أسماء البكري.. رحيل الساخرة النبيلة
زياد عبدالله
إنه نائم على الأرض وما من شيء يفصله عن البلاط إلا صحف مكدّسة
اتخذها فراشاً له، ثم فجأة تدخل غرفته مياه ممزوجة بالصابون، وما
أن يتقلّب حتى يتبلل بتلك المياه ويستيقظ، إنه صلاح السعدني،
والمياه قادمة من غرفة مجاورة يجري فيها تغسيل جثة ميت ونساء على
الباب غارقات في العويل.. يا له من مشهد! يا لها من بداية!
وما إن يرد خبر رحيل المخرجة حتى يطفو اسم أسماء البكري ويحتل
الذاكرة، خارجاً من أول أفلامها الروائية الطويلة "شحاذون ونبلاء"
(1991).
المخرجة المصرية (مواليد 1947) التي رحلت عن عالمنا الذي يسوده
العنف ويستدعي السخرية كما هو عنوان فيلمها "العنف والسخرية" 2003،
قدّمت خيارين في مجابهة التسلّط والاستبداد، إذ إن العنف لا يولّد
إلا العنف، أما السخرية فلها أن تكون أداة نبيلة في مجابهته.
كانت البكري مثالاً صارخاً على المخرجة المنغمسة في التقاط المفاصل
الإشكالية في البنية الثقافية والاجتماعية في مصر والعالم العربي،
واتصالها بالاقتصادي والسياسي، وهي مأخوذة بتقديم ذلك في سياق
اشتغال فني على الصورة. وإن كان لها ألا تكون بعيدة عن "الواقعية
المصرية"؛ فإن أفلامها أخذتها إلى مساحات تتشابك برصد جوانب أشدّ
تعقيداً وعمقاً وانشغالاً بالشكل، حيث تكون الحارة المصرية معبَراً
نحو مآزق ثقافية وفكرية تجعل شخصياتها من لحم ودم، ونموذجية في آن.
ما بين "نبلاء وشحاذون" و"العنف والسخرية" – كلاهما مقتبسين عن
عملين للروائي المصري - الفرنسي ألبير قصيري (1913 – 2008) - قدّمت
البكري "كونشيرتو درب السعادة" (2000)، وهنا يمكن للطبقة الفقيرة
أن تكون على اتصال بالمجتمع المخملي أو النخب الثقافية "الكومبرادورية"
وهي تروي علاقة الموظف البسيط في دار الأوبرا، عبد التواب (صلاح
السعدني) مع مغنية الأوبرا الفرنسية المصرية، والمتاهة التي يغرق
بها وهو ينفتح على عالم مغاير تماماً عن الذي يعيشه.
أنجزت أسماء البكري أكثر من 15 فيلماً وثائقياً قصيراً مثل "قطرة
ماء" (1979)، و"دهشة" (1981)، و"بورتريه" (1983)، و"الظاهر وخام"
(1983) وغيرها، وعملت مخرجة مساعدة مع مخرجين أبرزهم يوسف شاهين في
"عودة الابن الضال" و"وداعاً بونابرت". رحلت ولم تنجز الفيلم الذي
صرّحت منذ عامين بأنها في صدد التحضير له، وهو مقتبس عن رواية بهاء
طاهر "خالتي صفية والدير".
سينما الروحانيات... هوليوود وقصص الأنبياء
هاني بشـر
أحيا الجدال حول فيلم الخروج، "آلهة وملوك"، والذي يحكي قصة النبي
موسى عليه السلام، نقاشا قديما حول تجسيد الأنبياء على الشاشة،
لكنه جدال لم ينفذ بعد إلى عمق ما وصلت إليه السينما في العالم،
فيما تعلق بالجوانب الدينية والروحية. فالفنون، بشكل عام، تعتمد
على ما هو جواني، لتمس مساحة غير ملموسة داخل النفس الإنسانية.
