طفولة بيضاء بين رعشة الحب الأول ... وجاذبية كارل ماركس
الدار البيضاء - مبارك حسني
نسخ أبيات شعرية وقراءتها من طرف طفل وإهداؤها للجارة الصبية التي
كانت أول من عزف لحن الحب في نياط القلب المراهق، ﻹرضائها. النفخ
في النقط (العلامات) المحصل عليها في المدرسة لتزويرها إرضاء
للوالد الطموح الحالم. تلكم حالتان بريئتان تُجملان عالم طفل، وقد
تُعدان مجرد شقاوة طفولة تُنسى مع التقدم في السن. لكنّ هناك
مثيلاً لهذا العالم الصغير يأخذ أشكاﻻً أخرى أكثر جدية لدى الكبار
والراشدين، عنوانه النفاق الاجتماعي بهدف الوصول إلى السلم الذاتي
والهناء وراحة البال، وهو ما سيراه الطفل بعينيه حواليه في العائلة
وفي المجتمع الكبير. الشيء الذي يجعل للحالتين معنى ودلالة.
نحن أمام سينما تقف عند زاوية رؤية طفل بقامته الصغيرة التي تتشعبط
كي تفهم، وكي تساير وتعيش مثل الآخرين بوسائلها الخاصة في عالمها
السري والمفتوح في الوقت ذاته. نحن بعيدون عن عالم الطفولة الداكن
الذي يسكن الذاكرة واﻷحلام المقلقة التي ألفنا صُورها إلى حد اﻹشباع
في أفلام المخرج القصيرة وفيلمه الطويل «البراق»، وحيث تتجلى ممتدة
علاقة طفل بوالده، هي العلاقة الحقيقية للمخرج بأبيه التي يبدو أنه
لم يستنفد مخزونها من اﻷثر القوي والعميق. إذاً، بعد التوظيف
السيكولوجي الاستبطاني المُضبب بالكثير من المسكوت عنه، نجدنا هنا
أمام ما تمنحه العلاقة من حكايات تلاق وتفارق، من انبهار والتباس
خارجي. نتتبع طفولة منظوراً إليها من الخارج، من المحيط القريب،
عبر سينما تُخرج عدستها من ﻻ نهائي الذاكرة المخيف نحو ﻻ نهائي
حياة اﻵخرين من ذوي القربى. وهؤﻻء أفراد عائلة غير عادية في مجتمع
محافظ ومناور يدور حول نفسه وعاداته في حي شعبي صاخب وحي ذات زمن
بعيد ينذر بكل الارتباكات.
الحكايات التي تتقاطع
اﻷب شيخ بأحد المعنيين لدى المغاربة، غير المعنى الآخر الذي هو
«كبير القبيلة»، «الشيخ» هنا مغنّ شعبي وعازف على الكمان ضمن فرقة
شيوخ وراقصات يحيون حفلات أعراس وختان وما شابه. ولأننا إزاء
سينما، سيفرد الشريط لكل شخص قصته التي ستتقاطع مع قصص حياة
الآخرين أمام عيني الطفل، على رغم أن كل ذلك يظهر متعالياً عليه في
حقيقة الأمر، وسيسعى المخرج كي يوقف الكاميرا في حدود ضآلة «طفله»
الجسدية، إنه المخرج الذي كان الطفل نفسه في مرحلة سبعينية غابرة.
وما أصعب تفادي مطبات توظيف السيرة الذاتية، حين يتم هذا النزول
كمسافة يجب قطعها، وليس النزول كغوص من دون مقاييس مضبوطة، وهو ما
تعوّد المخرج إتقانه سابقاً. لكن القصد هنا هو الحكي من دون تأويل
مواز خفي كما كان يفعل في سينما سابقة له. هي في جميع الأحوال
تجربة جديدة تستحق التحليل الذي نحن بصدده، بخاصة سؤال التحقق
السينمائي الذي بدا متصالحاً مع السينما بعامة حين تكتفي بتمرير
صورها الحية مع هم التنويع وخلق المفاجآت والبحث عن التشويق.
