فيلم 'أيزنشتاين في المكسيك' يقدم سردا وصفيا واقعيا لحياة
الفيلسوف الروسي الذي تعرض للقمع رغم ما قدّمه للسينما ولقضية
الثورة السوفيتية.
برلين- من الأفلام التي كان ينتظرها بلهفة عشاق وجمهور السينما في
مهرجان برلين السينمائي الأخير، الفيلم الجديد للمخرج البريطاني
بيتر غريناواي الذي نجح مدير المهرجان ديتر كوسليك في الحصول عليه
وضمّه إلى مسابقة المهرجان، بعد أن كان غريناواي يفضل دائما
المشاركة بأفلامه في مهرجان “كان”. ولا شك أن الفيلم جاء مفاجأة
سارة حقيقية لعشاق هذا السينمائي المرموق والمعروف باهتمامه الكبير
بتطوير جماليات الفيلم.
جاء فيلم غريناواي الجديد “أيزنشتاين في المكسيك”، ونفضل هذا الاسم
على الاسم الأصلي بالأنكليزية وهو “أيزنشتاين في غواناخواتو” تسبقه
تلك الضجة التي ثارت في روسيا، حيث أعلنت السلطات، بطريقة غير
مباشرة ومن خلال تقارير صحفية، عن عدم رضاها عن الفيلم، حتى قبل
اكتمال تصويره.
وتردّد أيضا أنه من المؤكد أن يمنع عرضه في روسيا، في إطار إنكار
فكرة أن أحد أعظم الفنانين الروس في كل العصور، أي المخرج
السينمائي الكبير سيرغي أيزنشتاين، الذي يقارن ببيتهوفن ورمبرانت
وشابلن، كان من “الشواذ جنسيا”.
ويقول غريناواي في مقابلة حديثة منشورة معه، إن المسؤولين في أرشيف
الفيلم الروسي رفضوا منحه حق استخدام بعض اللقطات من أفلام
أيزنشتاين الشهيرة في فيلمه الثاني الذي يعتزم إخراجه عن أيزنشتاين،
والذي ستدور أحداثه قبل فيلمنا هذا، أي في عام 1929، ويسلط الأضواء
على رحلة المخرج الروسي الكبير، إلى أوروبا وأميركا وهوليوود وعلى
لقائه بكبار المشاهير في عالم الفن والفكر والثقافة في تلك الفترة.
السلطات الروسية تحفظت على فيلم غريناواي، بسبب تسليطه الضوء على
الميول الجنسية الشاذة للمخرج أيزنشتاين
أما سبب تحفظ السلطات الروسية والغضب الإعلامي الروسي من فيلم
غريناواي، فيرجع إلى أن غريناواي، المعروف بولعه باكتشاف الجوانب
الغريبة في شخصيات الفنانين التي يتناولها في أفلامه، يسلط الضوء
هنا على الميول الجنسية المثلية (الشاذة) لأيزنشتاين.
في المقابل يقدم وصفا تفصيليا إيروتيكيا مليئا بكل ما كان يعدّ من
المحظورات في السينما، من العلاقة الجسدية التي يؤكد غريناواي أنها
ربطت بين المخرج الروسي وشاب مكسيكي (متزوج ولديه طفلان)، هو
البروفيسور بالومينو كانيدو، وهو المرافق الرسمي لأيزنشتاين خلال
وجوده في المدينة المكسيكية عام 1931 لتصوير فيلم “تحيا المكسيك”.
ولكن أيزنشتاين لم يكمل الفيلم أبدا، رغم أنه صوّر نحو مئتي ساعة
من اللقطات.
يقول لنا صوت المعلق من خارج الصورة في بداية الفيلم أن الاسم
الثاني للفيلم، والأقرب إلى موضوعه، هو “عشرة أيام هزت أيزنشتاين”
على غرار “عشرة أيام هزت العالم”، وهو الاسم الذي عرف به فيلم
أيزنشتاين الشهير عن الثورة السوفيتية “أكتوبر” في الغرب.
ويركز فيلمنا هذا على العلاقة الحميمية التي ربطت المخرج الروسي
بالبروفيسور المكسيكي، وكيف أصبح أيزنشتاين تدريجيا منشغلا بتلك
العلاقة في إطار اهتمامه الفلسفي العميق بفكرة العلاقة بين الجنس
والموت، وربما تكون السبب في عدم استكماله فيلمه عن المكسيك.
