من الأفلام الوثائقية المثيرة للجدل التي عُرضت في الدورة الأخيرة
من مهرجان برلين السينمائي، الفيلم الإسرائيلي "خط ساخن"
Hotline (وهو
من الإنتاج المشترك مع فرنسا) للمخرجة سيلفانا لاندسمان
Silvina Landsmann.
يتعلق المدخل الأساسي للفيلم بتصوير الظروف الشاقة التي تعمل فيها
منظمة "خط ساخن" لرعاية المهاجرين واللاجئين، وهي منظمة غير
حكومية، مقرها تل أبيب، تعتمد في تمويلها على الدعم الذي تتلقاه من
منظمات خارجية.
ورغم تركيز الفيلم على عمل المنظمة التي تبذل جهودا غير عادية في
مجتمع ينظر إلى المهاجرين من غير اليهود، نظرة عنصرية مقيتة، خاصة
وأننا هنا تحديدا، بصدد اللاجئين الذين يأتون إلى إسرائيل من بلدان
إفريقية مثل إثيوبيا والسودان وكوت ديفوار وأوغندا وغانا وغيرها.
وبالتالي تصبح المشكلة أكثر تعقيدا، فهؤلاء من غير اليهود، وثانيا
هم من السود الذين ينظر إليهم المجتمع، كما نرى في الفيلم، نظرة
عنصرية أدنى بالضرورة.
في أحد أهم مشاهد الفيلم تناقش سيجال روزين، منسقة مجموعة "خط
ساخن"، وهي أيضا ناشطة سياسية، مع مجموعة من النساء والرجال من
جنوب تل أبيب في ندوة عامة، موضوع المهاجرين الذين أصبحوا يتركزون
في تلك المنطقة بوجه خاص، ونرى كيف يعبر السكان بأشد الألفاظ قسوة،
رفضهم التام لوجود المهاجرين الأفارقة بينهم وفي إسرائيل عموما،
بدعوى أنهم يخشون على بناتهم من الاغتصاب، وعلى بيوتهم من السرقة،
وعلى أنفسهم من التعرض للقتل في الشوارع. تحاول روزين مناقشتهم
بعقلانية وإقناعهم بأن هؤلاء القادمين من الخارج لهم أيضا حقوق
إنسانية، وأنهم يبحثون عن فرصة للعمل، وتتساءل كيف تكون إسرائيل
مجتمعا يقول أنه قام لإنقاذ المضطهدين من اليهود بينما يمارس
التفرقة على الآخرين ويتجاهل مأساتهم الإنسانية!
تترك المخرجة الكاميرا تتجول بشكل حر، تتوقف أحيانا أمام الموظفات
اللاتي تعملن لحساب "خط ساخن" وتراقب وتسجل كيف يتعاملن مع
المهاجرين للبحث في قضاياهم ومشاكلهم وهي تتلخص أساسا في ثلاثة
محاور: العمل والسجن وتحويل الأموال.
المشكلة الأولى ترتبط بالقانون الإسرائيلي الذي يحظر تشغيل من
يسميهم "المتسللين". ورغم أن إسرائيل كما تقول روزين في الفيلم، من
الدول التي وقعت على اتفاقية حماية اللاجئين وضمان حقوقهم
الانسانية، إلا أنها ترفض الاعتراف بهم بل تعتبرهم متسللين. ويذكر
التعليق الصوتي في الفيلم، أن هناك نحو 60 ألف حالة من الذين دخلوا
إسرائيل عن طريق التسلل عبر الحدود، كلهم جاءوا من إفريقيا عبر
سيناء المصرية. ويروي بعضهم في الفيلم كيف يتعرض الكثيرون منهم
للاختطاف من جانب قبائل البدو في سيناء، ويُطلب منهم دفع فدية
مالية ضخمة ويتعرضون للتعذيب بأشكال مختلفة مثل الصعق بالكهرباء،
والحرمان من الطعام والشراب. بعضم يموت من التعذيب والتجويع،
والبعض الآخر يُقتل على أيدي حراس الحدود على الجانب المصري،
والبعض الثالث ينجح في الفرار والتسلل إلى داخل إسرائيل. وهم في
معظمهم قد فرّوا من جحيم الحروب الأهلية والصراعات العرقية. ورغم
ذلك وبدلا من منحهم حق اللجوء والعمل، إلا أن السلطات الإسرائيلية
تعتقلهم وتحكم عليهم بالسجن لمدة تتراوح من سنة إلى ثلاث سنوات.