فشرطي اﻹرضاء اللذين ذكرناهما في البداية جعلا الطفل يتحرك ويبحث
ويؤسس لذاته وجوداً من الممارسات، وهذا الوجود هو ما سيحدد مستقبله
ويشيد عالمه السينمائي المعروف. هناك الوالد الأمي أوﻻً الذي أوصاه
بالتفوق في الدراسة، وجعله من دون أن يدري ذلك، يجد السند ويرتمي
في حضن العم المتعلم المتشبع بتيارات اليسار الماركسي الممتزجة
وقتذاك بمثالية متعالية مضمّخة بحب اﻷدب والشعر والفن بالشكل الذي
ﻻ يمارسه الشيوخ في العائلة. هذا السند الذي سيستمد منه الطفل
القدرة على الاختراق الصغير في عالم الحب الطفولي للجارة فوق
السطوح. والحق أن هذه الفقرة من الشريط تمنح صدى وثائقياً لجيل
بالكامل عاش الحكاية ذاتها، ومنه كاتب هذه السطور. فما أجلّ تلك
العلاقة المفارقة الآتية من فوق بين رعشة الحب اﻷول وجاذبية ماركس.
وهناك الأم وحولها كل النساء اللواتي يمنحن الحسّية المغربية في
بهاء الرقص الشعبي المرغوب - المرفوض، ونسيج العلاقات المتشابكة
غير الصافية حيناً، والبريئة أحياناً أخرى من دون أي شعور بالندم
أو الذنب. فقط كحيوات تعيش اللحظة وتحاول أن تكون سعيدة كيفما كانت
الحال، وإن تعذر تحقيق ذلك قد تحزن وقد لا تأبه. وهذا المعطى هو
الذي منح الفيلم مزيجه الدرامي والكوميدي. تماماً مثل باقي الشخوص
الذكورية التي تخفي وتعلن طينتها وفق المواقف والظروف سواء كانت
حقيقية أو ضمخها المخرج بمخياله. مثل حقيقة العازف الذي له قناعان،
قناع الموظف الصارم وقناع الفنان، بخاصة حين يحضّ ابنه على النجاح
في الحياة والمجتمع من طريق التعلم، في بوح لا واعٍ عن فشله هو
الذي ليس سوى «شيخ»، من دون ذكر لصفة الفن الغائبة في القاموس
الكلامي، على رغم أن ما يقوم به فن.
ولعبة الأقنعة هذه هي مبرر العمل وفكرته الأكبر. إن الفرقة ومحيطها
ليستا سوى تصغير لباحة المجتمع الكبيرة. فحين يتظاهر أفراد الفرقة
بالعمى كي يحيوا حفلات مخصصة للنساء فقط، نراهم يرتدون أقنعة كي
يستمروا في العيش معولين على ما تستدره هذه الحفلات. وكذا المجتمع
حين تغله خيارات سياسية واجتماعية واقتصادية معينة. فالفترة التي
يتطرق إليها الشريط وهي السبعينات، من الفترات المفصلية الكبرى في
التاريخ السياسي المعاصر للمغرب. في سنواتها الأولى حدث انقلابان
عسكريان فاشلان سيكون لهما الأثر البليغ العميق على البلد. كما أن
هذه السنوات هي مرحلة تكوين ملامح مغرب فني واجتماعي تتعارض فيه
قوى يسار ويمين وتتجاذب في رحمه خيارات التحديث والمحافظة. ورمز
الشيوخ العازفين والراقصين دال هنا، فقد كانوا يمثلون تلك المساحة
من الهواء والتنفيس للأهواء، كما كانوا أحياناً وسيلة للإلهاء
ومجابهة الفن المعارض حيت سيوظفون لإحياء الحفلات الرسمية في سنوات
الثمانينات.
المخرج يستلهم من حياته الشخصية الطفولية كي يروي ذلك الزمان
بحنينية قوية. حكايته بميزته هذه تمنحه القدرة على الشهادة من
الجهة الأخرى، من داخل ما كان ينظر إليه بعين متناقضة، تود وتنفر
في الوقت ذاته. وهو يفعل بأسلوب سلس وكلاسيكي متأثراً بالسينما
الواقعية على ما يبدو، ومتأثراً أيضاً بمخاض النقاش الفني
السينمائي المغربي الحائر ما بين هاجس الفن وهاجس الجمهور.
