مونوغرافيات قيس الزبيدي - الجزء الأول
عدنان حسين أحمد
ضمن سلسلة (آفاق السينما) التي تُصدرها الهيئة العامة لقصور
الثقافة في القاهرة صدر كتاب "في الثقافة السينمائية" للناقد
والمخرج السينمائي العراقي قيس الزبيدي الذي سبق له أن أصدر مجموعة
من الكتب النقدية النوعية في هذا المضمار من بينها "بنية المسلسل
الدرامي التلفزيوني- نحو درامية جديدة"، " المرئي والمسموع في
السينما"و "مونوغرافيات في نظرية وتاريخ صورة الفيلم" وسواها من
الكتب التي تُنظِّر للخطاب البصري بشكلٍ عام.
لا ينضوي هذا الكتاب تحت عنوان محدّد، فالثقافة السينمائية تعبير
"عائم" يضمّ المئات من الموضوعات الرئيسية والثانوية. وبما أن
المخرج والمونتير والمصور قيس الزبيدي هو ناقد سينمائي ويشتغل في
الحقل التنظيري في هذا المضمار فقد تدارك هذا العنوان الواسع
وأردفه بكلمة "مونوغرافيات" التي تعني مجموعة من الدراسات
التفصيلية في موضوع واحد، والموضوع الواحد هنا هو "السينما" أو
الثقافة السينمائية بشكل أوسع.
غياب وحدة الموضوع
يتضمن هذا الكتاب 12 فصلاً خالياً من العناوين الرئيسية الأمر الذي
يكشف لنا منذ البدء عن افتقار هذا الكتاب إلى البناء الرصين لوحدة
الموضوع ذلك لأن الكتاب في أصله هو مجموعة كبيرة من المقالات
والمراجعات والقراءات النقدية لأكثر من 100 كتاب في فروع الثقافة
السينمائية المتشعبة. وهذا يعني أن الناقد قيس الزبيدي قد وقع في
نفس الأخطاء التي وقع بها بعض النقاد السينمائيين الذين جمعوا
مقالاتهم المتفرقة المنشورة هنا وهناك وأصدروها في كتب تفتقر إلى
الثيمة الرئيسية أو وحدة الموضوع على الرغم من أهمية هذه المقالات
التي ينطوي الكثير منها على الفائدة والنَفَس العلمي الذي لا
تُخطئه العين النقدية الثاقبة.
قبل الولوج إلى تفاصيل هذا الكتاب النقدي القيّم لابد من الإشارة
أيضاً إلى أنّ فصوله الاثني عشر غير متوازنة من حيث الكمّ. فالفصل
الخامس، تمثيلاً لا حصراً، يتألف من تسع عشرة مادة فرعية بواقع 39
صفحة بينما يتألف الفصل الحادي عشر من مادتين فرعيتين وبواقع 3
صفحات لا غير، الأمر الذي يُخِّل في بنية الكتاب وربما يطعن في
منهجيته.
وعلى الرغم من بعض الهنات التي تتخلل هذا الكتاب هنا وهناك إلاّ
أنّ قيمته النقدية والتنظيرية تظل كبيرة جداً وتعكس حجم الجهود
المضنية التي بذلها الزبيدي في قراءة هذه الكتب التي تجاوزت المائة
بقليل، وقدّم لنا، كقرّاء ونقّاد في آنٍ معاً، ما يعتقد أنه مهم،
ومفيد، وجدير بالنقاش العلمي الرصين، مع الأخذ بعين الاعتبار صعوبة
هذه المهمة العسيرة التي تفرض على مُراجِع الكتاب أو ناقِده أن
ينتقي موضوعات محددة بينما يتخلى مضطراً بسبب ضيق المساحة عن ثيمات
أخرى قد لا تقل أهمية عن سابقتها.
العنصر البصري
يتألف الفصل الأول من تسع مقالات يهيمن عليها الجانب البصري أولاً
ثم يتسلل إليها الجانب السمعي الذي يريده المخرجون السينمائيون،
ومن بينهم الزبيدي، أن يكون عنصراً من عناصر البناء الدرامي في
الفيلم وليس مادة مُلحقة به أو طارئة عليه.