أيزنشتاين في الفيلم (يقوم بدوره ببراعة كبيرة الممثل الفنلندي
إلمر باك)، مشغول بالجنس والموت: وهو يقوم بتصوير كل ما يتعلق
بمتحف الموتى في المدينة المكسيكية واستعراض يوم الموتى، كما نرى
ولعه بالجماجم البشرية التي يستخدمها غريناواي في فيلمه، سواء
كأقنعة أو كمعادل للموت الذي يجاور الإنسان، حتى وهو في أشدّ
لحظاته إغراقا في الجنس.
وفي أحد المشاهد نرى كلا الرجلين يحملان هيكلين عظميين، كاملين،
ويرقصان بهما معا في مشهد غريب، قبل أن يستأنفا ألعابهما الجنسية.
والحقيقة أن ما يجسده غريناواي من مشاهد إيروتيكية قد يراها البعض
مثيرة، هي أقرب إلى “الألعاب الجنسية” منها إلى جنس حقيقي حميمي،
فليس هناك على سبيل المثال، أي تبادل للقبلات، أو تحسس الجسد، بل
يحدث كل شيء بشكل رمزي هزلي، حتى في أكثر المشاهد مقاربة للواقع.
والفيلم بأكمله بحث عن التحقق من خلال اكتشاف ما يكمن داخل الجسد
من قوة ومن ضعف، من تجاور بين الرغبة المشتعلة والنعاس، وبين الولع
بالآخر، الإنسان، حتى لو كان من نفس الجنس، والخوف من الموت، ولعل
ما يفتقده الفيلم بشكل محسوس، هو كيف انعكس هذا الاهتمام على أفلام
أيزنشتاين التالية أو بالأحرى على تفكيره كسينمائي.
الفيلم بأكمله بحث عن التحقق من خلال اكتشاف ما يكمن داخل الجسد من
قوة ومن ضعف، من تجاور بين الرغبة المشتعلة والنعاس
يبرع غريناواي في استخدام الممثل واستخراج طاقته التعبيرية الهائلة
من خلال الحركة والحوار، الذي يبدو في الكثير من المشاهد أقرب إلى
“المونولوغ” منه إلى “الديالوغ”، كما يستخدم الديكورات المذهلة
الكلاسيكية الغريبة، ويكسر جمالها الصارخ بأداء أيزنشتاين
المتمرّد؛ إنه مثلا يتجرد تماما من ملابسه بمجرد وصوله إلى مقر
إقامته الفخم في حضور الخدم والمساعدين.
كما يستخدم حركة الكاميرا بجرأة تتجاوز كل ما عهدناه في أفلامه
السابقة الشهيرة مثل “عقد الرسام” و”حديقة الحيوانات” و”الغرق
بالأرقام” و”الطاهي واللص وزوجته وعشيقها” و”بطن المعماري”،
فالكاميرا هنا لا تكف عن الدوران حول الشخصية (لقطة كان خلالها
أيزنشتاين راقدا عاريا في الفراش ومنتجة فيلمه الأميركية التي جاءت
من هوليوود للتفاوض معه، تحاول إقناعه بارتداء ملابسه والانتقال
إلى مكان آخر لمناقشة المشروع).
وأيضا في حركة أفقية (بان) تدريجية تتابع من وراء الأعمدة والفواصل
تحرّك أيزنشتاين في بهو الفندق في لقطات مختلفة، ولكن دون قطع،
بينما هو يتكلم ويصرخ ويعبر عن رفضه واحتجاجه، مواصلا ترديد
اعتراضاته على الشروط التي تحاول المنتجة الأميركية فرضها عليه
كشرط لتمويل مشروع فيلمه.
شخصية أيزنشتاين في الفيلم تقدم كرجل يتمتع بالعبقرية وغرابة
الأطوار والجموح الشديد، والقدرة على السخرية. إنه مثلا يخاطب عضوه
الذكري في أكثر من مشهد، ويشكو لصديقه كيف أنه كان دائما يخذله،
وكيف أن كل مهمته أصبحت تتركز في التبول.