بالتالي، فالكتابة هنا غير متوترة ولا مسكونة بالهواجس، بل تتقن
فعل النقل والمحاكاة والنسخ وممارسة السرد.
سينما المغرب بين الفن والجمهور
الدار البيضاء - نور الدين محقق
لا يزال سؤال الإبداع الفني يطرح نفسه بحدة على السينما المغربية،
ذلك أن هذه السينما حتى وهي تحقق مساراً متميزاً بالمقارنة
بمثيلاتها في باقي البلدان العربية، لم تستطع بعد أن تصل إلى ما
يريده منها عشاقها من نقاد سينمائيين ومهتمين «سينيفليين»، أولئك
الذين تربوا على عشق سينما التأليف الفني القوي والبعد الفكري
والرمزي الذي يتجاوز المعنى المباشر كي يصل إلى معنى المعنى. ما
زال السؤال يطرح نفسه في الوسط الثقافي: هل استطاعت السينما
المغربية التي راهن الوسط الثقافي عليها أن تبدع أفلاماً سينمائية
جيدة شكلاً ومضموناً، محتوى وإخراجاً؟ أفلاماً جديرة بأن تمثل هذه
السينما في مجال الإبداع الفني في شكل عام وفي المجال السينمائي
داخل الوطن وخارجه في شكل خاص؟ تصعب الإجابة عن مثل هذا السؤال في
شكل مباشر وحاسم، رغم أن هذه السينما قد حققت بالفعل تراكماً
ملحوظاً، كما حققت بعض أفلامها تميزاً فنياً يستحق التشجيع.
لقد عرفت السينما المغربية وهي تنتج ما يتجاوز العشرين فيلماً في
السنة بالنسبة للأفلام الطويلة وحدها، وقل أضعاف ذلك في ما يتعلق
بالأفلام القصيرة، إشعاعاً قوياً في المجال الثقافي العام، وقد
أثار هذا العدد من الأفلام السينمائية جدلاً في الصحافة المغربية
وبين النقاد السينمائيين والمهتمين بالمجال السينمائي أنفسهم،
فالبعض منهم اعتبر أن إنتاج هذا الكم من الأفلام السينمائية سنوياً
هو إنجاز إيجابي في حد ذاته، لأنه بكل بساطة قد مكّن السينما
المغربية من التواجد سواء في المهرجانات والملتقيات السينمائية
الوطنية والقارية وحتى العالمية، في حين ذهب البعض الآخر إلى أن
هذا التراكم لم يفد السينما المغربية في شيء، بل إنه ربما يكون قد
أساء إليها من حيث الإبداعية، إذ شجع كثراً على خوض غمارها،
وبالتالي أفقدها ما كانت تمتاز به من جدية في التعامل والبعد
الرؤيوي في النظر إلى العالم .
وبالعودة إلى المتن السينمائي المغربي لاسيما في الآونة الأخيرة
يظهر لنا جلياً أن السينما المغربية عرفت تحولاً أساسياً في
مسارها، شمل مستوى الكم والكيف معاً على غرار باقي السينمات
الفاعلة في العالم. فإذا كان هذا التراكم قد تحقق، فإنه بالفعل قد
مكّن هذه السينما من التنويع في مواضيعها بحيث أصبحت تحتوي على
مجموعة من الأفلام السينمائية التي يمكن أن ندخلها وفق القول
المصري في خانة «الجمهور عايز كده»، وهي أفلام سينمائية استطاعت أن
تجلب لمشاهدتها جمهوراً كبيراً همّه من السينما بالأساس يتجلى في
أن تحقق له متعة الفرجة لا أكثر. كما أنها احتوت أيضاً على مجموعة
أخرى من الأفلام السينمائية، التي حاولت الجمع بين الفرجة من جهة
وطرح قضايا المجتمع بطريقة واضحة سلسة يفهمها الجميع من جهة أخرى،
وهي بذلك - أي هذه الأفلام السينمائية- ظلت في مرحلة الوسط بين
الاتجاهين، الاتجاه الشعبي البسيط والاتجاه الفني التأليفي. كما أن
هذا التراكم في المقابل قد مكّن أيضاً أفلاماً سينمائية امتازت
بقوتها الإبداعية وبتجريبيتها الفنية المركبة من الحضور كذلك داخل
المشهد السينمائي المغربي. هذه الأفلام هي التي استطاعت أن تقدم
وجهاً مشرقاً للسينما المغربية في المهرجانات السينمائية العالمية
بحيث تمكنت من الحصول على بعض الجوائز فيها والإشادة بها. وهو أمر
إيجابي ومهم ويدعو إلى التفاؤل. وقد حرص النقد السينمائي المغربي
على متابعة هذه الأفلام السينمائية المتميزة والتنويه بها وتخصيص
أيام سينمائية لدراستها، وتخصيص كتب لمخرجيها، كما دأبت على إنجاز
ذلك الجمعية المغربية لنقاد السينما على سبيل المثال.
