"رجال
نعم يتمردون" نموذج للكوميديا الوثائقية !
أمير العمري
من أحد الأفلام الوثائقية التي عُرضت في الدورة الـ 65 من مهرجان
برلين السينمائي، الفيلم الأمريكي "الرجال الذين يقولون نعم ..
يتمردون" أو "رجال نعم يتمردون" الذي اشترك في إخراجه ثلاثة من
المخرجين على رأسهم المخرجة لاورا نيكس مع الثنائي الشهير آندي
بيكلباوم ومايك بونانو (والإسمان من الأسماء المستعارة في حين أن
الاسمين الحقيقيين للممثلين والمخرجين اللذين تخصصا في هذه النوعية
من الأفلام التحريضية الساخرة، هما جاك سيرفين وإيجور فيرموس).
ولكن أندي ومايك ليسا مجرد "ممثلين" بل هما يوظفان مواهبهما في
النشاط السياسي الذي يقومان به، سابحين عكس التيار، مناهضين
للمؤسسة الرسمية في بلادهما.
الفيلم الذي يصل إلى نحو 90 دقيقة، هو الثالث ضمن ثلاثية بدأها
الممثلان الساخران اللذان يبتكران المواقف وينتحلان شخصيات ليست
لهما، ليس من أجل تضليل الرأي العام، بل على العكس تماما، بغرض
إرغام الشركات والمؤسسات الرسمية الأمريكية على الاعتراف بالحقيقة،
والتوقف عن خداع الرأي العام، وتغيير سياساتها التي تهدف إلى تحقيق
الربح على حساب الجمهور المستهلك الذي يدفع الثمن دائما.
الفيلمان السابقان هما "رجال نعم" (2002)، و"رجال نعم يصلحون
العالم" (2009). وعلى النمط نفسه، الذي أصبح شهيرا وتسبب في
الكثيرمن الإشكاليات لأصحابه، يسير الفيلم الجديد الساخر، في تصوير
استعدادات فريق "رجال نعم" أي الرجال الذين يقولون نعم، لخوض معارك
تنبيه الرأي العام وحشده ضد موضوع رئيسي يشغل العالم الآن وهو
تحديدا موضوع تغير المناخ وارتفاع درجة حرارة الأرض وما يمكن أن
ينتج عنه من آثار جانبية مدمرة، ستنعكس بوجه خاص، على بلدان العالم
الثالث الفقيرة.
ينتقل الفيلم من نيويورك إلى أمستردام، ومن سياتل، إلى كوبنهاجن،
ومن واشنطن إلى اسكتلندا، ومن القطب الشمالي إلى أوغندا في وسط
إفريقيا، في سياق بصري أخاذ ومن خلال إيقاع سريع، يمزج بين الصور
واللقطات الوثائقية (من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة
التي تناقش قضية التغير المناخي مثلا) إلى مؤتمر أمستردام للتغير
المناخي، ثم الإعلان عن الشراكة بين شركة شل الأمريكية وشركة
غازبروم
Gasprom
الروسية في كوبنهاجن، إلى أحداث احتلال "وول ستريت" أي شارع
البورصة في نيويورك، من خلال أشكال فريدة ومبتكرة ومضحكة من
الاحتجاجات المنظمة. كما يستخدم صانعو الفيلم التعليق الصوتي
الساخر، الذي يتناقض كثيرا مع الصورة بطريقة ذات تأثير مضحك، كما
يستخدمون الرسوم والبيانات وتقنية التحريك، لتقديم المعلومات إلى
المشاهدين وتجسيد أبعاد المشكلة التي يعرضون لها، بطريقة بسيطة
وجذابة.