وأيزنشتاين -المتزوج- يخاطب زوجته “بيرا” أكثر من مرة في الفيلم
عبر الهاتف، معتبرا إياها الشخص الوحيد في العالم الذي يمكنه أن
يعترف له بكل ما يجري في حياته دون خجل، بل ويذكر لها كيف أنه
يرتبط بعلاقة مع رجل.
وفي الوقت نفسه يخشى أيزنشتاين بوضوح سلطة ستالين، ويشعر بنوع من
الحصار والمراقبة، ويقول لصديقه إن “الخيارات التي يمكن أن تأتي من
جانب ستالين، ستكون خيارات قاسية في كل الأحوال”. وهو يعرب لصديقه
أيضا عن عدم رغبته في العودة إلى موسكو، لكننا نعرف أنه سيضطرّ
للعودة.
فيلم غريناواي مليء بلقطات من أفلام أيزنشتاين الشهيرة: الإضراب،
المدمرة بوتومكين، أكتوبر، تحيا المكسيك، ويتكرر بوجه خاص مشهد
اقتحام الثوار الحمر لقصر الشتاء في موسكو، الذي كان ذروة انتصار
الثورة الروسية بعد عشرة أيام من الصراع العنيف مع النظام القديم
القيصري.
وعلى سبيل السخرية المجازية، يعلق أيزنشتاين على المشهد بأنه يوافق
اليوم “الذي فقد فيه أيزنشتاين عذريته”، ويستخدم غريناواي كثيرا
أسلوب تقسيم الشاشة إلى ثلاثة أقسام، يجعل أيزنشتاين في الوسط وعلى
الجانبين نرى الشخصيات التي يتطرق في حديثه إليها، تتعاقب، وتظهر
أحيانا بالألوان وأحيانا أخرى بالأبيض والأسود.
أيزنشتاين يخشى بوضوح سلطة ستالين، ويشعر بنوع من الحصار
والمراقبة، ويقول لصديقه إن “الخيارات التي يمكن أن تأتي من جانب
ستالين
شخصيات الكتّاب والسينمائيين ولقطات من الأفلام ومن قصاصات الصحف
والأماكن التي زارها، والأهم بالطبع، رسومات وتخطيطات (أي اسكتشات)
أيزنشتاين الشهيرة الإيروتيكية العارية، التي تظهر في الكثير منها
علاقات جنسية مثلية، بل إن غريناواي يجعل هذه الرسوم تتمتع بالحركة
أحيانا باستخدام أسلوب التحريك.
الفيلم كله يبدو أقرب إلى رقصة تعبيرية بالجسد، تعبّر عن جموح
الفنان واشتعال روحه بالرغبة في التجربة والمعرفة.في أولى المشاهد،
يكتشف “الدوش” في حمام الفندق، ويعرف كيف يلهو به وبالمياه
المتدفقة منه بجنون، بدعوى أن روسيا لا تعرف مثل هذه الأداة في
حمامات البيوت الروسية.
وغريناواي بالتالي لا يقدّم سردا وصفيا تسجيليا واقعيا لحياة
أيزنشتاين في المكسيك، بل يستخدم المادة والمعلومات والصور
المتوفرة لديه، وينسج من خياله أيضا، لكي يعكس رؤيته الخاصة عن ذلك
الفنان العظيم، الذي تعرض للقمع رغم ما قدّمه للسينما السوفيتية
ولقضية الثورة السوفيتية أيضا.
ولعل ما يريد الفيلم أن يوصله يتلخص في النهاية؛ وهو أن الفنان لا
يعرف حدودا ولا قيودا، سواء في حياته أو في فنه، ولهذا كان من
الطبيعي أن يصطدم، وأن يموت أيضا وهو في الخمسين من عمره.
'الولد المشاكس' حكمة النمل تخضع الإنسان
العرب/ رضاب نهار
فيلم 'الولد المشاكس' يحارب العنف والأذى ويحتفي بالتعاون والتسامح
كأسس ثابتة لأية علاقة تنشأ في الحياة وبغض النظر عن أطرافها.
في فيلم الصور المتحركة "الولد المشاكس" يمكن للمتابع أن يشاهد أو
يعيش تجربة إنسانية شديدة التأثير، أثناء تقصيه لمجتمع النمل، هذه
الحشرات التي تشارك الإنسان تفاصيل حياته في كل الأماكن، لكن دون
محاولته فهمها أو السعي إلى تفكيك تصرفاتها.