إن هذا التنوع الذي أصبحت تعرفه السينما المغربية هو ما جعل منها
سينما حية وفاعلة في تربة الثقافة المغربية وبالتالي فاعلة في تربة
المجتمع أيضاً. فكثيرة هي الأفلام السينمائية المغربية التي
استطاعت أن تثير نقاشاً قوياً سواء حول المضامين الاجتماعية التي
تطرقت إليها أو حول كيفية تناول هذه المواضيع وتقديمها في إطار فني
إما يتميز بالبساطة والسهولة أو يمتاز بالكثافة والعمق.
إن السينما المغربية من خلال كثير من مبدعيها المتميزين، لاسيما من
الجيل السينمائي الجديد الذي برهن على وعيه السينمائي المتقدم وعلى
عمق ثقافته السينمائية، مطالبة اليوم بأن تسير خطوات كبرى في
مسارها الفني بغية الوصول إلى تحقيق أفلام سينمائية قوية فنياً،
لكنها أيضاً وفي مقابل ذلك تكون قادرة على أن تصل إلى عموم
المشاهدين على اختلاف مشاربهم الثقافية ومستوياتهم الفكرية، كما هي
الحال مثلاً مع الأفلام السينمائية العالمية التي نجحت في تحقيق
هذه المعادلة الفنية التي لم تعد صعبة على ذوي الاحتراف السينمائي
الحقيقي.
الفيلم الثاني للمخرج زانغ ييمو عن «الثورة الثقافية»:
في متحف الألم الصيني!
أمستردام - محمد موسى
مرة أخرى يعود المُخرج الصيني المعرُوف «زانغ ييمو» في فيلمه
الأخير «العودة إلى البيت»، والذي عُرض في دورة مهرجان كان
السينمائي الأخيرة ليصل أخيراً إلى الصالات الأوروبية، إلى تاريخ
بلده الحديث، وبالتحديد إلى حقبة «الثورة الثقافية»، التي أطبقت
ككابوس على البلاد الشيوعية طوال عقد الستينات من القرن الماضي
وحتى مطلع السبعينات منه. فالمخرج كان قد مرَّ قبل خمسة أعوام على
محطة التاريخ المُوجعة تلك، في فيلمه «تحت شجرة الزعرور». وإذا
كانت الثورة الشيوعية على المثقفين والمتعلمين تلك، قد شكلت ما
يُشبه الخلفية النفسيّة، لقصة الحب العذبة والمأسوية في الفيلم
السابق، فهي في «العودة إلى البيت»، أكثر حضوراً وجَسامة، وتبدو
مفاعيلها متواصلة ومُدمرة، حتى بعد سنوات عدة من نهاية الاستبداد
الذي مارسته السلطات وقتها، ليبدو الزمن في الفيلم، وكأنه توقف
لفداحة ما وقع. والضحايا غير قادرين على مُواصلة حياتهم أو تلمس
طريقهم نحو المستقبل.