تقديم ساخر
في المشهد الأول الافتتاحي نرى كيف يرتدي أعضاء المجموعة من
المتمردين على المنظومة الاقتصادية الأمريكية، أزياء غريبة تجعلهم
يشبهون الكائنات الفضائية، هي أزياء تخفي أجسادهم تماما لا يظهر
منها سوى عيونهم التي تطلّ من ثقوب، ويبدون مثل بالونات منتفخة
مضحكة تتعثّر أثناء السباحة في النهر الشرقي في اتجاه مبنى الأمم
المتحدة بنيويورك، وعندما ينجحون في الوصول للشاطيء الآخر ويتقدم
أحدهم من سلالم مبنى الأمم المتحدة يتصدى لهم رجال الأمن الذين
يحرسون اجتماع قادة دول العالم في القاعة الكبرى داخل المبنى، وما
ينجم عن الاحتكاك من مشاهد مضحكة طريفة. لكن الهدف يكون قد تحقق،
وهو لفت أنظار الإعلام، وبالتالي الرأي العام، إلى ضرورة اتخاذ
موقف من الكارثة التي توشك أن تهدد كوكبنا الأرضي.
تتقاطع لقطات نشطاء "رجال نعم" أمام الأمم المتحدة مع مشاهد
للمتجمعين حولهم لتصويرهم وهم في هذه الملابس الغريبة، أو لتعليقات
من المواطنين تبدي التشكُّك فيما يمكن أن يفعله أوباما، الذي يتنكر
لوعوده بالفعل فيما بعد ويمنح الاحتكارات الأمريكية الفرصة لمواصلة
استغلال الكوكب الأرضي بما يحقق تطلعاتها الخاصة.
من هنا يأتي الاحتجاج المبتكر الذي يتركز عليه نشاط فريق مجموعة
"رجال نعم"، وخاصة الثنائي الشهير، فهم ينظمون مؤتمرا صحفيا يدعون
إليه عددا من كبار السياسية والاقتصاد، باسم شركة شِل العملاقة،
ويقف مايك ليتحدث باسم الشركة، ليقول كلاما ويلقي من التعهدات
لمكافحة التلوث والتغير المناخي وتأييد البرنامج الذي يقضي بوقف
الأنشطة التي تضر بالمناخ، بما يتعارض تماما مع مصالح الشركة. وهنا
ينبري له أحد مسؤولي الشركة ويقول له أمام الكاميرا والحاضرين إنه
"مزيف" وإنه "لا يمثل شركة شِل" ويطالبه بإبراز بطاقة التعريف
الشخصية. وعلى الفور يتحول المشهد ليصبح الخبر الرئيسي في نشرات
الأخبار في أمريكا والعالم، كما يتصدر عناوين الصفحات!
وفي موقف آخر مشابه ينظم مايك وأندي مؤتمرا باسم غرفة التجارة
الأمريكية التي تمثل الاحتكارات الصناعية والتجارية على أعلى
مستوى، يوجهون خلاله انتقادات للسياسة الرسمية التي تتقاعس عن
مواجهة ظاهرة التغير المناخي مع تعهدات بأن الغرفة ستدعم مثل هذا
التوجه. وعلى الفور يقف أحد مسؤولين الغرفة، لكي يحتج على مايك
كمتحدث باسم الغرفة، ويقول إنه لا يمثل الغرفة ويعلن أن الاجتماع
"مزيف" ومجرد "خدعة"!
ومن أكثر أجزاء الفيلم طرافة تلك التي نرى فيها استعداد الفريق
لتقديم عرض ساخر في كوبنهاجن، في إطار الاحتفال (المزيف طبعا) الذي
سينظمونه في إحدى الساحات العامة هناك، بالشراكة التي أعلن عنها
بين شركة شِل وشركة غازبروم الروسية (التي يدعمها الرئيس بوتن
شخصيا)، وذلك عن طريق الاستعانة بممثل أوكراني يتدرب على أداء مشهد
يقدم فيه استعراض شبيه بطريقة مقدمي عروض السيرك، دبا ضخما (مزيفا
بالطبع) عبارة عن هيكل خارجي من القماش أو الجلد يدخل رجل لكي
يتحرك بما يشبه الدب الروسي الأبيض العملاق تماما، ويوضع هذا الدب
داخل قفص يتم حمله والكشف عنه أمام الجمهور في الساحة باعتباره
هدية من الشركة الروسية لشريكتها شل.. ولكن العرض يفشل على نحو
فاضح عندما يتعثر الرجل داخل هيكل الدب ويسقط وتنكشف الخدعة، لكن
مرة أخرى، يكون الهدف قد تحقق: التعريض بسياسات شركة شل وفضح
مخططاتها للتوسع غير ملقية بالا إلى ما يتنج من تلوث في البيئة،
فهي قد حصلت على الضوء الأخضر من الرئيس الأمريكي، لكي تبدأ
التنقيب عن النفط في القطب الشمالي، وبالتالي تدمير ثرواته
الطبيعية مما سيتسبب - كما نرى من خلال التحريك - في نفوق
الحيوانات والطيور، والأهم بالطبع، أن تلك النشاطات ستتسبب في
ارتفاع درجة الحرارة في المنطقة مما ينتج عنه ذوبان القطب الشمالي
بما يهدد بلدان عدة بالغرق وبتدمير الزراعات التي يعيش عليها البشر!