وتمثل السينما أحد المراحل المهمة التي وصلت إليها البشرية في
الفنون المركبة، وهي الجمع بين فنون مختلفة على صعيد واحد غير
ملموس مادياً. فهي تشكل نمط المسرح بممثليه. ولكن، في فضاء أقرب
إلى تجسيد الواقع، بالإضافة إلى الموسيقى والإضاءة والحبكة القصصية
في مواقع متغيرة... إلخ. ولهذا، تتعامل السينما مع السمع والبصر
والفؤاد، لأن التأثير المباشر في المشاعر الإنسانية مقصد لصانع
الفيلم ترهيباً وإسعاداً وتشويقاً باستخدام كل المؤثرات السابق
ذكرها. فالجمهور قد يتفاوت تقديره الجمالي للوحة المرسومة مثلاً؛
لكن الموسيقى التصويرية المصاحبة لحدث مفاجئ يخترق رتابة السياق
الدرامي كافية لخلع قلب المشاهد، حتى لو لم يعجبه الفيلم.
ولمّا كانت السينما تدق على هذه الأوتار، في مكان وزمان واحد،
فإنها تقترب بذلك من تلك المساحة داخل النفس الإنسانية المخصصة
للجوانب الروحية. وقد اهتمت دراسات أكاديمية عديدة في الغرب بمسألة
السينما والروحانيات من زاويتين. أولهما دور السينما في تشكيل هذا
الجانب عند المتلقي، أي وسيلة للدخول إلى عالم آخر روحاني سامٍ،
وثانياً دور السينما في تجسيد الروحانيات على الشاشة.
"النظرة
الشائعة للسينما على أنها عمل ترفيهي بحت، أو أداة تغيير لحظي في
المجتمعات تحد من إمكانية استفادة الجمهور العربي والمسلم منها"
قبل أشهر قليلة، نشب نقاش حامِ حول فيلم نوح مثلاً، والذي يعد أحد
نماذج العلاقة بين السينما والروحانيات. فالفيلم يعتمد على قصة
نوح، عليه السلام، وركّز على الجانب الأشهر في القصة، وهو بناء
السفينة والطوفان. وتعد القصة من القصص الديني المشترك عند
الديانات السماوية الثلاثة. كما تعد نزوعاً واضحاً من السينما
المعاصرة إلى تجسيد الشوق الروحي الذي يمثل ظاهرة لدى فنانين
غربيين كثيرين، أخيراً، وهو اتجاه روحي قد يتقاطع مع الأديان
أحياناً، وقد يمثل ممارسة روحانية صوفية مستقلة عن الأديان
المعروفة في أحيان أخرى.
حاول فيلم نوح تلافي الجدال الديني؛ فلم يسمِ نوحاً عليه السلام
بالنبي خلال الحوار، وحتى الله، سبحانه وتعالى، عبّر عنه بكلمة
الخالق فقط؛ في محاولة لتجريد القصة من تفاصيلها التي تدخل بالعمل
الفني إلى مساحة الجدال الديني واللاهوتي حول الروايات المختلفة
لقصة نوح عليه السلام. أما أن المخرج نجح فنياً في هذا أو أخفق،
فهذه مسألة أخرى، تتعلق بتفاوت الذائقة الجمالية لكل متلق على حدة
ورأي النقاد. وبقيت عناصر القصة الأساسية حاضرةً وبقوة في الفيلم،
من حيث مركزية شخصية النبي نوح عليه السلام، وخطايا بني آدم التي
ملأت الأرض ومراحل بناء السفينة وسخرية قوم نوح منه وعصيان ابن نوح
له، والطوفان بسيوله المنهمرة، وعيون الأرض المتفجرة والحيوانات
المحمولة في السفينة. وكان واضحاً أن كاتب العمل متأثر بالقصة التي
وردت في الإنجيل، من دون أن يصرح أو يلمح بهذا في العمل.
يمكن وضع الفيلم كأحد المحاولات المهمة في السينما لمعالجة القضايا
الروحية، لولا الجدل الذي أثاره في بقاع مختلفة، كالنقاش الحالي
حول فيلم الخروج، آلهة وملوك، محيياً إشكاليتي رقابة الدولة على
الفنون ودور الفتاوى الدينية في هذا الإطار. ولأن مركز النقاش في
الساحة العربية والإسلامية تلافى، أحياناً كثيرة، أصل المشكلة
والخلاف حول هذه القضايا، فنحاول أن نركز على ما هو غائب في النقاش
بشأن مثل هذه الأعمال السينمائية.
