خاض المخرج السوري المخضرم كما كل أبناء وطنه في المتاهة السورية،
لكنه آثر الابتعاد عن لهيب الحرب الدائرة، مسافراً إلى دبي، تاركاً
قلبه في دمشق، مدينته التي قدم لها مثل ما قدم لسوريا أهم الأفلام
في تاريخ سينما بلاده حيث يعد «نبيل المالح - 1936» من جيل الرواد؛
فبعد دراسته السينما في تشيكوسلوفاكيا عام 1964 عاد «المالح» إلى
بلاده في ستينيات القرن الفائت ليعمل في المؤسسة العامة للسينما،
حيث قدم عدة أفلام روائية قصيرة كان أبرزها: «إيقاع دمشقي» و «نابالم»
ليقدم في عام 1969 أول فيلم روائي قصير له بعنوان «إكليل شوك»
وليقدم بعدها فيلمه «المخاض - 1970» ضمن الثلاثية السينمائية
الروائية «رجال تحت الشمس» التي تعتبر أول فيلم سوري طويل ونال
عليه جائزة مهرجان قرطاج السينمائي؛ ليساهم المخرج السوري في تكوين
حساسية سينمائية خاصة عبر أفلامه «الفهد - 1969 وفيلمه «بقايا صور-
1980» وفيلم «تاريخ حلم - 1983» وفيلم كومبارس - 1993- جائزة أفضل
إخراج القاهرة السينمائي».
«السفير» التقت المخرج السينمائي نبيل المالح وكان معه الحوار
الآتي:
·
] بعد ثلاث سنوات من الغيابٍ عن منزلكَ في حي المهاجرين بدمشق كيف
تبدو لك اليوم سوريا وقد شارفت الحرب على الدخول في عامها الخامس؟
ـ سؤال يفاجئني يومياً .ترى ما الذي جرى ...وهل أكثر السيناريوهات
فانتازية كانت قادرة على استقراء ما جرى ...لقد تجاوز الأمر خيالي
وخيال من يحيطون بي وحتى أكثرهم تشاؤماً.. وفي الحقيقة، لربما كنا
جاهلين بمكونات تراكمت لتصنع هذا الحاضر المقيت. على أي حال،
وبالرغم من تفاؤلي الدائم، أرى أن خارطة الأحداث اليوم قد غدت أكثر
عتمة وغموضاً، والسنوات الأربع الماضية كانت ثمناً باهظاً لحلم
بسيطٍ وأساسي، والناس في العالم قد نسوه لأنه غدا ممارسةً يوميةً،
بينما نفتقده ويبتعد عنا في كل يوم.. حلم الحرية.. الديموقراطية
والكرامة الإنسانية. هل الكرامة الإنسانية مكلفة إلى هذا الحد؟
·
] ماذا عن فيلمك الجديد «الوشم السابع»؟ حدّثنا عنه، عن فكرته،
شخصياته، وخطوط الصراع فيه؟ جهة تمويله إن وجدت؟
ـ «الوشم السابع» كان هاجساً سينمائياً بالنسبة لي قبل «الثورة»
بزمن طويل. لقد كان حلمي أن أسرد لنفسي، لأطفالي وللناس وثيقة عن
الأربعين سنة الماضية من حياة سوريا.. سنوات الاستبداد والفساد
والطغيان وامتهان الكرامة الإنسانية، وطبعاً كنتُ أعرف أنني لن أجد
جهة منتجة، ولكن الأمر كان ذا أولوية بالنسبة إلي. المهم أن فكرة
«الوشم السابع» تتمركز حول استحضار ستة أحداث متميزة في العقود
الأربعة الماضية، أي حقبة مصادرة حزب البعث لمقدرات سوريا، وذلك
عبر دمج الشخصي بالعام، والأيام أو الأحداث التي تركت وشمها على
أرواحنا ومصيرنا، أما الوشم السابع فهو «الثورة».
والآن، ليست لدي أوهام حول إمكانية إنتاج هذا العمل لسببين، أولهما
أن الجهات المُنتجة المحتملة قد أعطت الخبر الساخن اليومي أولوية،
وثاني الأسباب، هو قناعتي بأن الحدث السوري قد غدا أكبر من ذلك
بكثير، وأن هنالك أولوية لبقائنا كشعب ومصير.. وإيقاف آلة الموت
والقتل.