إلى إفريقيا
ومن خلال إحدى عضوات الفريق وهي أوغندية، ينتقل الفريق إلى أوغندا
ليرصد من خلال المقابلات مع العديد من الأشخاص والمتخصصين، التأثير
المدمر لارتفاع حرارة الأرض على الزراعة وتربية الماشية وبالتالي
انتشارالمجاعات كما نرى بشكل توثيقي واضح.
ومن الجوانب التي تجعل الفيلم قريبا من المشاهدين، اهتمام مخرجيه
بالانتقال بين الخاص والعام، أي أنه يربط بين الجانب الموضوعي الذي
يتعلق بالقضايا الجادة التي يتركز عليها عمل النشطاء، وبين الجانب
الحياتي الشخصي للثنائي الذين يدير المجموعة منذ سنوات، وكيف أن
العلاقة بينهما تعاني من التصدع، بعد أن أصبح مايك مشغولا مع زوجته
التي أنجبت ثلاثة من الأبناء، وانتقاله من نيويورك إلى اسكتلندا
التي يراها مكانا أكثر هدوءا للإقامة، كما يفشل أندي في علاقاته
العاطفية ويكتشف كما يقول لنا، إنه أصبح يفضل العمل على صحبة
البشر. ويكشف الرجلان لنا أنهما ينتميان لوالدين من اليهود الذين
نجوا من المحرقة النازية في الحرب العالمية الثانية، وربما يكون
هذا - كما يقولان - السبب في التمسك بفكرة رفض السلطة القوية
الغاشمة والتصدي لها، لأنها تؤدي بالضرورة إلى قمع الفرد.
في المشهد الأخير ينضم إلى الفريق أحد أفراد الفرقة الذي يتخفى في
دور مغنى من السكان الأصليين الأمريكيين (الهنود الحمر)، وتنظم
المجموعة احتفالا (مزيفا) تدعو إليه مجموعة من السياسيين وكبار
المسؤولين، على اعتبار أن أحد كبار مساعدي وزير الدفاع والجنرال
السابق كولن باول، سيكون حاضرا، وفي لقطات تسجيلية نرى المساعد
الحقيقي، وهو رجل ذو شعر أبيض طويل ينسدل على كتفيه ويغطي مقدمة
وجهه، ثم نرى كيف يرتدي آندي "باروكة" شعر مشابهة ليلعب دوره، ثم
يلقي كلمة أمام الحضور، يتعهد خلالها بأن تعمل المؤسسة التي يرأسها
باول، على مقاومة التلوث البيئي والتغير المناخي - على غير الحقيقة
بالطبع - وسط تصفيق الحاضرين، الذي يتبارون في إلقاء كلمات تؤكد
اهتمامهم بالأمر ( مادام قد جاء من طرف شبه رسمي! ) وتصل المهزلة
إلى ذروتها عندما يُطلب من الجميع الوقوف في دائرة، وهم متشابكي
الأيدي، والدوران وهم يغنون ويرددون كلمات أغنية هزلية يرددها
المغني المزيف، تعكس كثيرا من التفاؤل بشأن المستقبل!
هذا نموذج للفيلم الوثائقي الكوميدي الساخر الممتع، الذي يستخدمم
الهزل للفت الأنظار إلى قضايا شديدة الخطورة والجدية، ويقف وراءه
مجموعة من المؤمنين بقضيتهم، وهم أيضا يمتلكون القدرة على التمثيل
وإرباك خصومهم بجرأتهم في اقتحام الأماكن الرسمية، وعقد المؤتمرات
المزيفة التي تفضح الممارسات السلبية للاحتكارات، الأمر الذي
يوقعهم في الكثير من المشاكل، منها كما نرى في الفيلم، القضية التي
ترفعها ضدهم غرفة التجارة الأمريكية، وإن كانت تتنازل عنها فيما
بعد، كنوع من إثبات حسن النوايا في التعامل مع القضايا التي يطرحها
النشطاء
!