١- إذا بدأنا بما هو ديني، فمن المعروف أن السينما من الفنون
المستحدثة، ويحتاج المفتي للقيام بعملية اجتهاد وقياس، لإصدار حكم
شرعي بشأنها. ولأن القاعدة الفقهية تقول إن الحكم على الشيء فرع عن
تصوره، فإن خوض الفقيه في هذه المساحة يلزمه أن يلم بجوانب هذا
الفن، من ناحية آلية صناعته ودرجة تأثيره. والإلمام بنظرية الفيلم،
مثلا، في هذا السياق، ليس ترفاً لكنه ضرورة؛ إذ لا يفلح مجرد
القياس على الصورة المرسومة أو التمثال، وهي النماذج الفنية
المتداولة في معظم كتب الفقه. وهناك شك في توفر السينمائي الفقيه
أو الفقيه الملم بالسينما. وبالتالي، تظل عملية إنزال الحكم الشرعي
على هذه الحالة تحوطها الشكوك وجوانب النقص، خصوصاً وأنها، في
أحيان كثيرة، تتناول السيناريو أو الصورة المعروضة، مع إغفال
السياق الدرامي ونوعية الموسيقى وترتيب الأحداث. وكلها عوامل
أساسية في الحكم على أي فيلم. فضلا عن الدخول بالحكم الفقهي،
المبني أصلاً على ظواهر الأمور، إلى مرحلة النيات والأحاسيس، وهي
أمور قلبية محضة.
كان يمكن إدانة فقهاء كثيرين متصدرين لمثل هذه الفتاوى، من دون
الإلمام بهذا التخصص، لولا وجود طبقة من السينمائيين في الشرق
مسكونة بحتمية تحطيم التابو الديني، في ظل الكلفة الباهظة لتحطيم
ما سواه من تابوهات سياسية لا تتسامح معها الأنظمة أو تابوهات
اجتماعية محضة لا يقبلها الجمهور. وبالتالي، نزعت هذه الطبقة إلى
إشهار سيف حرية التعبير في وجه أي اعتراض على أعمال سينمائية،
تتناول الأديان، وتنجز في بيئات غير ديموقراطية أصلاً، بغض النظر
عن قيمتها الفنية. ليبقى أصل النزاع منحصراً بين المدافعين عن قيم
التراث والمنتقدين له باسم الفن، في غياب لنقاش سينمائي فني رصين.
وهو نزاع فوّت فرصة التعامل مع سينما الروحانيات. هذا النوع من
السينما الذي تجاوز نطاق السينما البديلة، أو المستقلة، في العالم
ليدخل إلى مجال صناعة السينما الثقيلة في هوليوود، وتجسّد في فيلمي
نوح وآلهة وملوك الذي يعرض قصة سيدنا موسى عليه السلام. وهناك حتى
تجارب لجمعيات أهلية في هذا الإطار، مثل المهرجان الأوروبي للسينما
الروحية ونادي السينما الروحية الذي يجمع محبي هذا النوع من
السينما، في إطار محاولات للخروج بالسينما من نطاق تجارية سينما
أفلام الشباك إلى جوهر السينما المتحررة من قيود السوق.
٢-سياسياً، هناك مشكلة تتعلق بالسينما، وبالإعلام المرئي بشكل عام
أيضاً، في العالمين، العربي والإسلامي، تتلخص في أن العلاقة بين
الجمهور والإعلام ينظر إليها كعلاقة الإمام بالمأموم أو الحاكم
بالمحكوم. وهي إشكالية تاريخية تتعلق بالشكل الذي دخلت هذه الفنون
المستحدثة إلى مجتمعات لم تمسك بعد بزمام أمورها، ولا تزال الدولة
تفرض على أفرادها وصاية سياسية، وأحيانا دينية، وبالتالي، العلاقة
بين الجمهور وهذه الفنون على علاقة ذات اتجاه واحد من أعلى إلى
أسفل. أي من السلطة أياً كان شكلها، وعبر مقص رقيبها قبل أن تصل
إلى المتلقي. حتى إن محاولات الإصلاح في هذا المجال لم تخرج عن هذا
الإطار وتلك الطبيعة في العلاقة. فكثيرون يطمحون إلى إصلاح أحوال
الفنون بإصلاح مقص الرقيب، ونشر فنون ذات مواصفات معينة، وليس
تمكين المجتمع من التعبير عن نفسه بحرية، وأن يصبح الفن مرآة
جمالية معبرة عنه، شأنه في ذلك شأن الشعر قبل قرون مثلاً. ومن هنا،
كان البون الشاسع بين الشرق والغرب في صناعة واستيعاب والتعامل مع
فن السينما. فالسينما دخلت إلى الغرب، بعد عمليات التحول
الديموقراطي، وأتت دائماً من أسفل إلى أعلى، ولا ينظر لها على أنها
إمام يعظ، ولكن مجرد تعبير عن ذائقة المخرج الجمالية، وفق قواعد
فنية معينة يقبلها الجمهور، أو يرفضها، من دون فرض نمط من التفكير
عليه.