·
] أنت من المخرجين السوريين الذين اشتغلوا على شخصية وطنية لسينما
بلادهم؛ أين وصلت اليوم في هذا التحدي الفني؟
ـ لا أعتقد أن السينما قادرة على فعل شيء الآن، فيما عدا توثيق
المجزرة التي يتعرض لها شعبنا الآن.. والأحداث التي نشهدها اليوم،
إضافة إلى أن المستجدات الكثيرة جعلت الكثيرين يفقدون البوصلة
ويلجؤون إلى الدعوات لله القدير الذي يحل كل المشاكل، بينما هم
يعرفون أن ذلك لن يحدث.
أعترف بأنني غدوت حافلاً بالشكوك، فهنالك هذا التشرذم لقوى
المعارضة والذي أفقدها مصداقيتها وقدرتها على القيادة، وأخيراً جاء
عنصر سيريالي إلى المشهد السوري، عنصر داعش والقوى الظلامية
السلفية التي قلبت جميع المفاهيم والقيم وأرجعتنا قروناً إلى
الوراء، في وقت كنا نعتقد فيه أنفسنا بأننا شارفنا على الاقتراب من
تخوم القرن الحادي والعشرين، وأن لا شيء يفصلنا عنه سوى نظام آن
أوان اجتثاثه، فلقد استوى هذا النظام على غصن التاريخ وقد بدأ
بالتعفن. حاولنا وحاولت أن أكتب هذا الزمان بشكل سينمائي، ولكنني
عجزتُ كما عجز الآخرون، وما كتبته حتى الآن أصغر بكثير مما يجري.
ونحن نمر في مرحلة انقلاب تاريخي، بل إن التاريخ والجغرافيا
معرّضان لكتابة جديدة.. إننا نمرْ بما يشابه سقوط بيزنطة أو نهاية
الحرب العالمية الأولى.. رسم جديد للخرائط والقوى.
·
] ولكن ماذا عن الجيل السينمائي الجديد في سوريا والذي يبدو
مختلفاً في تطلعاته ورؤاه ومشاربه الفنية؟
ـ في حياة الشعوب، أربع سنوات تعتبر زمنا قصيراً، ولكنها في الحالة
السورية كانت طويلة ومضنية، وفيها نشأ جيل جديد من الأفراد.. مئات
آلاف الأطفال بدون مدارس؛ ومئات آلاف العاطلين عن العمل الذين
يحلمون برغيف الخبز؛ وملايين النازحين ولم تعد الأحلام هي تلك
السائدة فيما قبل «الثورة». الحلم المشترك الوحيد بين البارحة
واليوم هو العيش بكرامة، وهو الحلم الذي يبدو متباعداً في كل يوم.
ومن هنا يمكننا أن نتصور نوعية الجيل السينمائي الجديد الباحث عن
مكان له، وقد صهرته نار الصراع وشاهد في خلال السنوات الأخيرة ما
لم تشاهده الأجيال الأخرى، وكان شاهداً على سقوط وتدمير وطن بشكل
مذل وقبيح.
إننا نعلم أن السلطة قد حاولت وتحاول أن تقدم صورتها عبر السينما
والتلفزيون، وهي لا تخرج في ذلك عما دأبت عليه طوال أربعة عقود من
تزييف للحقائق، محاولة تكريس صورة الأبدية كما تراها.. أبدية
استمرار خدعة السلطة المفضوحة، وكل ذلك واضح وليس بحاجة إلى
براهين، ولكن المشكلة كانت في الطرف الآخر؛ طرف «الثورة».
لقد افتقدت «الثورة» منذ البداية القيادة الكاريزمية الواضحة، ولم
يكن فيها من شيء حقيقي سوي في بداياتها التي كانت تصرخ «الموت ولا
المذلة» و «الشعب السوري واحد واحد» وغيرها من الشعارات التي صنعت
ألق تلك الأيام ونقاءها.
·
] السينمائيون في سوريا شهدت شريحتهم انقساماً حاداً في ظل الحرب
بين سينمائيي خارج وسينمائيي داخل.. كيف تقرأ هذا الواقع وتقيمه
اليوم؟
ـ هذه معضلة ممتدة إلى شرائح المجتمع كافة وليست خصوصية مجتمع
السينمائيين. الداخل والخارج.. ما هذا الفصام وما هي أصوله؟ الجميع
يحملون أحلاماً، والجميع لديهم زوجات وأطفال ورغبات في عيش كريم.