ولكي يركِّز الزبيدي على موضوع "البصريات العربية" انتقى كتاب
"العصر الذهبي للعلوم العربية" ليبرِز دور العرب ومساهمتهم في نشر
المعرفة، وبالذات البصرية منها، قبل أن يدخل الغرب في عصر النهضة.
فلاغرابة أن يتوقف عند رائد البصريات العراقي الحسن بن الهيثم
وتجاربه عن "الغرفة المظلمة" التي تُعتبر أساس التصوير الفوتوغرافي
الذي مهّد الطريق لابتكار آلة التصوير ليُصبح من أوائل العلماء
الذين ساهموا في اختراع الكاميرا أو "العين الثالثة" التي تستطيع
أن تلمّ الدنيا بعدستها السحرية التي لا يفوتها شيئ تقريباً.
إنّ ما تقوم به الكاميرا بحسب الناقد والمُنظِّر الفرنسي أندريه
بازان هو تسجيل صورة واقع في لحظة زمنية معينة، بل أن صورة العالم
الخارجي الذي نعيش بين ظهرانيه قد بدأ يتشكّل مع ظهور تقنية
التصوير الآلي التي تسللت إليها الرؤى والمشاعر الإنسانية لتجعل
منها عِلماً وفناً في آنٍ معا.
يناقش الزبيدي في مقالة "إنتاج الواقع" المراحل الثلاث التي تكوّن
فيها عِلم جمال الفوتوغرافيا والسينما وعلاقتهما الوطيدة ببعضهما
بعضا قبل أن يصلا إلى المرحلة الثالثة التي أُصطلح عليها بالمرحلة
البنيو- سيميائية بعد أن تخلصت الفوتوغرافيا من ربقة الفنون
المجاورة كالمسرح والرسم لكي توسّع في خاتمة المطاف من مساحة وحدود
التعبير عن الواقع.
ينتقي الزبيدي آراء بعض المنظرين الألمان والمجريين في هذا الصدد
مؤكداً بأن الألماني بنيامين يرى في :"أن السينما اعتمادا على
هويتها الفوتوغرافية قد حولت مسألة فردية الفن إلى فُرجة جماعية
لجماهير عريضة"، بينما يرى المجري لوكاتش: "أن اختلاف السينما عن
بقية الفنون البصرية يأتيها من الصورة الفوتوغرافية التي هي العامل
الأهم في إعادة إنتاج الواقع." ثم يتوقف عند آراء جان متري الذي
فتح بداية الطريق أمام السيميائية. ويختتم برأي ميتز الذي يرصد فيه
تحوّل الواقع إلى علامة.
ثمة مقالات مهمة في هذا الفصل من بينها "اختراع الفونوغراف أو
الحاكي" حيث حاول أديسون، الذي يُنسب إليه إختراع السينما
والفونوغراف: "أن يضيف الصوت إلى الفيلم بواسطة تشغيل الحاكي لكنه
لم ينجح". وفي نهاية العشرينات ظهرت السينما الناطقة بعد أن قطعت
السينما الصامتة شوطاً طويلاً في ابتكار وسائل تعبير سردية بديلة
عن الأصوات.
العنصر السمعي
ينبِّه الزبيدي في هذه المقالة على أهمية العنصر السمعي في الفيلم
الذي يفوق في بعض الأحيان العنصر البصري ذلك لأن "مادة الفيلم
المميزة هي ذبذبات صوتية وضوئية لوسيط مادي وهي التي تحدد آلية
التشكيل السمع بصري للمكان والحركة". كما يلفت النظر إلى العلاقة
بين الصورة والموسيقى حيث يقول: "إن طبيعة الصورة حسيّة وأنها تعزل
وتعيّن، أما طبيعة الموسيقى فتجريدية". ويخلص إلى القول بأن
السينما تخاطب حاستي البصر والسمع في الوقت نفسه مع الأخذ بعين
الاعتبار أن أعيننا قد تدربت على الصورة لكن آذاننا لم تتدرب بما
فيه الكفاية.ثم يستشهد الزبيدي برأي روبرت بريسون الذي يقول:
"فالعين عموماً سطحية، بعكس الأذن التي هي عميقة وخلاقة. إن صفير
قاطرة يخلق في تصورنا صورة محطة قطارات كاملة".