رشيد المشهراوي: "رسائل من اليرموك"
بشار إبراهيم
يحقّق المخرج رشيد مشهراوي فيلمه الوثائقي الجديد «رسائل من
اليرموك» (قناة «الغد العربي» 2014، 57 دقيقة)، الذي يبدو من
عنوانه أنه يريد تناول مأساة «مخيم اليرموك» للاجئين الفلسطينين في
سورية، الواقع جنوب دمشق، وعلى اتصال بها، وهو أكبر مخيمات
اللاجئين الفلسطينيين، وأشهرها، زاد منها مأساته التي يعيشها منذ
عامين، والتي أصبحت واقعاً تتكثف فيه المأساة الفلسطينية بمختلف
أوجهها.
سيلفتُ النظر منذ البداية، استخدام مشهراوي اسم «اليرموك» مجرداً،
أي باعتباره اسماً علماً، دون أن يعني هذا أنه يريد محو صفة
«المخيم»، التي ينبغي أن تلازم أيّ حديث، خاصة مع من لا يعرف
«اليرموك». والصحيح، كما نعلم، أن المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي
يعرف تماماً أن الفلسطينيين أطلقوا على «اليرموك» اسم «المخيم»
كنايةً دالةً جامعة، ففي أوساط اللاجئين الفلسطينيين في سورية، على
الأقل، يكفي أن تقول كلمة «المخيم» على إطلاقها هكذا، حتى يتم
التفاهم أنك تقصد «مخيم اليرموك»، تحديداً، بما يضمّه من جوار
يتّسع ليشمل «مخيم اليرموك»، الذي نشأ بداية خمسينات القرن
العشرين، على أرض ممنوحة لـ«مؤسسة اللاجئين الفلسطينيين»، تتولاه
«هيئة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين» (أونروا)، وامتدادته
اللاحقة والطارئة منها، بدءاً من «مخيم فلسطين» الذي كان، وصار
اسمه «شارع فلسطين» فيما بعد، والشوارع الرديفة؛ من شارع الثلاثين
وامتداده، إلى شارع العروبة، وحتى حيّ التضامن، الذي لا يفصله عن
«مخيم اليرموك» إلا «شارع فلسطين»، وصولاً من الناحية الجنوبية إلى
حافة تجمّع الحجر الأسود، الذي بات مدينة للنازحين السوريين من
الجولان، لا يفصلها عن المخيم إلا شارع الثامن من آذار، ومشحم
عامر، وسوق السيارات.
يدخل رشيد مشهراوي «عشّ الدبابير» طائعاً، أو مجبراً، فلا خيار
لسينمائي فلسطيني ملتزم مثله؛ سينمائي يتمازج إبداعه مع حياته
الشخصية (وهو ابن «مخيم الشاطئ» في قطاع غزة، ويقيم الآن في رام
الله)، بمواقفه الوطنية (المُعبّر عنها بالالتزام بقضيته وانحيازه
المُعلن إليها)، وقناعاته الفكرية (السينما أداة إبداعية نضالية)،
إلا أن يفعل ذلك. ولم يكن من المُنتظر أن لا يبادر رشيد مشهراوي
إلى تحقيق فيلم عن مأساة اليرموك، مهما كانت الصعوبات، وتعقّدت
المعيقات، وانغلقت السُبل.
بصوته الشجيّ، المشروخ بطريقة مُحبّبة، يورد مشهراوي مقدمة تمهيدية
تعتمد على التعليق الصوتي (صوت المخرج)، تنطلق من ماضي المخيم وتصل
إلى حاضره. هذا أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين،
ومُختلف عنها. يقارنه المخرج/ الصوت بالمدينة (شبه مدينة سورية).