أزمة الذكر الغائب
تُشبه البطلة وابنتها في فيلم «العودة إلى البيت»، المرأة وابنتها
الشابة في الفيلم السابق. هما أيضاً في أزمة بسبب غياب الزوج -
الأب، الذي زُج في معسكرات العمل الشاقة البعيدة. يبدأ الفيلم
الجديد بمشاهد مشحونة بتوتر وإثارة كبيرتين، فالأب هرب للتو من
معسكر العمل، والسلطات تطارده إلى بيته. تكشف تلك المشاهد في ما
تكشف عن أزمة جيل الأبناء، فهم في صراع بين ولائهم العائلي،
وتأثرهم وإلى حدود الاستلاب بالقيم الشيوعية الثورية الحماسية،
التي صورت الآباء بأنهم حفنة خطرة وأنانية من البرجوازيين. والحال
إن بطلة فيلم «العودة إلى البيت» الشابة، تواجهها الظروف ذاتها
التي واجهت بطلة الفيلم السابق. إذ كان يتوجب على الأخيرة التخلي
عن حبيبها، حتى تصل إلى وظيفة المُعلمة، والتي أصبحت شاقة بسبب
سيرة الأب السياسية. في حين تتعرض الابنة الشابة في «العودة إلى
البيت» إلى ابتزاز السلطات، فمُستقبلها كراقصة سيكون مشروطاً
بالتعاون، وعليها أن تقرر بين «الأب» وبين حياتها الخاصة.
بعد البداية القانطة تلك، يقفز الفيلم إلى زمن ما في المستقبل
(ربما في منتصف السبعينات من القرن الماضي). فالأب، الأستاذ
الجامعي المُثقف، والذي أطلق سراحه للتو، يعود إلى المدينة الصغيرة
التي تعيش فيها زوجته وابنته. لن تتعرف البطلة إلى زوجها، فهي
تعرضت قبل سنوات إلى أزمات نفسية عدة، عبثت بذاكرتها. صحيح أنها ما
زالت تنتظر الزوج، لكنها لن تعرفه عندما يقف أمامها. ما يتبع، هو
محاولات الزوج في مساعدة زوجته لاجتياز أزمتها. عندها يتحول
الفيلم، وفي جزء كبير منه، إلى فيلم عائلي خاص، عن أسرة صغيرة
تحاول أن تجد طريقها بعد المأساة التي أصابتها. كما ستغلب العاطفية
الشديدة وحميمية خاصة على كثير من وقت الفيلم. فالزوج سيجد طريقاً
ليكون قريباً من زوجته، إذ سيقنعها بأنه ساعي بريد، وسيقرأ لها
الرسائل التي كتبها لها طوال سنوات حبسه، كما سيرافقها في مشاهد
عظيمة الحزن، إلى محطة القطار الصغيرة في البلد، بانتظار الزوج
الغائب.
في مُجملها، لا يمكن تصنيف معالجة المُخرج للأحداث التاريخية في
فيلمه بالإشكاليّة أو المُحرضة. ليس لأنه عانى من سطوة النص الأدبي
الذي يستند إليه الفيلم («العودة إلى البيت» والفيلم الآخر مأخوذان
عن عملين أدبيين معروفين)، بل إن المعالجة بدت جزءاً من رؤية خاصة
للمخرج في مقاربة ماضي بلده (وكحال عمله الآخر أيضاً). فهو يتجه
شكلياً مثلاً، عبر الألوان الشاحبة للفيلم والديكور الداخلي الذي
يشبه بناء المسارح، إلى أسلبة واضحة مقصودة لذلك «الماضي»، حتى
يكاد هذا الأخير أن يفقد علاقته الديالكتيكية مع الحاضر، ليقترب
الفيلم من أن يكون عملاً فنيّاً خاصاً في «متحف» افتراضي للألم
الصيني. كما بدت الصين في الفيلم، بعيدة كثيراً عن «الصين»
المعاصرة. هناك مشهد وحيد، يحاول أن ينطلق من الماضي لمحاسبة
الحاضر، عندما يتجه الأب البطل، إلى بيت رجل بيت الأمن الذي وشى به،
ليجد هذا الأخير، يعيش بؤساً، لا يفرق كثيراً، عن الذي يعيش فيه
ضحاياه.
