مجزرة الأنفال «ذكريات منقوشة على حجر»
كارلوفي فاري (تشيخيا) - فيكي حبيب
ينبش السينمائي العراقي شوكت أمين كوركي في الذاكرة الجماعية
الكردية، فيسلّط الكاميرا على «ذكريات منقوشة على حجر» عن مجزرة
راح ضحيتها 182 ألف كردي، جرت تصفيتهم على يد نظام صدام حسين
ودفنهم في قبور جماعية العام 1988... فيما أُطلق عليه اسم «حملة
الأنفال».
لكنّ فيلم «ذكريات منقوشة على حجر»، ليس فيلماً عن «مجزرة الأنفال»
فحسب، بل هو فيلم عن حاضر المجتمع الكردي المشتت بين أربع ضفاف،
والمقيّد بسلاسل وتقاليد، تبقى سداً منيعاً في وجه أي تطور.
الفيلم الذي تابعنا عرضه في قسم «آفاق» ضمن مهرجان كارلوفي فاري في
الجمهورية التشيخية بحضور مخرجه (مثّل العرب الى جانب الفيلم
الموريتاني «تمبوكتو» لعبدالرحمن سيساكو) يعتمد أسلوب الفيلم داخل
الفيلم، معرّجاً على المشاكل الجمّة التي تواجه السينمائي الكردي
في بيئة لا تعترف بالفن السابع ولا تؤمن بقدرته على إحداث تغيير في
الذهنيات.
من هنا ارتأى كوركي السير على خطين متوازيين يتراوحان بين العام
والخاص لتصوير المعاناة: معاناة شعب ذاق الأمرّين من جنون صدام،
ومعاناة سينمائي يسير على خيط رفيع في منطقة مزروعة بالألغام.
«بعدما صوّرت فيلميّ «عبور الغبار» و «ضربة البداية» عن العراق ما
بعد الحرب، أصبح واضحاً بالنسبة إليّ أنني سأحمل كاميرتي في أحد
الأيام لأحقق فيلماً عن السينما في كردستان»، يقول كوركي، ويضيف:
«ما يحدث خلف الكاميرا قصة تستحق ان تروى: تهديدات بالموت من
جماعات إرهابية، نقص في المعدّات السينمائية، وشهور طويلة من
التفتيش عن بطلة للدور الرئيس... هذه بعض الصعوبات التي نجد أنفسنا
مُجبرين على العمل فيها. ولهذا، فإن امراً واحداً كان أكيداً
بالنسبة إلي، وهو أنني كسينمائي عراقي كردي، هناك دوماً ثمن عليّ
ان أدفعه، تماماً مثل الجميع في هذه المنطقة».
رومانسية مسروقة
بافتتاح رومانسي، تُستهل فصول «ذكريات منقوشة على حجر» من خلال
لقطة لفتى صغير مبهور بعالم الفن السابع («حسين»)، يقصد مكان عمل
والده داخل صالة سينمائية في العراق خلال عرضها فيلماً ممنوعاً.
رومانسية سرعان ما يبدو انها مسروقة من الدقائق الـ93 التي يسير
فيها الفيلم، بعد أن ينسفها دخول قوات صدام بكل جبروتها الى المكان
لتدبّ الفوضى ويخيّم الذعر على القلوب، فيما الفتى يراقب من زاوية
معتمة سوق والده ورفاقه الى المجهول.
هذه اللحظة المأسوية ستطبع حياة «حسين» وقد أصبح مخرجاً سينمائياً
في الغرب. ولهذا يقرر في أحد الأيام أن يترك بيته الآمن في أوروبا
ويحزم أمتعته ويودّع زوجته الأجنبية وابنه الصغير، ليعود الى دياره
في كردستان العراق بهدف تصوير فيلم عن مجزرة الأنفال التـــي دُمّر
فيها نحو ألفي قرية كردية وسُحقت فيها أرواح الآلاف. وسرعان ما يجد
بطلنا نفسه أمام تحديات كبيرة، لعـــل أبرزها عجزه عن إيجاد ممثلة
لتجسيد الدور الرئيس في مجتمع محافظ لا يزال ينظر الى السينما نظرة
دونية.
عقبة سرعان ما تصبح من الماضي مع ظهور «سينور» الشابة الجميلة
المتحمسة جداً لهذا المشروع. لكنّ اندفاع بطلتنا التي تعيش مع
والدتها سيصطدم ببيئة لا يمكن الفتــاة فيها ان تقرر مصيرها
بنفسها، ولهذا لا يمكن بطلتنا ان تشارك في هذا الفيلم من دون إذن
عمّها الوصيّ عليها بعد وفاة والدها. وطبعاً لن يكون لها ما تريد
في مثل مجتمع بطريركي كهذا. بل على العكس سيتصدى العمّ لكل
محاولاتها إقناعه، «فلا مجال لظهورها على الشاشة طالما انها ليست
متزوجة». وهكذا يعود «حسين» الى مربع الصفر في رحلة بحثه عن بطلة
لفيلمه.