يتساءل الزبيدي في مقالته الخامسة: متى نسمع الموسيقى وأين؟
مُذكراً إيانا بأن الموسيقى قد طُبعت على شريط السليلويد عام 1926،
ثم ظهر نوع من الموسيقى أخذ يشكِّل مع الصورة تدريجياً وحدة درامية
غنية ومتنوعة. تُرى، هل يستمع المُشاهد إلى الموسيقى حينما يلج
صالة السينما؟ أو بالأحرى هل يتذكر المُشاهد بعد خروجه من صالة
السينما أنه قد استمع إلى موسيقى بعينها؟
وفي إطار الحديث عن الموسيقى يتوقف الزبيدي في مقالة مهمة تكشف عن
متابعته الدقيقة لغالبية الكتب السينمائية التي تصدر في العالم
العربي تحديداً وبعضها الآخر الذي يصدر في الغرب الأوروبي. ومن بين
هذه الكتب كتاب "مخرجون واتجاهات في السينما المصرية" الذي يشير
فيه إلى إهمال الناقد المصري البارز سمير فريد لدور الموسيقى
ووظيفتها الدرامية في الأفلام الـ 75 التي تناولها في كتابه
المذكور سلفاً والذي يتمحور على 20 مخرجاً مصرياً عُرضت أفلامهم
بين عامي 1971 و 1999. إذن، على النقاد أن يعلِّموا المُشاهد أهمية
وظيفة الموسيقى في الفيلم لأنها عنصر درامي مثلها مثل بقية عناصر
التعبير السينمائي التي تُسهم بنصيبها في السرد. ومع ذلك "يظل فن
دمج الأصوات الموسيقية بالصور السينمائية فناً غامضاً" كما يذهب
المؤلف الموسيقي آرون كابلاند. وخلاصة القول في هذه المقالة أن
الناقد سمير فريد "يكتب بطريقة عابرة عن موسيقى الأفلام". الملاحظة
المنهجية الرئيسة في هذه المقالة أو سواها من المقالات الأخر أنّ
الحديث عن الناقد سمير فريد سوف يتكرر بطريقة إيجابية غالباً مع
بعض الانتقادات الخفيفة هنا وهناك. كما سيتكرر الحديث عن نقاد
آخرين مثل الأردني عدنان مدانات والبحريني أمين صالح، والمصري علي
أبو شادي وغيرهم لكن هذه الإشارات لا تنتظم في فصول محددة، وإنما
بعثرها الكاتب بين ثنايا مقالاته التنظيرية غالباً والتطبيقية في
بعض الأحيان الأمر الذي حرمنا فيه من دقة التبويب سواء على صعيد
الموضوعات أم التنظيرات أم على صعيد النقاد والمؤلفين عرباً وأجانب.
الصور المتحركة
يوجز الزبيدي قصة الصور المتحركة بطريقة مقتضبة حينما يقول بأن كل
شيئ متحرك كان يغري الناس بالذهاب إلى السينما. وبما أن السينما هي
اختراع تمّ في وقت واحد في فرنسا وإنكلترا وألمانيا فإن تطويره كان
من مسؤولية الجميع حيث تمّ إدخال اللوحات المكتوبة في سياق المادة
المُصورة على شريط الفيلم وقد ساعدت على سرد الأحداث والتعقيب
عليها كما فعل المخرج الفرنسي جورج ميليه صاحب الفيلم الروائي
الأول. ثم أحدث المخرج الأميركي أدوين بورتر تغييراً نوعياً في
السرد البصري بواسطة قدرة المونتاج ووظيفته في بناء القصة
السينمائية عن طريق التتابع وفقاً للترتيب الزمني كما في فيلم
"سرقة القطار الكبرى"، لكنه واظب على بناء مَشاهد الفيلم بالأسلوب
المسرحي وحافظ على تصويرها من موقع واحد وزواية واحدة. أما المخرج
الأميركي د. دبليو. غريفيث فقد حطّم كل طرق البناء المسرحية
واستعمل وسائل تعبير فيلمية بشكل بليغ ومُبتكر، وجعل السينما فناً
مستقلاً، ليثبت أنه الأب الشرعي لهذا المولود الجديد.