كثيرون حاولوا فهم عالم النمل، من بينهم أولئك القائمون على فيلم
"الولد المشاكس"" بدءا من فكرته الإبداعية الأولية، وصولا إلى
المنتجين والمدبلجين والعارضين.
شارك في دبلجة الفيلم كل من ميرل ستريب، نيكولاس كيج وجوليا
روربرتس. وهو من تأليف جون ديفز. وتروي الحكاية تجربة غريبة من
نوعها يعيشها الطفل لوكاس الذي قام بأذية مملكة النمل في مكانها
داخل حديقة منزله وإغراقها بالماء.
ويترتب على تصرفه انتقام مماثل من قبلها، يتجسد في سكب دواء سحري
في أذنه ما يؤدي إلى صغر حجمه. فيسحبونه إلى جحرهم بغرض معاقبته.
في المقابل هوفا النملة الطيبة والحكيمة، تطلب من الجميع التروي في
العقوبة، كمحاولة لتحويله إلى نملة.
وهنا تبدأ معاناة الطفل محاولا التأقلم مع واقع لا ينتمي إليه. لكن
في النهاية ينجح في تحقيق الهدف، مؤكدا أن الانتماء والولاء ليس
بالشكل، بل بالمضمون وبالتصرفات. وذلك بعد إنقاذ مجتمع الحشرات من
الرجل المقرف الذي يعمل بالمبيدات الحشرية.
وما إن يعود الطفل إلى طبيعته السابقة كإنسان بحجمه الحقيقي
والمعروف، حتى يتعلم درسا حول كيفية التعامل مع الآخر واحترامه
مهما كان حجمه أو جنسه ومهما كان مختلفا.
وبمعنى ثان يتعلم أن التعايش السلمي والودّي يصلح لأن يكون الخيار
الأنسب لدى جميع الكائنات، وهي الرسالة العميقة التي يريد فيلم
الكرتون هذا، إيصالها للعالم بأسره بكباره وصغاره، تجنبا للحروب
والاقتتال العنيف.
تنهض الفكرة في الفيلم على ثيمة إنسانية بكل معنى الكلمة، فتراه
يحارب العنف والأذى ويحتفي بالتعاون والتسامح، كأسس ثابتة لأية
علاقة تنشأ في الحياة، وبغض النظر عن أطرافها.
ولعل العبارة الأدق التي لامست هذا المنحى أكثر من غيرها، هي تلك
التي قالتها النملة هوفا لحبيبها أثناء حديثهما عن الطفل لوكاس:
“توجد طيبة فيه، في داخله نملة”.
وهنا ثمة إشارة استفهام على فكرة “الأنسنة” التي خضعت لها حشرات
العمل من نمل ودبابير وفراشات طائرة وقمل وغيرها العديد، ذات
الأحجام والأشكال المختلفة. فأن ندخل إلى حيوات هذه الحشرات، لا
يعني بالضرورة أننا نُؤَنْسِنُها، أو نجعلها شبيهة بطبائع الإنسان.
وبالتالي نحن نقصد بمصطلح الإنسانية، الرقي في التعامل والرقة
واحترام الآخر وكل ما هو جميل. ولا نقصد الإنسان في حدّ ذاته، إذ
يتطرق الفيلم إلى الكائن البشري أي الإنسان في المطلق، كبيرا أو
صغيرا، كأحد أهمّ رموز الشر في المحيط، خاصة تجاه مجتمع النمل
والحشرات عموما.
في ذات الخصوص يحارب "الولد المشاكس" التطرف باعتباره صفة غير
محببة أبدا، وغالبا ما تجلب المشاكل لصاحبها أولا وللآخرين ثانيا.
ويعرض الأزمة من خلال شخصية النملة الذكر عاشق هوفا، في كرهه
للوكاس الطفل.
وكما المجتمعات البشرية، تتكشف تحالفات جديدة من أجل مواجهة
العدوان، لكن هذه المرة ليس لأجل مصلحة ما، إنما بغرض محاربة الشر
المطلق الذي يتبدّى في رغبة البعض بالإبادة الكلية للحشرات، أو في
أكلها حتى. فمن دون شك، الخير واضح والشرّ واضح، وكل يعمل وفق
خصاله. |