هنا يأتي دور "خط ساخن" التي تُعتبر منظمة حقوقية، توكل محامين
للدفاع عنهم، والعمل على إطلاق سراحهم، وتمارس الضغوط على السلطات
من أجل الحصول لهم على تصاريح مؤقتة بالعمل.
ونتوقف أمام حالة محددة لشاب من كوت ديفوار، يروي كيف أنه تسلل مع
زوجته إلى إسرائيل، واعتقلا في سجنين مختلفين، وقيل له إن زوجته
ماتت جراء الجروح التي أصيبت بها أثناء مطاردة مع حراس الحدود
الإسرائيليين، وهو لم يرها منذ أن اعتقلا أثناء التسلل، وها هو
الآن قد أطلق سراحه، ويريد أن يتسلم من السلطات الاسرائيلية شهادة
وفاة زوجته وجثتها، ويقول أنه يرغب في العودة إلى كوت ديفوار، ولكن
يتعين عليه أن يُطلع عائلة زوجته على ما يفيد بوفاتها كما يجب أن
يُسلمهم جثتها، لأنهم ينتمون إلى قبيلة أخرى تعادي لقبيلته، وسوف
يفتكون به إذا لم يتمكن من إثبات وفاة زوجته
!
السلطات الإسرائيلية لا يمكنها قانونا ترحيل الذين دخلوا إلى
البلاد، كما أنها تغمض عيونها أحيانا عمن يعملون بشكل غير قانوني
(كنوع من استغلال العمالة الرخيصة)، لكنها تشجع كل من يبدي رغبته
في العودة. أما من لايزال يعمل ولو بموجب تصريح للعمل (يصدر مؤقتا
في ظروف صعبة للغاية ولعدد محدود لم يتجاوز 6 حالات في ثلاث سنوات)
فإن البنك المركزي الإسرائيلي يرفض السماح لهؤلاء بتحويل أي أموال
إلى ذويهم. وهي مشكلة أخرى يتوقف أمامها الفيلم في إطار رصد
المشاكل التي تواجهها منظمة "خط ساخن".
كاميرا لانجسمان تراقب، تتحرك وسط الشخصيات الضائعة الضالة التي
تصل في يأسها من إمكانية أن يقبلها مجتمع عنصري يرفض غيراليهودي
ويخشاه ويعتبره شرا مستطيرا كما نرى، وكما يتضح من خلال المناقشة
الساخنة مع روزين، إلى حد تفضيل العودة من حيث أتوا، رغم كل ما
يكتنف تلك العودة من مخاطر تهدد حياتهم كما يقولون.
لا تركز المخرجة على خط قصصي تتناول منه موضوع الهجرة، ويبدو
الفيلم في أجزاء منه وقد خرج عن السيطرة من ناحية الإيقاع، بسبب
رغبة المخرجة في ضم كل ما قامت بتصويره في سياق الفيلم، وبالتالي
يشوب الفيلم بعض التكرار والإسهاب في الوصف، والتداخل في
المعلومات. لكن ثلاثة مشاهد رئيسية فيه ترفعه إلى مصاف الأعمال
الوثائقية المؤثرة.
المشهد الأول سبق أن تطرقنا له وهو مشهد المواجهة بين الناشطة
الشجاعة روزين، وبين عدد كبير من سكان جنوب تل أبيب، حيث تصل
المواجهة إلى اتهامها بخيانة الشعب اليهودي، فهي تتعاطف مع الغرباء
أكثر مما تريد أن تتفهم مشاكل أقرانها اليهود، وتقول لها إحدى
النساء أنها إذا كانت تحب هؤلاء المهاجرين الأفارقة فلماذا لا
تأخذهم في بيتها، وأنها تتكلم هكذا لأنها تقيم في أحد الأحياء
الراقية بالمدينة.