يثني الزبيدي على جهود الناقد عدنان مدانات لترجمته كتاب "أحاديث
حول الإخراج السينمائي" لميخائيل روم الذي "يرى في السينما وسيلة
للفُرجة وليست للإصغاء، وتكمن عظمتها في أنها مرئية". كما تحدث عن
معنى المونتاج وأوجز فيه فكرة الحركة التي تنشأ عن جمع لقطتين.
وينتقل هذا الثناء إلى الناقد السينمائي البحريني أمين صالح الذي
ترجم كتاب "النحت في الزمن" لتاركوفسكي وسوف يترجم كتباً أخرى سوف
يتوقف عندها الزبيدي لاحقاً وهي تتوفر على قدر كبير من الدقة
والسلاسة والأمانة العلمية للغة السينمائية ومصطلحاتها الدقيقة.
قادة الفكر السينمائي
يتكون الفصل الثاني من ثمان مقالات بعضها ينطوي على إغراءات كثيرة
مثل مقالة "كتاب قديم وجديد" التي يعرِض فيها كتاب "فن الفيلم،
سيناريو، إخراج، مونتاج" لمصطفى حسنين الصادر بالقاهرة عام1951.
ويصفه بأنه "كتاب فريد حقاً" لأنه يقوم على بحث علمي شامل لحرفية
الفيلم، كما يتضمن عروضاً لآراء قادة الفكر السينمائي في العالم
بدءاً من سيرجي آيزنشتاين وبودفكين، مروراً بآرنهايم وغريفيث وبول
روثا وانتهاء بروجر مانفيل ورينيه كلير. هذا إضافة إلى إشارته إلى
المنظِّر المجري الطليعي بيلا بالاج الذي سعى إلى تأسيس نظرية
شاملة عن السينما ولا يزال مجهولاً إلى قرّاء العربية مع الأسف
الشديد. ولعل أهم ما في كلمة التمهيد في هذا الكتاب هو دعوة المؤلف
إلى استقلال السينما عن باقي الفنون الأخرى وخاصة المسرح.
في "عالم الضوء والظلام" يحدثنا المؤلف أ. فوغل، بترجمة أمين صالح
أيضاً، عن الكيفية التي يلتقي فيها النقيضان في السينما وهما
التكنولوجيا والميتافيزيقيا، العقلاني واللاعقلاني؟ وكيف يستسلم
المُشاهد إلى الوهم ويغيب عن عالمه الواقعي؟ تتجاوز ثيمة الكتاب
هذه المتضادات الصريحة لتتمحور حول التحول من التابو إلى الحرية.
ويصف المؤلف هذا الالتقاء الساحر بين الضوء والظلام بالعالم الذي
نفقد فيه ذواتنا، ونحرر لا شعورنا من الكوابح العرفية بينما تُكبت
ملكاتنا العقلية وتٌصبح أسيرة للقمع الاجتماعي.
يقول جان متري في كتابه "علم نفس وعلم جمال السينما" بأن الفيلم هو
صور لشيئ ما. وهذه الصور تترتب سردياً في منظومة غرضها الوصف،
وتقديم التفاصيل، وسرد حادثة أو حوادث متعددة. ويصف السينما بأنها
"تُشبه الواقع على طريقة الصورة المنعكسة في المرآة". علماً بأن
متري كان صارماً في التحقق من ذاكرته فقد كان يعاود مشاهدة الفيلم
سبع أو ثماني أو ربما تسع مرات ليتوصل إلى أن الصورة ليست علامة
كاللفظة وإنما هي واقع مادي، وإن شئتم فهي لغة من درجة ثانية.
يمكن اختصار الثيمة الرئيسة التي تتمحور عليها مقالة الزبيدي عن
كتاب "فلسفة الصورة - الحركة" لجيل دولوز، ترجمة حسن عودة بثلاث
صور وهي: صورة الإحساس "اللقطة العامة" لفيرتوف، وصور الفعل
"اللقطة المتوسطة" لغريفيث، وصور العاطفة "اللقطة القريبة" لدراير.