يقول إن عدد سكانه 400 ألف من فلسطينيين وسوريين وعرب (وهذه معلومة
خاطئة! إذ أن سكان مخيم اليرموك كانوا في العام 2012، أي قبيل
تهجير سكانه، قرابة مليون و200 ألف نسمه، لا تتجاوز نسبة اللاجئين
الفلسطينيين منهم أكثر من 10 في المئة، أي بما لا يتجاوز 120 ألف
لاجئ فلسطيني، وفق غالبية الإحصائيات).
وعبر التعليق الصوتي، الذي يعتمد على الصور التي صوّرها نيراز، حتى
قبل أن نتعرّف عليه في الفيلم، يقول المخرج: «اليوم المخيم مُحاصر
من النظام السوري، نتيجة الاشتبكات بين النظام، والجيش الحرّ،
والأحزاب الإسلامية على أنواعها، والانشقاقات الفلسطينية، داخل
وخارج المخيم، التي ساهمت أيضاً في التوتر الحالي».
بعد هذين التمهيدين، اللذين يبدوان على قدر كبير من الحذر، وتحاشي
إلقاء اللوم على طرف دون آخر، دون أن يعني هذا أي حياد، يبدأ
التواصل ما بين المخرج ونيراز. وبالسؤال (عبر سكايب) سنعرف أن
نيراز سعيد (23 عاماً)، شاب من لاجئي مخيم اليرموك، وهو فلسطيني
أصلاً من قرية عولم، بالقرب من طبريا. إنه يقوم بالتصوير
الفوتوغرافي، والفيديوي، في مسعى منه لرصد الحياة اليومية في
المخيم إبّان الحصار، الذي كلما طال ازدادت المأساة، إيماناً منه (نيراز)
بأن «المخيم ناس»، أولاً.
يعترف رشيد لنيراز، منذ البداية وفي مباشرة صريحة، بالقول: «أنا ما
عندي ولا أي فكرة»، ويضيف «أعتقد أن موضوع سورية والحرب في سورية،
واليرموك، كبير، ومتداخلة فيه أشياء كثيرة، ومتشعّب». ولكن هذا لا
يمنعه من أن يُنجز معه «عقد الفيلم»، الذي يقوم على أن يُرسل نيراز
ما يمكنه من (مواد) مصوّرة فوتوغرافية وفيديوية، من داخل المخيم،
على وعد أن نرى ما الذي يمكن أن يحدث في النهاية.
الحقيقة أن وثائقي «رسائل من اليرموك» كان بدأ استعمال (المواد)
التي صوّرها نيراز منذ بداية الفيلم، وقبل ظهوره، وهو سياق ضروري
لا غنى عنه. وترتيب السيناريو، كما نراه، يمضي في اتجاه أن يقول
لنا رشيد مشهراوي ماذا يمكن لسينمائي خارج المخيم أن يفعل، وهو
يريد أن ينقل إلى العالم جوانب، على الأقل، مما يحدث الآن في مخيم
للاجئين الفلسطينيين في سورية، ما بين احتلال وحصار، منطلقاً منها
ليجوب في الواقع الفلسطيني (صيف العام 2014) ما بين الشتات، والضفة
الغربية، وقطاع غزة، وفلسطين المحتلة العام 1948، دون أن ينسى
بلدان المهجر الجديد في أوروبا.
صحيح أن أهمية فيلم «رسائل من اليرموك» الأولى تتجسّد في دوره
الوظيفي؛ لناحية كشف وتصوير وفضح وتوثيق مأساة أو فاجعة مضاعفة،
تحيق بلاجئين هُجّروا عنوة من فلسطين في نكبة العام 1948، ليعاودوا
مُكرهين بعد شوط من النكبات والنكسات، الوقوع في قبضة كارثة أشدّ
مرارة ومضاضة، لم تكن أكثر المخيلات شرّاً لتملك الجرأة على
تصوّرها أو التفكير بإمكان وقوعها... ولكن الصحيح أيضاً أن للفيلم
أهمية لا تقلّ عن ذلك من جوانب أخرى؛ إبداعية تحديداً، إذ يمكن
القول إن وثائقي «رسائل من اليرموك» يُشكل منعطفاً جديداً
ومؤسِّساً في سياق السينما الفلسطينية عموماً، والأفلام الوثائقية
الفلسطينية على نحو خاص.