3- إن النظرة الشائعة للسينما على أنها عمل ترفيهي بحت، أو أداة
تغيير لحظي في المجتمعات تحد من إمكانية استفادة الجمهور العربي
والمسلم منها. فجمعيات كثيرة في العالم تتعامل مع السينما أداة
للعلاج والتغلب على المشكلات الشخصية. وأيضا طريقة للارتقاء والسمو
الروحي، عبر الأبعاد المتعددة للجمال التي تعرضها السينما من قصة
وصور وشخصيات وموسيقى... إلخ. وفي نهاية الأمر، الفيلم، بشكل عام،
قطعة جمالية فنية قابلة لتأويلات عديدة، وقد وقعت ضحية أوضاعنا
السياسية والفقهية الحالية.
الديكتاتور بين الحقيقة والخيال السينمائي
مالك أبو عريش (فلسطين)
عندما شاهدت الفيلم المصري "الديكتاتور" للمرة الأولى، كان الرئيس
السابق محمد مُرسي على رأس السلطة في مصر. كنت أقول إن الأمور في
مصر انتهت، ولم تكن نهايتها كما كانت في الفيلم، فنهاية الفيلم
كانت غريبةً، وغير منطقية بالنسبة إلى متابعٍ للسينما المصرية. وفي
الوقت نفسه، كنت أقول إن الواقع يختلف كثيراً عن عالم الأفلام
السينمائية، لذلك، نجحت الثورة، وعاش الجميع بسلام.
عام واحدٌ بعدها، كان ثمة إصرارٌ على تغيير قناعتي، فالنهاية
السينمائية التي كانت في الفيلم أصبحت حقيقةً واقعة، فقد تعاون
بعضهم من أجل إعادة الديكتاتور "نفسه" إلى سدة الحكم، وفشلت
النظرية السينمائية التي تبيحُ للجمهور مشاهدة نهايةٍ سعيدة، لتصبح
الثورة المصرية "25 يناير" ليس أكثرَ من مجردِ فاصلٍ إعلاني بين
جزءي فيلم الديكتاتور، ولتكون النهاية الحقيقية النهاية
السينمائية.
كان من حقِ الممثل القدير، حسن حسني، في نهاية الفيلم، أن يسمي
عودته إلى الحكم ثورةً، كما كان من حقه أن يبحث عن آسره، ويتهمه
بمحاولة الانقلاب ويحاكمه على ذلك، طالما أن لديه عسكراً ينفذون
أوامره، ويحافظون على استقرار "بامبوزيا".
كل هذا طبيعيٌ في ظل صراعات على السلطة في البلاد العربية. ولكن،
ما أثار استغرابي استمرار المسيرات الرافضة لحكم عبدالفتاح السيسي
والعسكر، والمؤيدة لمُرسي والإخوان المسلمين، في مُدن وقرى مصرية
كثيرة، على الرغم من مرور عام ونصف على الانقلاب العسكري، وعلى
الرغم من استمرار سقوط المتظاهرين برصاص الأمن المصري، يوماً بعد
آخر.
وما يزيد استغرابي، انخفاض حجم التغطية الإعلامية لهذه التحركات،
بشكلٍ مقصود أو غير مقصود، محاولين إقناعنا وإقناع المتظاهرين بأن
إجماعاً خارجياً يوافق على وضع نهايةٍ غير سعيدةٍ لهذا الواقع الذي
يتحول، شيئاً فشيئاً، إلى سينما درامية.