يؤكد الزبيدي بأن الزمن لا يتقدم من الحاضر إلى المستقبل إلاّ
خطياً ولا يمكن عكس حركته لكن السينما ابتكرت مستويات مختلفة تمكن
فيها عكس حركة الزمن مثل خلق انطباع بالعودة إلى الماضي، كما
استعملت في السينما تقنيات مبتكرة للزمن مثل التوازي أو التزامن أو
التذكر أو التصور أو حتى عن التوقع لحدث سيأتي في المستقبل وهكذا
أتاحت السينما للأدباء التغلب على مفارقات بناء الزمن السردي في
الوسيط الأدبي.
يختم الزبيدي هذا الفصل بمقالة عنوانها "صورة الماضي والحاضر"
مُركزاً فيها على فكرته الأساسية التي يقول فيها ليس مهماً أن يصبح
مفهوماً من قِبل الجميع "لأن العمل الفني لا يمكن اعتبارة سلعة
استهلاكية" وبالتالي فهو لم يؤمن البتة بوجود شكل فني محدد لفيلم
يستطيع أن يفهمه الجميع.
الطابع التنظيري
يتألف الفصل الثالث من ثمانية موضوعات رئيسة يغلب عليها الطابع
التنظيري حيث تنضوي المقالة الأولى تحت عنوان "ستة مناهج" وهي
الشكلي، التاريخي، القومي، الإخراجي والآيديولوجي ولم أعثر على
المنهج السادس الذي سقط سهواً على ما يبدو!
يخوض الزبيدي في تعريفات عدّة للمنهج لكن التعريف الأشمل والأدق هو
"الطريق الواضح الذي يسلكه المرء في بحثه الأدبي لبلوغ المعرفة أو
للبرهنة على الحقيقة". وتجدر الإشارة إلى جمالية البيت الشعري
لابن الرومي الذي يقول فيه: "أمامك فأنظر أيّ نهجيْك تنهجُ/ طريقان
شتّى: مستقيمٌ وأعوجُ".
يذكِّر الزبيدي بأن منهج ديكارت يعتمد على أربع قواعد وهي قاعدة
البداهة والتحليل والتركيب والاستقراء. ثم يلفت اهتمامنا إلى خطأ
الاعتقاد باستقلالية النص، ويشير إلى أن التناص بحسب جوليا
كريستيفا هو "فسيفساء من نصوص أخرى أُدمجت فيه وانسجمت مع فضاء
بنائه بتقنيات وبكيفيات مختلفة". ولابد أن نتذكّر في هذا الصدد
جملة بريشت الطريفة التي يقول فيها: "أنا أفكِّر برؤوس الآخرين،
والآخرون يفكرون برأسي، وهذا هو التفكير الصحيح". فيما يحذِّر
الدكتور أحمد عُلبى من "التفكير بعقول الغير" رغم أنه يقبل بأن
يأخذ أحدنا من غيره شرط أن يُعمِل عقله في ما أخذه من وجهة نظر
نقدية.
ينوّه الزبيدي في مقالة "صباح الخير أيتها السينما" إلى الدراسات
الطليعية التي عالجت الفضاء الفني "المكان" والحركة "الزمان"
ودورهما في تنظيم إيقاع الفيلم وترتيب استمراريته. ومع انطلاق فيلم
"ولادةأمة" لغريفيث أشرق صباح الفن السابع في السينما الروائية.
السينما التجريبية
لا تستطيع الفنون برمتها، ومن بينها السينما، أن تنأى بنفسها عن
التجريب. فلقد ابتعد المخرجون التجريبيون عن القصة والحبكة
الواقعية السائدة في الفيلم الروائي، وجرّبوا عن طريق الصورة
اكتشاف جماليات الحركة والمتناسقات البصرية. ويشير الزبيدي إلى أن
نورمان مكلارن قد تابع خطى ريشتر واستمر في التجريب لأكثر من أربعة
عقود صنع فيها أفلاماً من دون كاميرا حيث أخذ يرسم بيده على فيلم
شفاف رسوماً متحركة، وابتدع صوتاً موسيقياً كان ينحته على شريط
الفيلم نفسه. وفي السياق ذاته يشير جان متري إلى أن السينما قد
حاولت اكتشاف فنها الصرف وتخليصه من الأشياء اللافيلمية "إلا أنه
جرّ الفيلم إلى تكوينات فن الرسم وفن الموسيقى، وطبقت في تجاربها
كل ما كان غريباً على فن السينما". ويعتقد آيزنشتاين بأنه "من
الخطأ أن يُفرض على فن من الفنون تبنّي قوانين خاصة بفن آخر". ومع
ذلك فإنّ التجريب قائم على قدم وساق على الرغم من أن السينما هي فن
الواقع بامتياز!