والمشهد الثاني لمناقشة حامية تدور في الكنيسيت الإسرائيلي
(البرلمان) بين مجموعة من النشطاء التابعين لـ "خط ساخن" وممثل عن
الاتحاد الأوروبي وبعض المحامين المتخصصين في قضايا حقوق الإنسان
من جهة، وأعضاء اللجنة المكلفة بوضع تعديلات على القانون الذي ينظم
قضايا الهجرة ودخول البلاد، ويرغب أعضاء اللجنة في ادخال تعديل
يشجع على خروج اللاجئين من البلاد، عن طريق السماح لمن يرغب في
العودة بالخروج بما ادخّره من مال أو تحويله قبيل سفره مباشرة إلى
بلده، وتصل المواجهة الساخنة إلى حد اتهام أعضاء في الكنيست بإهدار
حقوق الإنسان، رغم كل ما تدعيه الدولة من اختلافها عن الدول
المحيطة بها في مجال الحريات الأساسية.
والمشهد الثالث نرى فيه أحد المحامين وهو يحاول جاهدا إقناع
السلطات بتنفيذ حكم محكمة إسرائيلية بإطلاق سراح سجينة إفريقية
بكفالة، لكن المسؤولين يرفضون قبول الكفالة، ويتطلب الأمر الكثير
من اللغط ثم الاتصالات الكثيرة ببعض المسؤولين والقضاة، والمشهد
مقصود لكشف تعنت البيروقراطية الإسرائيلية وكيف يمكنها أن تضرب عرض
الحائط بقرارات المحاكم.
الفيلم مزيج من القصص الفردية التي تقدم بانوراما شاملة من جوانب
متعددة لمعاناة المهاجرين أو اللاجئين في إسرائيل، وخصوصا الجانب
المتعلق بعنصرية الإسرائيليين في التعامل معهم، وصعوبة عمل
المنظمات غير الحكومية في إسرائيل والقيود التي تغلّ يدها عن تقديم
مساعدة حقيقة لهؤلاء المهاجرين وإلا اعتبرت مخالفة للقانون وتعرضت
للإغلاق، وأيضا الكشف عن الجانب الغامض من المعاناة الهائلة التي
يواجهها المهاجرون الفارّون من بلادهم في سيناء، فنرى كيف أصبح أحد
هؤلاء الشباب عاجزا عن السير بسبب ما تعرض له من تعذيب أدى إلى عجز
في قدمه وساقه
!
السينما الوثائقية السنغالية وحقوق الإنسان
المصطفى الصوفي
ظل موضوع حقوق الإنسان، حاضرا بقوة، في العديد من الأعمال
السينمائية الإفريقية المختلفة، كما شكل مشاهد خصبة ومثيرة، للكثير
من المخرجين، من أجل الاشتغال عليه، وكشف النقاب، عن جملة من
القضايا والإشكاليات السياسية والاجتماعية والثقافية والإنسانية
للشعوب والمجتمعات، وهو ما جعل المتلقي داخل القارة الإفريقية أو
خارجها يتفاعل معها بشكل كبير، لما تتميز به العديد من البلدان
الإفريقية، من تحولات، وتجاوزات، ساهمت بشكل كبير في إخصاب الحقل
الفني والثقافي، وتأتي في مقدمته السينما، التي عبرت في كثير من
المناسبات عن إشكاليات كثيرة، تفاعل معها الجمهور بشكل قوي وكبير.
واذا كان العديد من المخرجين المغاربة، من أمثال سعد الشرايبي في
فيلمه (جوهرة بنت الحبس)، وحسن بنجلون في (درب مولاي الشريف)،
وجيلالي فرحاتي في (ذاكرة معتقلة) و(طيف نزار) لكمال كمال، و(منى
صابر) لمخرجه لعبد الحي العراقي ، وغيرهم من المخرجين، الذين
عالجوا هذه التيمة في السينما، أو ما يطلق عليه "سينما الحريات"،
فإن نظرائهم في الكثير من البلدان الإفريقية، وبخاصة في مالي
والسنغال، وجنوب إفريقيا، وكوت ساحل العاج، وتونس، ومصر، وغيرها،
وجدوا، هم الأخرون في هذه التيمة مادة خصبة، لاستنهاض التاريخ،
واستذكار الماضي، وطرح الإشكاليات العالقة، في الحاضر، من أجل
استخلاص العبر، والبحث عن حلول، في إطار مقاربات سينمائية جادة،
تعتمد على التوثيق، والمعالجة الخلاقة للواقع، أو عن طريق قصص
وحكايات تخيلية أو واقعية، وذلك في أفق إنصاف الذاكرة والتاريخ
والإنسان.