ليس هنالك من اختلاف سوى في استنباط حلول حياتية آنية تفرضها شروط
الحرب والدمار. رأى البعض في الغربة نجاة من آلة الحرب ورأى آخرون
أن البقاء هو الأسلم؛ ولكن أحدا لا يملك الشرعية ولا المكان لتخوين
الآخر؛ فمعظم الذين رحلوا يعيشون ظروفاً قد تكون أقسى وأشد مضاضة.
ولا أعتقد أن هنالك حرباً بين سينمائيي الداخل والخارج، وإنما هي
الظروف التي يتواجد فيها كل منهما، ففي النهاية، كل منهما مواطن
يريد العيش في بلده حيث تحترم مواطنيته وكرامته.
·
] أفهم من كلامك أنكَ ما زلت مؤمناً بوحدة الشعب السوري؟
ـ طبعاً الشعب السوري واحد واحد.. أنا مؤمن بذلك حتى العظم.
والشخصية الوطنية ليست قائداً ميدانياً أو حامل مسدس، وإنما هو ذلك
الإنسان البسيط المتواضع الذي يعشق وجوده مع الآخر ويحترم هذا
الوجود.
·
] الكارثة السورية أظهرت عنفاً كبيراً لجهة انتفاضة كومبارس عارمة
كنت قد تنبأت بها في فيلمكَ «الكومبارس» كيف ترى اليوم إلى هذا
الواقع في ظل موجة الإرهاب والتطرف العارمة التي تضرب العراق
وسوريا؟
ـ في كل نقاشاتنا اليومية وصداماتنا وادِّعائنا المعرفة والذكاء،
نكتشف مدى عجزنا عن إيقاف نزف وهدر الدم السوري، لقد كثُر
اللاعبون، وهي قوى لا تعنيها سوى مصالحها ومخططاتها البعيدة، وغدا
من الصعب استعادة المبادرة إلى أيدي السوريين أصحاب العلاقة. إنني
ولسوء الحظ يائس من مصير هذه الحالة.
·
] البعض يرى أن اليسار السوري وضع يده في يد قوى اليمين المتطرف
الممثل بالإخوان المسلمين.. ما رأيك بذلك؟
ـ أعتقد أن في ذلك بعض الظلم لليسار السوري، خاصة أننا نعلم عن
كمية الأموال الموظّفة لاختراق «الثورة» التي لم تكن في بداياتها
ذات مظهر إسلامي، ولكن قوى اليمين المتطرف ركبت الموجة الشعبية
الرافضة للنظام، وإن كان ذلك لا يعفي اليسار من مسؤوليته تماماً عن
هذا الاختراق الذي دمّر الحالة العامة.
·
] برأيك هل استطاعت السينما في سوريا عبر خمسة عقود من الإنتاج أن
تكون مرآة واقعها وصوت مجتمعها؛ أم أن ما قدمته لم يتعدَ عدة أفلام
جيدة لمخرجين بعينهم كان كل طموحهم هو تحقيق حضور في المهرجانات
العربية أوالدولية؟
ـ لا أعتقد أن الطموح الأساسي كان في تحقيق حضور في المهرجانات
العربية والدولية، فلقد كان الطموح الحقيقي هو في التأسيس لسينما
وطنية، وهذا ما تحقق في العديد من الأفلام، حيث كانت الجوائز في
المهرجانات نتيجة ولم تكن هدفاً بحد ذاتها.
·
] أريد أن أعرف رأيكَ عن مهمة السينما بعد أربع سنوات من الحرب
وتذابح الأخوة واختفاء مدن وتهجير ملايين من السوريين داخل بلادهم
وخارجها؟
ـ مهمة الفن والفكر والسينما بعد أربع سنوات من الدماء والدمار..؟
تبدو الإجابة واضحة، ولكن الخطاب الثقافي كان غائباً تماماً لدى
قوى المعارضة، وبدت الثورة وكأنها لا تملك الروح، وبالتالي لا تملك
الشرعية، ونحن نعلم أن الثورة هي ثقافة الثورة أولاً وأخلاقياتها
ومفاهيمها التي تعطيها الشرعية لأن تقود نضالاً تحررياً ما، وأنا
كواحد من السينمائيين أشعر صراحة بأن قوى المعارضة في الخارج قد
خانتنا وتركتنا نستجدي فرص قول ما نتمناه ونرغب فيه من تكريس
واحترام لعشرات الآلاف من الأفراد الذين غابوا وتركوا الوطن أمانة
بين أيدينا. لقد قمنا كلنا بخيانتهم؛ ولكن الثورة هي الحدث الأكثر
شرفاً في تاريخنا المعاصر، بل إنها ستصبح النبراس الذي يضيء
المستقبل في حال عودتها إلى أصولها المبدئية.