وبعد ان تحول العادات والتقاليد والنظرة الى السينما والمرأة دون
عثور بطلنا على شابة كردية عراقية لتكون بطلـــة فيلمه، تتجه
أنظاره الى إيران حيث الخيارات أوسع. وبالفعل يسافر الى هناك. وحين
يظن أنه عثر على الفتاة المناسبة للدور، يفشل في جعلها تعبر الحدود
الإيرانية-العراقية، ولا يعود أمامه إلا «سينور» التي سرعان ما
تضحّي بكل شيء للمشاركة في هذا الفيلم. حتى انها تقبل الاقتران
بابن عمّها كشرط لتحقيق منالها. وإذ يبدو إصرارها غريباً على خوض
هذه المغامرة من دون أن تأبه بكلام الناس أو مصيرها بالزواج من شاب
تعتبره مثــل أخيها، سرعان ما تتكشف الأسباب، فالفيلم بالنسبة
إليها علاج من جرح قديم لم تندمل آثاره بعد، خصوصاً أن والدها مات
في السجن ذاته حيث تدور أحداث الفيلم...
اما العوائق المادية التي يصادفها السينمائي الكردي في مسيرته
المهنية، فيطرحها كوركي في صورة قد تبدو كاريكاتورية لكنها تعبّر
بقوة عن الواقع من خلال شخصية نجم «الفيديو كليبات» الذي يضطر
«حسين» الى إشراكه في الفيلم ليضمن إيجاد التمويل اللازم...
وواضح أن المخرج تعمّد ان يتشارك البطلان («حسين» و «سينور») فاجعة
غياب الأب. فـ «حسين» كان شاهداً وهو صغير على بطش رجال صدام الذين
حرموه من والده، ومثله «سينور» قاست الأمرّين، وكأن المخرج أراد من
فكرة «غياب الأب» إحالتنا الى فكرة أكبر هي «غياب الدولة» في رمزية
واضحة الى مصير الاكراد المبعثرين بين اربع دول (العراق وإيران
وسورية وتركيا).
«كردستان دولة لم تندمل فيها جروح الحرب بعد»، يقول كوركي ويضيف:
«السينمائيون فيها مثلهم مثل الجميع ما زالوا يحملون وزر الصدمة
الكبيرة التي سببتها مجزرة الأنفال. هذا ما حاولنا ان نحمّله لبطل
القصة في «ذكريات منقوشة على حجر»، كما حاولنا قول لماذا من المهم
جداً بالنسبة إلينا أن نخرج هذه القصة الى الضوء. فطوال 30 عاماً،
كان ممنوعاً علينا في عهد صدام تحقيق أفلام سينمائية. ولهذا كان
علينا ان نبدأ من الصفر. وعلى رغم انجذاب كثر في كردستان الى عالم
السينما، إلا ان تطور المشهد الفني عندنا ما زال مهمة صعبة. من هنا
عندما قصدني محمد أكتاس وفي جعبته فكرة «ذكريات منقوشة على حجر» لم
أتردد في مناقشة الموضوع. فهذه القصة الشخصية التي يمكن القول إنها
«صنع في كردستان» تعطينا لمحة عن تعقيدات صناعة السينما في مثلث
برمودا الشرق اوسطي. ومع هذا وعلى رغم كل الصعوبات، يبقى حب
السينما والشغف بها هما ما يحركنا».
باختصار، «ذكريات منقوشة على حجر» فيلم عن السياسة والمجتمع
والسينما. ثالوث يبدو انه المحرّض الأبرز لشوكت أمين كوركي الذي قد
يرى بعضهم أنه وقع في فخ الرغبة في قول كل شيء، فغلّب المضمون على
العناصر الفنية والجماليات البصرية. ومع هذا، يبقى المشهد الأخير
الأكثر تعبيراً عما أراد كوركي إيصاله من هذا الفيلم: جماهير
متمركزة في ساحة القرية الكردية بانتظار العرض الأول لفيلم «حسين»
عن الأنفال. يبدأ المشهد الأول مع جنود صدام وهم يحرقون إحدى القرى
ويجرّون سكانها في عرباتهم. تتحول الشاشة الى سواد بعد انقطاع
التيار الكهربائي. لا ينتظر المدعوون عودة التيار غير آبهين
بالفيلم وبما يمثله. تعود الكهرباء من جديد، ولكن لا احد هناك إلا
أفراد طاقم العمل الصامدين على رغم هطول المطر... فالسينما الجادة
لا تعني أحداً في بلادنا... أما الجمرة فلا تحرق إلا محلها. |