ماستر كلاس السينما وحقوق الإنسان
في هذا الإطار، احتفلت جمعية اللقاءات المتوسطية للسينما وحقوق
الإنسان بالعاصمة الرباط، بتجربة السينما الإفريقية السنغالية،
وذلك من خلال تجربة المخرج السنغالي موسى توريه السينمائية، منذ
الـ 16 من شهر فبراير الجاري وحتى الـ 21 من نفس الشهر، في سياق
تظاهرة سينمائية أطلقت عليها اسم (ماستر كلاس السينما وحقوق
الإنسان)، وذلك بعرض خمسة من أفلامه المتميزة، بمؤسسة الشرق
والغرب، وهي (تي جي في) و(نوسالتراس) و(خمسة في خمسة) و(الزورق)،
ثم (نحن كثيرات)، ختمتها بندوة حول السينما وحقوق الإنسان.
وفي مستهل هذه الندوة والدرس السينمائي، الذي ألقاه المخرج موسى
صباح يوم السبت 21 فبراير، والذي ختم به فعاليات هذه التظاهرة
السينمائية التي تابعها جمهور عريض مغاربة وأجانب، وبخاصة من
الجالية الإفريقية المقيمة بالرباط، حيث تطرق إلى بداياته الأولى
مع السينما، التي دخلها عبر عدسة حب الفن الفوتوغرافي الذي كان
يمارسه والده، وكذا من خلال مصاحبته لتجربة أخيه جونسون، والعديد
من السينمائيين الأفارقة الرواد من أمثال المخرج السنغالي صامبين
أوصمان، هذا العلم السينمائي الكبير الذي أصبح مهرجان السينما
الإفريقية، والذي يعد أقدم مهرجان سينمائي إفريقي بعد مهرجان
واغادوغو، يحمل اسم جائزته الكبرى والتي يمنحها المجمع الشريف
للفوسفات، بقيمة تزيد عن سبعة آلاف دولار امريكي.
وبعد تدرجه في المجال السينمائي، أكد موسى توريه أمام حشد من
الطلبة والباحثين والمهتمين والنقاد والإعلاميين أنه أخرج أولى
أفلامه القصيرة، وكانت بعنوان (برام) وتنعي باللهجة المالية (شواء
السمك)، حيث يتحدث الفيلم عن قصة ابن يذهب مع أبيه في رحلة صيد
للسمك في أعالي البحار. والقصة جزء من تاريخ المخرج موسى توري،
الذي وجد في طفولته الخزان الجميل لأفكار وديعة لترجمتها إلى
حكايات صور سينمائية رغم قصرها، لكنها تفي بالغرض، وتقدم صورة
مماثلة لباقي حكايات أطفال إفريقيا، في علاقتها بعادات وطقوس
وأحلام المجتمع الإفريقي، وتعني الشيء الكثير في مسيرته
السينمائية، التي تُوجّت بتألق بيِّن في مهرجانات إفريقية ودولية
مختلفة، ومنها مهرجان السينما الإفريقية المغربي، حيث كان فيلمه
(الزورق) من بين المتوجين.
كما كشف المحتفى به في هذه الدورة، عن أن فيلمه الثاني كان بعنوان
(توباني) ويحكي قصة مواطن إفريقي سافر إلى فرنسا من أجل الدراسة،
وكان الأنا، دائما يواجه بسؤال واحد من قبل الآخر، ألا وهو "هل
ستبقى في فرنسا، أم ستعود إلى بلادك"، وهو الفيلم الذي يطرح الكثير
من الإشكاليات التي ترتبط بالعنصرية وحقوق الإنسان، في بلد متقدم،
يؤمن بالعدالة الاجتماعية والحرية والأخوة، وفهم الآخر، واختلاف
العقليات والثقافات، والهجرة، والعزلة وأحلام المهاجرين، وصيانة
الذاكرة المحلية والعادات الأصيلة في بلاد الشاعر والرئيس السنغالي
الأسبق ليوبولد سينغور.