·
] أنتم من الجيل الذي انتمى بقوة لسينما حملت على عاتقها مهمة
التغيير والمواجهة مع السينما التجارية الرخيصة.. هل تعتقد أن ذلك
أدى إلى خسارة الكثير من شرائح الجمهور التي كنتم تدافعون عنه في
الأفلام التي حققتموها؟
ـ في الحقيقة، لم تكن هنالك مجابهة مع السينما التجارية الرخيصة،
لسبب واحد هو أن إنتاجها توقف عملياً في الداخل السوري وتحولت رؤوس
الأموال للإنتاج التلفزيوني؛ ولكن المشكلة هي في حصر الاستيراد
بالمؤسسة العامة للسينما الذي كان مناسباً من أجل تمويل إنتاجها
ولكنه أغرق السوق بأفلام من الدرجة الثالثة أبعدت المشاهد عن
الصالات وخلقت مشاهداً عجائبياً، إضافة إلى تقصير أو عجز الجهة
المسؤولة عن الترويج والتسويق للأفلام السورية، لا سيما إذا علمنا
مثلا أن ثلث ميزانيات الأفلام الأميركية مخصص للدعاية والإعلان
والترويج.
·
] إذاً أنت تعتقد أن التلفزيون في سوريا هيمن نهائياً على مخيلة
الجمهور؟ فهل من الممكن اليوم أن تسترد السينما هذا الجمهور من
سباته التلفزيوني الرمضاني؟
ـ لا أعتقد أن السينما قادرة على استرداد الجمهور، فالسينما
الوطنية تقاتل في سبيل بقائها، وهموم مخرجيها أصبحت في دائرة
المعاش اليومي وبعيدة عن الانهماك في البحث عن أدوات إبداعية
مبتكرة أو مشاريع ذات طموح سينمائي بعيد. لقد استعار السينمائيون
من التلفزيون الخطأ القاتل بأن الصورة هي لسرد حكاية، ونحن نعلم
جيداً أن السينما هي حالة أكثر من أن تكون حكاية. السينمائي
الحقيقي ليس حكواتياً وإنما هو مرآة لحالة.
·
] في ظل موات معظم صالات العرض وانكفاء القطاع الخاص عن مغامرة
الإنتاج كيف يمكن الخروج إلى حالة سينمائية فاعلة؟
ـ المهم الآن هو الخروج من هذا النفق المظلم الذي وجدنا أنفسنا فيه
نحن السوريين. نفق نريد الخروج منه إلى آفاق عالمنا المشرْعة.
المهم الآن هو وقف نزف الدم والبشر.
·
] وهل السينما قادرة على صياغة واقتراح فضاء آخر للمدينة السورية
في ظل الحرب القائمة؟
ـ هذا أمر منوط بحركة الأشياء والبشر والمستجدات والمناخ السياسي
المقبل، وأنا شخصياً أشعر بيأس على الأقل للمدى القصير، ولكنني
مؤمن بقدرة الشعب على صنع غد مختلف دفع ثمنه غالياً.
·
] كيف تقرأ مستقبل السوريين في ظل كل هذه الانقسامات؟ ألا نستطيع
التعويل على الطليعة الجديدة من المخرجين الجدد في سوريا وسط كل
هذا الخراب؟
ـ أعرف أن الحدث السوري الدامي لن يخلف رماداً ميتاً وإنما تراباً
خصباً لأجيال قادمة حافلة بالإشعاع والرغبة في الحياة. أجل سيكون
هنالك جيل سينمائي مختلف، صهرته نار الحدث السوري وشكّلت منه
معدناً أكثر صلابة وأعمق جوهراً. |