وفي سياق الحديث عن التجريب يناقش الزبيدي كتاب "منطق السينما
التجريبية" وهو أطروحة تقدمت بها الباحثة العراقية بان خلف الجبوري
إلى كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد لنيل درجة الدكتوراه.
والكتاب كما يزعم الدكتور طه حسن الهاشمي هو "محاولة جديدة لفهم
التجريب بشكل خاص في الفيلم الروائي في علاقته الجدلية ما بين
اللغة السينمائية والشكل الفيلمي والسرد السينمائي". ويرى الزبيدي
بأن الباحثة قد استعملت رؤوس الآخرين بشكل مضنٍ جعلت دراستها تخضع
إلى الكثير من التعسف والمخاطر حيث استعملت 127 مصدراً مناسباً
وغير مناسب في الوقت ذاته بينما كان يتوجب عليها أن تتوخى الدقة
والموضوعية والإيجاز.
يتمحور كتاب "الاستعارة في لغة السينما" لتريفور وإيتوك على أفكار
ومضامين عديدة من بينها عناصر سردية الفيلم التي أوجزها بتيارين
حيث يقوم الأول على ابتكار أساليب تعبير من "النثر" والثاني من
"الشعر" وهذا لا يمنع في أكثر الأفلام نثرية أن نجد مشاهد مبتكرة
تنتمي إلى الشعر.
يشير الزبيدي إلى أن السينما توظف دوّالها بطريقة "التعيين" أي
المعنى الحرفي للصورة، والثانية بطريقة "التضمين" أي المعنى
المبتكر للصورة، فالأولى حقيقية بشكل تدل فيه على ما تقوله،
والثانية مجازية تدلّ فيه على غير ما تقوله. وغالباً ما يستعمل
تيار التضمين عناصر تعبير شعرية كالاستعارة والمجاز والكناية
والرمز. يلفت الزبيدي كعادته عناية القارئ إلى أن الترجمة التي
قامت بها السيدة إيمان عبد العزيز لهذا الكتاب الذي راجعه الناقد
سمير فريد هي ترجمة غير موفقة ففيها أخطاء جديرة بالتنبيه ووصفها
بأنها مصدر معاناة للقارئ العربي في قراءاته للكتب المترجمة التي
لا تتوخى الدقة في ترجمة المصطلحات السينمائية.
التذوّق السينمائي
يمكن اختصار ثيمة كتاب "التذوّق السينمائي" لآلان كاسيبار بالسؤال
المهم الذي طرحه يوري لوتمان قائلاً فيه:"كيف يمكن جعل السينما
التي بلغت درجة عالية من التعقيد السيميائي الدلالي في متناول
جمهور شديد التفاوت في مستواه الثقافي؟" ويجيب أستاذ السيناريو سيد
فيلد" أن قدرة الجمهور في فهم الفيلم ومعرفته بعناصر الشكل والحدث
والشخصية والموقف تجعل من الفيلم فيلماً جيداً، وتخلق جمهوراً يقرأ
ويقوِّم ما يشاهد حينما يذهب إلى السينما". فكلما عرف الجمهور خواص
الفيلم تيسر له فهمه وحصل باستمرار على متع جمالية عديدة في أثناء
المُشاهدة.
يتناول الزبيدي في مقالة "السينما والحداثة" كتاب "ما بعد الحداثة
والسينما" لعلاء عبد العزيز السيد مُبيناً كيفية نقل العالم
الميكانيكي إلى العالم الإليكتروني الافتراضي وشارحاً لنا الطريقة
التي أصبح فيها الإيمان بعقل الكائن الإنساني بديلاً للإيمان
الديني بمجرد قدوم الحداثة وإطلالتها علينا. كما نوّه إلى انتشار
أفلام سينما الحداثة في العالم منذ عام 1970 مثل أفلام ساتيجات راي
وأكيراكيراساو وغلوبير روشا وأندريه فايدا وتاركوفسكي التي أصبحت
كونية كالحداثة نفسها.