فوق مستوى الأسلبة
وحده الأداء المُذهل للممثلة غونغ لي، التي لعبت دور الأُمّ، هو
الذي يعلو فوق الأسلبة ويربط بين الفترات التاريخية ويمنح الفيلم
النفس الإنساني المُلحّ. يتدرج الأداء الرائع للمُمثلة، من التصميم
والعزيمة في المشاهد الافتتاحية للفيلم، ويقينها الذي لم يتأثر
بنبل زوجها ولوعتها من محنته، إلى شرودها الغامض، في التيه الذي
انسحبت إليه روحها، بعد أن فقدت ذاكرتها، ليكون حبها لزوجها،
العاطفة الوحيدة التي تعيدها إلى ذاتها الأصلية. ويصل أداء الممثلة
إلى ذرواته في مشاهد انتظارها في المحطة لزوج لن يصل أبداً، والتي
ستكرر عدة مرات في زمن الفيلم، حاملة كل مرة ألماً عظيماً،
وترميزاً قاسياً، عن الحياة التي انتهت لكثيرين بعد أن هشمتها قسوة
ديكتاتوريات.
عبد الحي أديب بين الكلاسيكيّة والحداثة
القاهرة – هيام الدهبي
«رحلة نصف قرن من السينما، عاصرها عبدالحي أديب منذ انطلاقه مهنياً
في العام 1958، فعايش المناخات السينمائية كافة، وزامل نجوم ومعلمي
وأساتذة الفن السابع في جميع المستويات المهنية والحرفية والأداء
التمثيلي، وكذلك التحولات الاجتماعية والسياسية التي صاحبت السنوات
الطويلة قي الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات وحتى مطلع
القرن الحادي والعشرين».
هكذا وصف الكاتب والناقد السينمائي إبراهيم الدسوقي - في كتابه
«عبد الحي أديب بين الكلاسيكية والحداثة»، الذي صدر حديثاً ضمن
سلسلة آفاق السينما عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، ويقع
في تسعة فصول- السيناريست والكاتب عبد الحي أديب (1928-2007).
فبقدر ما كانت الكتابة السينمائية هي الشغل الشاغل لأديب خلال
سنوات التحوّلات الفكرية والمتغيرات السياسية من حوله، إلا أنه
قدّم نفسه خلال كل فترة طرحها ما يغوص فيه المجتمع من حوله.
أديب هذا الرجل الذي وصل إلى محطة السينما المصرية كي يكتب القصة
أو السيناريو أو الحوار، جاء وسط كوكبة من نجوم هذا الحقل: يوسف
جوهر – أبو السعود الإبياري – علي الزرقاني – نجيب محفوظ – السيد
بدير، لكنه مع ذلك، صنع لنفسه شكلاً وإيقاعاً مميزين وخاصّين به،
وانعكست أفكاره عبر النصوص السينمائية التي شكّلت سينما عبد الحي
أديب وتميّزها بخاصة، بقدراته على اختيار عنصر المكان وانعكاساته
على الإنسان وسلوكياته والمحركات النفسية والإنسانية والحياتية –
وفق رأي الكاتب. لقد كانت رحلة عبد الحي أديب طويلة منذ البداية
وانطلاقه مهنياً 1958 وحتى الوفاة 2007.
مع البدايات، حاول أديب أن يؤكد تميّزه في ما يكتبه من نصوص
فيلمية، بداية من الفكرة وشكلها، وصولاً الى أهمية المكان في عمله.
«فالدراما عنده تعتمد على كيفية اختيار المكان -ملعب الأحداث-
وعلاقته بالأشخاص ومدى تأثير وتأثّر المكان بالأفراد. وظهر هذا
جلياً في فيلمه الأول «باب الحديد»، من إخراج يوسف شاهين». ويكمل
الدسوقي: «إذن فإن أحد مفاتيح شخصية أديب لكتابة السيناريو، يكمن
في قدرته على اختيار المكان الرئيس للأحداث ليدفع فيه أحداثه
وشخصياته وعلاقاتها وصراعاتها عبر الزمن، ورصده مجتمعاً من الشرائح
المهمّشة في قاع المدينة، كما صوّره في فيلمه «امرأة على الطريق»،
من إخراج عز الدين ذو الفقار».