هذا فيلم وثائقي يحقّقه سينمائي موجود الآن في الداخل الفلسطيني،
يتناول موضوعاً وجودياً لفلسطينيي الشتات والداخل معاً. ربط ما بين
رام الله ومخيم اليرموك وغزة، ذاك الذي لم تستطع السياسة،
والفعالية الشعبية، القيام به. السينما تؤدي واجبها، والفيلم يوظّف
وسائل الاتصال الإلكتروني، بطريقة جمالية، في بناء التفاعل الداخلي
في الفيلم، ما بين شاشة الفيلم وكاميراه الكلية (الصياغة
المونتاجية الأخيرة للفيلم)، وداخلها شاشة المخرج (رشيد مشهراوي)
وكاميراه في رام الله، وشاشة مساعد المخرج (نيراز سعيد) وكاميراه
في مخيم اليرموك، والشاشة والكاميرا الرابعة، الموازية، التي تماثل
تحطيم الجدار الرابع في العرض المسرحي.
هكذا يمكننا التوقف أمام فكرة التصوير المتوازي، والتصوير المركّب
(تصوير التصوير، والانتقال من حال التواصل إلى تصويره). وفضلاً عن
هذا التأثيث البصري المتعدد، أفقياً وعمودياً، سنجد تأثيثاً
مُضافاً يأتي على شكل استطرادات لازمة، تأخذ صيغة البوح الشخصي
أحياناً لكل من المخرج (حياة ناس، بتناضل، بتموت، بتجوع... وإحنا
في السينما نسميها مواد)، ولمساعده (فلسفة السطوح في المخيم وفي
حياته)، كما تنطلق في جولان مساعد كالذهاب إلى قرية عولم في طبريا،
وقرية نحف في عكا، أو إقامة معرض صور في متحف محمود درويش (معرض
«للحلم بقية» بتاريخ 24/06/2014)، وعقد مؤتمر (كونفراس) في تلك
المناسبة ما بين رام الله واليرموك، وتناول الحرب الإسرائيلية
المدمرة على قطاع غزة، ذاك الصيف.
المخرج الذي لم يمكن لديه أدنى فكرة كما قال، يكشف لنا مع نهاية
الفيلم أنها الفكرة ذاتها التي اختارها؛ فكرة اللافكرة، التي تجعل
من الفيلم سيرة فلسطينيين يزمعون صياغة نصّ بصري، شاهد وموثق ومؤرخ
وكاشف لما ينبغي أن يُعرف، وأن لا يُنسى، وليس أفضل من الصورة في
هذا المجال. ولعل من جوانب أهمية الفيلم، وبراعته، أنه يقول إذ
يمتنع عن التصريح، والخطابة، والشعار. التفاصيل اليومية في حياة
«مخيم اليرموك» في قلب الحصار. صور ناسه وأصواتهم. اللقاءات
والحوارات، وجلسات التعارف. الانتقالات المدروسة، والاستطرادات
المقصودة. تجعل من الفيلم منمنمات حقيقية، من واقع عياني، يعيشه
قرابة 20 ألف لاجئ فلسطيني مُحاصر في «المخيم»، على بعد أمتار من
الحياة. تماماً كما تجعله وثيقة بصرية عن فلسطينيي العام 2014 من
حصار «مخيم اليرموك»، إلى حرب «غزة»، وقرى فلسطين 48، الأبهى
والأحلى والأجمل حتى من ألمانيا.
إن كان لوثائقي «رسائل من اليرموك» أن يتنكّب مهمة إيصال هذه
الرسائل، فإن العروض التي بدأت مع الدورة الحادية عشرة من «مهرجان
دبي السينمائي الدولي» (ديسمبر 2014)، وتستمر خلال العام 2015،
كفيلة بنقل وإيصال رسالة بصرية تمتلك الكثير من المصداقية، مُصاغة
بنبض أناس يعيشون الوجع، يصورهم الفيلم على أمل محو أوجاعهم،
واستعادتهم إلى الحياة، والعودة إليهم. إلى المخيم الذي بات من
اللائق القول: نتمسّك بالمخيم... يعني نتمسّك بفلسطين. |