ولكن، ما جعلني أشعر بسعادةٍ بالغة استمرار التظاهرات، على الرغم
من كل الشهداء الذين قدمهم الشعب المصري، وعلى الرغم من رصاص
العسكر، وعلى الرغم من المؤامرات الخارجية، وعلى الرغم من المدة
الطويلة، والإصرار من نساء وأطفالٍ وشبان على تغيير النهاية، قبل
تغيير القضية.
حصاد 2014:
هوليوود تمر بمنعطف تاريخي والفضل يعود لفيلم «اللقاء»
من حسام عاصي: لوس أنجليس – «القدس العربي»
لا شك أن أهم حدث في هوليوود وعالم الأفلام عام 2014 كان اختراق
القراصنة لشبكة «سوني بكتشرز» الإلكترونية، الذي تحول من مشكلة
محلية إلى أزمة دولية، بعد أن هدد المخترقون بضربات إرهابية ضد دور
السينما، التي كانت تستعد لعرض الفيلم الكوميدي «اللقاء»، الذي
يسخر من زعيم كوريا الشمالية كيم جون اون، في عطلة عيد الميلاد.
الحكومة الامريكية اتهمت كوريا الشمالية بارتكاب الجريمة وتوعدت
بالانتقام، دون أن تقدم دليلا قاطعا يثبت التهمة.
ورغم تراكم الشكوك من قبل خبراء محليين وعالميين، الذين كشفوا عن
فجوات وتناقضات في تقرير المباحث الامريكية في هذا الصدد، أعلن
الرئيس اوباما فرض عقوبات اقتصادية جديدة ضد كوريا الشمالية.
أما على مستوى هوليوود، فان هذا الحدث سوف يترك اثرا مضاعفا على
منهج صناعة وتوزيع الأفلام ويحدث تغييرا جذريا في تعامل
الاستوديوهات مع صالات السينما، وذلك بسبب ما حققه «اللقاء» من
أرباح هائلة (15 مليون دولار خلال يومين) على المنصات الإلكترونية
مثل «يوتيوب» و»اكسباكس» و»غوغل». هذه الأرقام هزت هوليوود وفتحت
عيون مسؤوليها لخيارات أخرى لعرض الأفلام، فضلا عن صالات السينما،
التي تفرض إرادتها على الاستوديوهات، مثل منع عرض الفيلم على أي
منصة أخرى لفترة 8 أسابيع بعد انطلاقه، وتأخذ نصف ايرادات شباك
التذاكر.
كما أن هناك تكاليف باهظة لعرض فيلم في الصالات، مثل شحن نسخة
الفيلم والترويج له. أما الآن فعلى صالات السينما أن تتنافس مع
المواقع الإلكترونية، الأقل تكلفة والأكثر ربحا لهوليوود، والتي
تمكن الجمهور من مشاهدة الفيلم على حاسوبات جوالة أينما أرادوا.
هذا التنافس سوف يفيد هوليوود ماديا ويعيد لها زمام التحكم بكيفية
وتوقيت عرض أفلامها.
هذا تطور مهم لهوليوود، التي عانت من هبوط ما يعادل 6 ٪ في إيرادات
شباك التذاكر عام 2014، وهو الأسوأ منذ 17 عاما. هناك اسباب عدة
لتدهور الإيرادات من أهمها مباريات كأس العالم لكرة القدم في شهري
حزيران/يونيو وتموز/يوليو، حين انطلاق عدد ضئيل من الأفلام الضخمة
التي عادة تدر الارباح العالية وانشغال الاجيال الشابة، الأكثر
استهلاكا للافلام، بتصفح الانترنت وخاصة مواقع التواصل
الإلكترونية. فلا بد أن هوليوود سوف تنظر في تزامن انطلاق أفلامها
في صالات السينما مع عرضها على المنصات الإلكترونية لضمان أكبر قدر
من الارباح، كما فعل المنتج المشهور هارفي واينستين هذا الصيف
لفيلم المخرج الكوري بونغ جون «ثاقب الثلج»، اذ قام بعرضه لفترة
أسبوع واحد في صالات السينما فقط، مثيرا غضب أصحابها، ثم علرضه على
المنصات الإلكترونية. وفي حديث معه، قال لي إن تلك كانت الوسيلة
الوحيدة لتفادي الخسارة، لأن تكاليف الترويج لعرض الفيلم على
المنصات الإلكترونية كانت أقل من 5 ملايين دولار، وهذا خُمس ما كان
سيكلفه لو عرضه في صالات السينما. هذه تطورات مبشرة للأفلام
المستقلة، التي لا تملك ميزانيات ترويج ولا يمكنها أن تنافس افلام
هوليوود في صالات السينما. هذه الافلام تبرز عادة من خلال اشتراكها
في مهرجانات سينمائية عالمية مثل «صندانس»، «برلين»، «كانّ»،
«فينيسيا»، «تورنتو»، «نيويورك» و»لندن»، التي تمكنها من الوصول
الى الاعلام والجماهير.
