي الطائر الأول (عبْر حيلة بصرية) فيما
الآخر يحط بشكل طبيعي على الكثيب الرملي، محدثاً سحابة من الغبار
المتموّج ببطء. أغلب المتفرجين، المفتونين بصرياً، أبدوا حيرتهم
إزاء حقيقة ما حدث على الشاشة – أو ما إذا كان قد حدث ذلك بالفعل –
وشعروا برغبة تلقائية في مشاهدة اللقطة مرة أخرى. مثل هذه الإيماءة
الإخراجية تكثّف الغموض الهذياني عبْر اندماج المظهر التصويري
للحدث والتنفيذ السوريالي للقطة. إن تكوين الصورة، تقلّبها اللوني
الذي يدوم فترة طويلة، إضافة إلى "غرابة" البيئة (الطائر الذي
يختفي، الحركة البطيئة للغبار الذي يطفو فوق الأرض، التصميم الشاذ
للغرفة) لا تعكس حالة الشخصيات فحسب، لكن أيضاً تستفز في المتفرج
تجربة ناشئة عن هذيان. |