محفزات إبداعية لنقل الواقع الحي
وفي بوحه السينمائي، تطرق المخرج موسى توري كذلك إلى تجربته
السينمائية، من خلال العديد من الأفلام التي أنجزها، وبخاصة فيلمه
الشهير(تي جي في)، وهي فكرة استقاها المخرج، حين كان يدرس بفرنسا،
عن مشروع القطار الفائق السرعة، وحاول تطبيقها في بلاده سينمائيا،
وذلك في قالب ساخر ودراماتيكي، يبرز الاختلاف الكبير بين أحلام
إفريقيا وأحلام أوروبا، التي تقدم قطار نهضتها بعشرات السنين
مقارنة مع بلدان القارة السمراء.
(تي
جي في)، فيلم تخييلي، عصب حكايته، حافلة متهالكة، يقودها (رامبو)،
وهي سريعة تربط بين داكار في السنغال وكوناكري في غينيا، قبل
انطلاق الرحلة المتعبة والطويلة، يتم إخبار (رامبو) والركاب بوجود
سكان محليون ثاروا على الحدود الغينية، حيث يقرر عدد الركاب من
ضمنهم امرأة، ركوب هذه المغامرة مع رامبو ومساعدة (ديمبا)، من
بينهم وزير مقال سابقا وزوجته (روجير) و(سيلفيا)، حيث من خلال
مغامرات خطيرة وغير متوقعة، يثبت كل واحد ذاته وتنسج علاقات غريبة
وجيدة داخل هذا الفضاء المغلق، والذي لا يحاكي القطار الفائق
السرعة الفرنسي إلا في الأحلام.
في الفيلم، الذي قضى المخرج موسى ثمانية أسابيع لتصويره، وإعادة
تمثيل مشاهده رغم صعوبة التصوير، مرتين، وتلك من طقوسه السينمائية،
يحاول، المخرج أن يقدم للمتلقي، صورة مصغرة عن إفريقيا بمشاكلها
وهمومها وأحلامها، و خليطا من الثقافات والأفكار، والعادات، في
القارة الإفريقية، ورغم اختلافها وتباينها، إلا أنها تنسجم، رغم كل
شيء.
وشدد بالمناسبة على أهمية العلاقة التي تربط العديد من الأفلام
بحقوق الإنسان، وبخاصة في أفلامه، مؤكدا أن السينما الوثائقية،
التي وجد فيها ذاته ومتعته الفنية والإبداعية، تشكل لديه أحد
المحفزات الإبداعية لنقل الواقع الحي إلى الجمهور، وذلك من خلال
شهادات شخوص عايشوا وعاينوا الحدث، بكل حرية ومصداقية، في القول
والبوح، وهو ما يمنح أفلامه الوثائقية، وكل عمل سينمائي وثائقي،
قيمته الإبداعية، وانتشاره وتأثيره كذلك على الجمهور بشكل عام.