ولكن الاشتراك في مهرجان او الفوز بجوائزها ليس ضمانا لنجاح فيلم
في شباك التذاكر او لحمايته من الغرق في بحر النسيان. فعلى سبيل
المثال، «سوط» الذي حصد جائزة افضل فيلم في مهرجان «صندانس» و»سبات
شتوي» الذي مُنح السعفة الذهبية في مهرجان «كانّ» لم يحققا ارباحا
في شباك التذاكر، رغم أنهما قوبلا بمديح النقاد وتوّجا لاحقا
بجوائز قيمة اخرى.
طبعا خلافا لافلام هوليوود الاستهلاكية المدججة بالمؤثرات الخاصة
والخالية من مضامين مهمة، الأفلام المستقلة هي حصن فن السينما
وتخوض في قضايا اجتماعية وسياسية وانسانية، تنور الجماهير وتحثهم
على التفكير والتفاعل العاطفي.
ففي مهرجان «صندانس» شاهدنا فيلم المخرج ريتشارد لينكلاتر «الصبا»
الذي يسبر الوجدانية من خلال سرد قصة نضوج طفل من السادسة حتى
الثامنة عشرة من عمره، تم تصويره عبر 12 عاما. ومنذ عرضه الاول بات
الفيلم محبوب النقاد ونال جوائز قيمة عديدة ويتوقع أن يحصد جائزة
الأوسكار لافضل فيلم هذا العام.
وفي مهرجان برلين، برز فيلم المخرج ويز اندرسون «فندق بودابست
العظيم» الذي يتمحور حول صداقة حميمة وحافلة بالمغامرات بين مدير
فندق اوروبي ومهاجر عربي يشتغل عنده. الفيلم قوبل بحماس من قبل
النقاد والجماهير، وتصدر ايرادات شباك التذاكر في عدة دول وحقق
ارباحا لا بأس بها. ولاحقا حاز على ترشيحات وجوائز قيمة.
وقدم مهرجان كانّ السينمائي مائدة من الأفلام ذات نكهات مختلفة من
بلدان مختلفة. من ابرزها كان فيلم المخرج البريطاني مايك لي «السيد
تيرنر» ، و»صائد الذئاب» للمخرج الامريكي بينيت ميلر، و»خريطة الى
النجوم» للمخرج الكندي دافيد كرونينبرغ، و»أمي» للمخرج الكندي
خافيير دولان و»حوت» للمخرج الروسي اندري زفياغيرنتسيف، الذي فاز
لاحقا بجائزة افضل فيلم روائي في «مهرجان لندن السينمائي».
واستقطب فيلم المخرج المكسيكي اليخاندرو غونزاليس انريتو «الرجل
الطائر» اهتمام النقاد ورواد مهرجان فينسيا للافلام، وفي نهاية
العام تصدر ترشيحات جوائز الـ»غولدن غلوب». بينما كشف مهرجان
تورنتو في شهر سبتمبر/أيلول عن قائمة أفلام تستعد لخوض معركة
الجوائز، أبرزها كان «لعبة المحاكاة» للمخرج النرويجي مورتين
تيلدون ومن بطولة بيندكت كامبرباش وكيرا نايتلي، و»نظرية كل شيء»
للمخرج البريطاني جيمس مارش ومن بطولة ايدي ريدمين وفيليسيتي جونس
و»بري» للمخرج الكندي جون- مارك فالي ومن بطولة ريز ديذيرسبون.