يُحيلنا الزبيدي إلى ألبرت آنشتاين الذي يقول بأنه الأفكار نادراً
ما تأتي ولهذا فهو يتذكرها جميعاً ولا يحتاج لأن يدوّنها على ورقة
أو حتى على كُم قميصه الأبيض! والقواعد مثل الأفكار يصنعها
العباقرة أمثال ستانسلافسكي، آيزنشتاين، تشيخوف، شكسبير وغيرهم،
أما الصناعة فقد بسّطت السحر إلى مستوى وجبات الطعام السريعة.
تتمحور مقالة "متعة المشاركة في اللعبة" على الفرق بين السيناريو
والنص النثري، فالاختلاف بينهما كبير كاختلاف الليل والنهار، لكن
الفرق الأساسي يكمن في "الحكاية الممتعة التي تستحوذ على اهتمام
المتفرج".
ما السينما؟
يتضمن الفصل الرابع عدداً من المقالات المكثفة وقد جاءت أولى هذه
المقالات بصيغة استفهامية مفادها: ما السينما؟ وهل هي فن أم أنها
شيئ آخر؟ ويجيب جان رينوار قائلاً: "ليس الفن مهنة من المهن، إنه
الطريقة التي تمارس بها مهنة". وقد كتب فرانسوا تريفو في مقدمة
كتاب بازان عن رينوار بأنه "أعظم سينمائي في العالم" لكنه لم ينس
فضل غريفيث فقد تعلّم منه ما كان عليه أن يتعلمه في هوليوود، "وأنه
يدين له بالفضل لما تعلّم منه من الناحية التقنية، ومن إنجازه في
ابتكاره للسينما بعيداً عن المسرح".
يؤكد الزبيدي في مقالته "من الكتابة إلى الإخراج" على أنّ بازان هو
الأب الروحي لتيار الموجة الجديدة التي تقوم على ثلاثة معطيات
أساسية تتمحور جميعها على مؤلف الفيلم الذي يروي سيرته الشخصية
بضمير المتكلم ولا يتحدث إلاّ عن الأشياء التي تعبِّر عن أفكاره
ولا يتيح لشخصياته أن تتحدث إلاّ عن آرائه مهما تغيرت طبيعة أفلامه
وتنوعت مصادرها. لابد من الإشارة في هذا المضمار إلى أنّ مخرجي
الموجة الجديدة قد وقفوا ضد الوجوه التقليدية، وبدأوا يبحثون عن
وجوه جديدة متأثرين بأسلوب الواقعية الجديدة. كما أنهم اختاروا
شخصياتهم من الهواة، وأسندوا الأدوار الرئيسة والثانوية إلى
المغنين والأدباء والكُتاب.
دعا الناقد ألكسندر أستروك إلى بدء عصر جديد للسينما أطلق عليه اسم
(الكاميرا - قلم) الذي"تنبأ فيه بأن السينما سوف تتحرر تدريجياً من
طغيان كل ما هو بصري، ومن الصورة، ومن المقتضيات الملحّة والملموسة
لسرد القصة لتُصبح وسيلة كتابة تماماً بنفس مرونة اللغة ودقتها".
تُرى، هل ستجد هذه النبوءة طريقها إلى أرض الواقع أم أنها مجرد
أضغاث أحلام لا غير؟
يناقش الزبيدي في مقالته الأخيرة في هذا الفصل "سينما المؤلف" التي
تتمحور على العامل الشخصي. ثم ينتقل للحديث عن موهبة غودار
ونجوميته حيث يعتبر (مصدرها طبيعة أفكاره الألمعية المُتضادة التي
بدأها منذ نجاح فيلمه الروائي الأول "اللاهث"). لابد من الإشارة
إلى كتاب "غودار يكتب عن غودار" الذي يقول فيه: "أن المونتاج هو
فوق كل شيئ جزء مكمّل للميزان سين لا يمكن فصلهما عن بعض، كما لا
يمكن تماماً لأحد أن يحاول فصل الإيقاع عن اللحن". ويضيف بما
معناه: "إذا كان الإخراج نظرة فإن المونتاج هو خفقان القلب". |