كما تحدث أيضا عن تجربته السينمائية في فيلم (الزورق) الذي أخرجه
عام 2012، الفيلم تم اختياره لمهرجان كان الفرنسي لنفس السنة،
والذي يحكي قصة حالمين بالفردوس الأوروبي، من أجل تحسين أوضاعهم
الاجتماعية، ينطلقون من قرية صيد بضواحي دكار، في رحلة عبور غالبا
ما تكون محفوفة بالمخاطر، في بحر الظلمات باتجاه جزر الكناري
الإسبانية. (باي لاي) البطل ربان الزورق، يعرف البحر وأمواجه
العاتية، ولا يرغب في السفر مع المجموعة، لكنه لا يملك أي خيار سوى
المغامرة مع المجموعة، فهو مطالب بالإبحار برفقة 30 رجلا، نحو
الوجهة المعلومة حتى يتحقق الحلم، في الفيلم رجال حالمين، هاربين،
من الحرب والفقر والجوع، تفرقهم أشياء كثيرة، ويجمعهم حلم الوصول
إلى الضفة الأخرى، منهم من لم ير البحر قط ولا أحد يدرك ما ينتظره،
إنه فيلم مشوق للغاية، ويعبر بكل صدق عن عمق الإحساس بالعجز، ونبذ
الوطن من أجل الحياة، حيث يبرز فيه بشكل جليّ، قيم الحقوق المدنية
للإنسان، الحق في العيش بكرامة، والحق في التعبير والتعلم والعمل،
لكن حين لا يوجد أي شيء من ذلك يبقى الحل هو مواجهة البحر والأفق
الشاسع الحالم، فإما الوصول، وإما الموت بشرف أو البقاء هناك مرفوع
الرأس رغم البعاد والعزلة والاغتراب.
الوثائقي رافد سينمائي للمتعة
واعتبر السينما الوثائقية، رافدا حقيقيا للسينما الممتعة،
والفرجوية، على اعتبار أن السينما في مجملها، تعتبر نصا إبداعيا
يتوخى في أبعاده ورؤاه، تحقيق الفرجة للجمهور، وهو ما تحققه
السينما الوثائقية، فضلا عن قيمتها المعرفية والجمالية، والتواصلية
والحوارية بين الأنا والآخر، في أفق تحقيق مزيد من ذلك التناغم
والاندماج مع الآخر، الذي لا يعرف عن المجتمع الإفريقي أي شيء،
مؤكدا على ان تجربته السينمائية كواحدة من التجارب السينمائية
الإفريقية والدولية، تعتمد على مرتكزات كثيرة أهمها، البحث عن صور
نورانية يكون فيها الضوء وافرا بشكل كبير، وذلك لما يمنحه الضوء من
ثراء إبداعي جميل للصورة السينمائية، في قارة تفتخر بأنها من أجمل
بلدان الشمس والضوء والنور، وهو ما يعطي لأعماله السينمائية، بعدا
جماليا وشاعريا، وهي تسبح في صور ضوئية طبيعية خلابة، دون الحاجة
إلى مصابيح اضافية ومكلفة.
واعتبر ان فيلمه الوثائقي (نحن كثيرات)، نموذج حقيقي، للسينما
الإفريقية، التي تطرح موضوع حقوق النساء والأطفال، في التعبير
والحياة، من غير عنف، أو إساءة، أو قتل وتصفية، كما يشكل واحدا من
أبرز أعماله السينمائية الوثائقية التي نقلت الواقع كما هو بدون
مساحيق، وذلك من خلال نقل الواقع ومعالجته في دولة الكونغو
برازافيل، التي كانت تعمه الحروب، خلال التسعينات من القرن الماضي.
ويقدم الفيلم شهادات نساء تعرضن للعنف الجسدي والجنسي، ومنهن
فرنسية، و(ليدي) الأرملة ذات ستة أطفال وتوأم، التي فقدت زوجها في
الحرب، التي اندلعت بالكونغو ما بين 1993 و 1999، وخلفت أثارا
سلبية وآلاما عديدة، من أبرزها العنف الجنسي ضد النساء، الذي بقي
طي الكتمان. الفيلم يعطي كذلك الكلمة لنسوة تعرضن للاغتصاب، ولحكي
قصصهن أحيانا في صمت متواضع، أو مؤلم، وأحيانا بغضب وسخط عارمين
تجاه الحكومات والعسكر، لكن دائما بشجاعة وكرامة، حيث استطاع
المخرج التعبير عنها بشكل مؤثر للغاية.
كما
تطرق أيضا إلى فيلمه الوثائقي (خمسة في خمسة)، وهو فيلم صامت، يحكي
قصة رجل إفريقي، متزوج بخمس نساء، وما تطرحه هذه الإشكالية، من
وجهات نظر ورؤى، وتمثلات لدى المتلقي، في مجتمع إفريقي ما يزال
يرزح تحت وطأة الفقر والجوع، والتقاليد.