هذه الأفلام، التي بدأت مسيرتها في المهرجانات السينمائية، تتصدر
الآن الترشيحات لجوائز مهمة مثل جوائز جمعيات النقاد في مختلف
المدن، وجمعيات الممثلين والمخرجين والمنتجين في هوليوود وجوائز
الغلودن غلوب. ويتوقع أنها سوف تبرز في ترشيحات جوائز الاوسكار
التي ستعلن بعد اسبوعين. ويذكر ان هذه الترشيحات هي مضخة الحياة
للأفلام المستقلة وبدونها يصعب عليها أن تحقق ارباحا في شباك
التذاكر، حسب رئيسة شركة فوكس سيرشلايت، نانسي اوتلي، التي قالت لي
قبل أسبوعين إن ايرادات فيلم «الرجل الطائر»، الذي انتجته، تضاعفت
بعد الاعلان عن تصدره ترشيحات الـ»غولدن غلوب».
وكانت سنة 2014 فترة ذهبية للسينما العربية اذ ابتدأت بترشيحات 3
أفلام عربية لجوائز الاوسكار وهي «عمر» للمخرج الفلسطيني هاني ابو
اسعد، و»الميدان» للمخرجة المصرية جيهان نجيم و «ليس للكرامة
جدران» للمخرجة اليمنية سارة اسحاق. وبعد اقل من شهر حصد الفيلم
السوري «العودة الى حمص» للمخرج طلال ديركي جائزة أفضل فيلم تسجيلي
في «مهرجان صندانس للافلام.»
كما فاز المخرج الأردني ناجي أبو نوار بجائزة أفضل مخرج في مهرجان
فينيسيا عن فيلمه «ذيب»، الذي استخدم نمط «أفلام الويستيرن» لسرد
حكاية تدور في البادية العربية في اوائل القرن العشرين. ولاحقا
اشترك الفيلم في مهرجانات مهمة اخرى مثل تورنتو ولندن، اللذين نوها
به.
وسجلت الأفلام العربية حضورا ملحوظا في مهرجاني تورنتو ولندن ومن
ضمنها كان فيلم المخرجة المغربية طالا حديد «اطار الليل» و»اوديسة
عراقية» للمخرج سمير و»الوادي» للمخرج اللبناني غسان سلهب، «بلا
مؤاخذة» و»ديكور» للمخرجين المصريين عمرو سلامة واحمد عبدالله
بالتوالي. كما فاز الفيلم السوري «ماء الفضة» للمخرجين اسامة محمد
ووئام سيماف بجائزة افضل فيلم وثائقي في مهرجان لندن السينمائي.
ويعرض الفيلم مشاهد صادمة من الانتفاضة السورية التقتها المتظاهرون
السوريون وحملوها على «اليوتوب». وبعد مشاركته بالمنافسة الرسمية
في «مهرجان كانّ السينمائي» ومهرجانات اخرى مثل تورنتو ولندن، نجح
فيلم المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو «تيمباكتو» في الدخول في
فئة الافلام التسعة التي سيتم اختيار خمسة منها لترشيحات الاوسكار
لافضل فيلم اجنبي. واذا تم ترشيحه فسوف يكون اول فيلم موريتاني
يتنافس في جوائز الاوسكار. للأسف، رغم توفر الدعم المادي لصانعي
الأفلام العرب من مؤسسات عربية مثل «مؤسسة دوحة للافلام» و»صندوق
سند الاماراتي»، إلا أن افلامهم لا تحقق أرباحا تذكر وذلك بسبب ضعف
او بالاحرى غياب سوق سينما عربي وانشغال الشعوب العربية بالثورات
والحروبات الاهلية. من المفارقات انه رغم الشلل الذي يعاني منه سوق
السينما في العالم العربي الا ان رقابة الافلام هناك ما زالت فعالة
وقوية. فقد تم منع عرض بعض الافلام العربية والاجنبية ومن اهمها
كان فيلم «نوح» الذي لم يعرض في عدة دول عربية لانه يشخص النبي
نوح. ومؤخرا تم منع عرض فيلم «الخروج» لانه يشخص النبي موسى.
الطريف هو أن هوليوود لا تكترث بمنع عرض أفلامها في العالم العربي
لانها لا تحقق أي ارباح تذكر هناك.
twitter @husamasi |