ويرى الدسوقي أن من الأمور المهمة في مسار أديب، قدرته الفائقة على
إيجاد صيغة وأفكار متجددة فنية يمكن أن تخدم السينما بشكل عام، من
دون حدود أو ضوابط، ومن دون أن تتطابق بالضرورة مع ما ينتج ويضخّ
في قوالب السينما المصرية. فقد كانت القضايا الاجتماعية والهموم
السياسية هي الشغل الشاغل في ما يطرحه أديب من أعمال سينمائية.
قدّم عبد الحي أديب خلال مسيرة حياته الفنية، حوالى مئة فيلم، منها
36 عملاً سينمائياً مع المخرج نيازي مصطفى (1958-1985)، أي على
مدار 27 عاماً، وانتمت الأفلام الى نوعيات كثيرة ومختلفة ككاتب
سيناريو فقط أو ككاتب سيناريو وحوار أو مضافاً إليهما القصة ذات
المضامين المهمة على الصعيد الإنتاجي والفكري. غير أنه لم يبتعد
كثيراً عن السينما التجارية، في أفلام حققت التوازن بين الصنعة
ووضوح الهدف ولو بشكل بسيط أو عفوي، فكانت هناك مثلاً أفلام الحركة
ذات الطابع البوليسي: «سواق نص الليل»، «سلطان»، «أبو حديد»،
«النصاب»، «آخر فرصة»، «أنا الهارب»، و»المشاغب». أو أفلام
الكوميديا والاستعراض: «سر طاقية الإخفاء»، «جوز مراتي»، «الساحرة
الصغيرة»، «العريس يصل غداً»، وصولاً الى «عريس بنت الوزير»، «إنت
اللي قتلت بابايا»، و»سفاح النساء». كذلك، هناك أفلام أخرى تحمل
مضامين اجتماعية أو دراما نفسية، مثل «فضيحة في الزمالك»، «دماء
على النيل»، «كنوز»، و»بلا رحمة». فضلاً عن أفلام تهدف إلى إيصال
مضمون وطني وسياسي، مثل «سمراء سيناء»، و»الجاسوس»، و»فارس بني
حمدان»، و»العميل77»، و»تل العقارب».
ولم يقدم عبد الحي أديب مع يوسف شاهين سوى فيلمين فقط، هما الناجح
جداً «باب الحديد» 1958، والمنسيّ تماماً «نداء العشاق» 1960. كما
قدّم فيلماً واحداً مع حسن الإمام، هو»لا تتركني وحدي» 1975،
وتعاون مع غالبية المخرجين مثل عاطف سالم، الذي قدّم معه واحداً من
أهم أفلامه وأشهرها «أم العروسة» 1963، وأشرف فهمي وبركات وكمال
الشيخ وإيناس الدغيدي وغيرهم. وكان آخر ما قدّمه الى السينما،
فيلماً من إخراج ابنه الأصغر عادل أديب، وإنتاج ابنه الأكبر عماد
الدين أديب هو «ليلة البيبي دول» 2007.
ويلفت الدسوقي النظر إلى أنه لم يتمكّن من متابعة ورصد الأفلام
التي قدّمها أديب الى السينما التركية.
ويختتم الناقد السينمائي إبراهيم الدسوقي قائلا: «هي إذاً اختيارات
عبد الحي أديب المحبّبة إليه، والتي وجدها قريبة منه، نصاً وثقافةً
وفناً، وتذوّقها وكانت لها النصيب الأوفر في إنتاجاته السينمائية
التي شكّلت جزءاً من ملامح سينما عبد الحي عبر زمنه، شارك فيها
مبدعاً ومجدداً للنصوص السينمائية – السيناريو – نقل فيه جزءاً من
ذاته وإبداع مكوناته وتواجده داخل مساحة وحقبة وطنية، والبحث
الدائم عن السينما التي يعشقها ويفرد لها كل وقته وأفكاره». |