متعة الرؤيا والنور في السينما
ولفت إلى أن أي فيلم وثائقي، لكي يكون ناجحا ومؤثرا، عليه أن يتمتع
بالصراحة والجرأة والتلقائية، والنقل الحقيقي للواقع، كما هو، من
غير أن تميل عاطفة المخرج، إلى أية جهة أو كفة.
كما اعتبر موسى توري أن السينما الوثائقية في مسيرته الإبداعية، ما
تزال تشكل لديه الحافز القوي على العطاء، وطرح الإشكاليات، وإيجاد
أجوبة مقنعة ومحرجة، لدى المهتمين والمسؤولين، مبرزا في معرض حديثه
أن ما يهمه في السينما ككل هو ما يراه وما يسمعه، وما يحققه أيضا
الضوء من متعة في علاقته بالصورة، بشكل عام، هذا الضوء الذي يعتبره
أحد المكانيزمات الأساسية في قوة كل عمل سينمائي على حدة. كما أشار
إلى أهمية وقيمة التصوير والكاميرا الرقمية، التي مكنته حتى الآن
من تصوير 17 فيلما وثائقيا.
تجربته المتميزة ساعدته في الحديث عن نفسه، وعن التواصل مع الآخر
في أوروبا خصوصا، الأمر الذي مكنّه أيضا من تكريمه في إسبانيا في
الآونة الأخيرة، وإطلاق اسمه على أحد الأمكنة بسان فيلوي بضواحي
برشلونة الإسبانية. وذلك ما عبر عنه في فيلمه (نوسالتراس)، من خلال
مجتمعان وثقافتان مختلفتان، حيث تعيش هناك جالية مالية وصلت بطريقة
غير شرعية منذ ثماني سنوات، وتعمل في قطاع البناء والفلاحة.
وكشف بالمناسبة عن أنه مقبل على إنجاز عملين سينمائيين وثائقيين،
الأول يرتبط بموضوع العبودية والعنصرية، التي ما تزال تؤرق بال
العديد من المواطنين، وبخاصة في القارة السمراء ومعاناتهم مع
النظرة الدونية تجاه الأفارقة من قبل الآخر، والثاني يتمحور حول
موضوع (الفضاء)، أو المكان الذي لم يعد يجد فيه الإنسان راحته
الطبيعية. حيث أصبح الفضاء مهددا، كما الإنسان مهددا في حياته.
عبد الرحمان سيساكو في البيضاء
يشار إلى أن موسى توريه من مواليد سنة 1958 بدكار، بدأ مسيرته
الفنية، مبكرا بالعمل كتقني في أحد الأفلام ليتمكن من إخراج فيلمه
القصير الأول في 1987، ثم أول أفلامه الطويلة سنة 1991، (توبابي)
الذي حاز من خلاله على العديد من الجوائز. أنشأ في 1987 شركة إنتاج
بداكار أشرف من خلالها على إنتاج أفلامه الوثائقية التي حازت جوائز
بالعديد من المهرجانات. وحقق فيلمه (تي جي في )، الذي أخرجه في
1997 نجاحا كبيرا في إفريقيا وفاز بجائزة الجمهور للدورة التاسعة
لمهرجان السينما الإفريقية بميلانو.
وتهدف هذه التظاهرة، المنظمة بدعم من المؤسسة الأوروبية من أجل
الديمقراطية، والصندوق الكندي لدعم المبادرات المحلية، إلى ترسيخ
قيم السينما وحقوق الإنسان لدى الجمهور.
ويعد
"ماستركلاس" السينما وحقوق الإنسان، التي تسهر جمعية اللقاءات
المتوسطية للسينما وحقوق الإنسان على تنظيمها مرة كل ثلاثة أشهر
بالفضاءات التعليمية (الكليات، المدارس العمومية أو الخاصة
والثانويات...) من أهم إسهامات ومبادرات الجمعية للنهوض بثقافة
السينما وحقوق الإنسان، حيث تم خلال الشهر الماضي الاحتفاء بتجربة
المخرج الموريتاني عبد الرحمان سيسكو، وفيلمه الشهير الذي ترشّح
للأوسكار (تمبكتو). |