«إن من واجبــنا أن نأتي إلى هنا لننقل أصوات الضحايا فهي
تطاردنا»، هكذا قال المخرج الفلسطيني أشرف مشهراوي أثناء تكريمه في
مهرجان سراييفو قبل شـــهور. قــدم أشرف مشهرواي العديد من الأفلام
الوثائقية المعنية بالشأن الفلســـطيني، مثل «غزة تعيش» والذي حصل
على الجائزة الأولى في مهرجان الأيام السينمائية في الجزائر، كما
حصلت أفلام له على بعض الجوائز العربية والعالمية، ومنها «غزة
تعيش» و»حياة بالجدول»، وكذلك «الطريق إلى تاورغاء»، والتي فازت
أخيراً بالجائزة الأولى في مهرجان عالم واحد لحقوق الإنسان في
بروكسيل. ومن أفلامه الأخرى «معركة الأمعاء الخاوية». ويرى أشرف
مشهراوي انه في أعماله ينتمي إلى ما هو إنساني، وما هو جميل، حتى
وإن جاء مجدولاً بالوجع. حول مشروعه في السينما وأحلامه وتجربته
كان هذا الحوار.
·
كيف كان الطريق لصناعة فيلم وثائقي، بالنسبة إليك؟
- بدأت كتابة قصص قصيرة وأنا في المرحلة الإعدادية وكانت خليطاً من
الصور البصرية مصدرها أحداث الانتفاضة الأولى، وكنت كل مرة أسأل
ذاتي: هل من الممكن يوماً ما أن أروي حكايتي وأنقشها لوحات في
أفلام تحكيها؟ وبعد سنوات قليلة، وبأدوات متواضعة بدت لي قادرة على
أن تساعدني في بداية مشواري في صناعة الأفلام، وما بين محاولة
ناجحة وأخرى فاشلة، سعيت للتعلم وتطوير نفسي كصانع أفلام ولعل
التجربة الفاشلة أفادتني أكثر من تلك الناجحة بتواضع، لأنها علمتني
الكثير وجعلتني أدرك قيمة المعلومات.
·
كيف تخطط لفيلمك؟
- البحث المتأني الطويل من أهم ما تعلمت، ثم التأمل في الفكرة
مراراً ومراراً، حيث أسعى إلى عيش التجربة وأتمثلها وكأني إحدى
شخصياتها، وأسأل الأسئلة التي يسألها أبطال القصة أنفسهم، تعلمت
كيف أستمع جيداً وطويلاً وبعد ذلك كله أبدأ بصناعة فيلمي.
·
على رغم أن كثيراً من أفلامك ميدانها الأساسي غزة فإنك تنتقل بين
الوجع والبهجة كيف ترى ذلك؟
- غزة جدرانها مليئة بالحكايا والقصص التي لا تنضب هي مصدر إلهامي،
فمنها حلقت فرحاً بفيلم «غزة تعيش» أنقل سر الحياة وقوتها عندما لا
تحد طموحها هجمات المحتل أو قسوة الهدم، هنا أناس بسطاء أجادوا
صناعة الحياة فتعلمت منهم الكثير. لكني لا أستطيع رؤية جزء من
الصورة وأهمل باقيها، فهنا مع كل قصة سعادة قصة ألم، وبعد يوم
سعيد، يوم تعيس.
كان لا بد لي كفلسطيني يعيش الاحتلال أن أمتلك قصتين، قصة سعيدة
وأخرى مؤلمة، لا شك في أن قصص الحياة والفرح هنا دوماً تنجح في
هزيمة الألم والاستعلاء عليه ربما بطريقة مختلفة عن العالم، لكن
هذا لا يعني إنكار الألم. ومن هنا كانت لي أفلام أخرى تحكي قصص
المعاناة وتوثقها أملاً بأن يشاهدها أبناؤنا في المستقبل كي يعلموا
كم كنا نحبهم وهزمنا هذا الألم بحبنا كي يعيشوا سعداء فكان فيلم
الإضراب عن الطعام واحداً من هذه الأفلام.
·
ألا تفكر في طرق موضوعات أخرى خارج غزة؟
- ما زلت أتعلم وأحاول من فيلم إلى آخر أن أستفيد من أخطائي،
وأحياناً أسافر إلى بلاد أخرى أبحث عن قصص الإنسان كما حدث معي في
اليمن وليبيا، كي أساعدهم كشخص يعلم معاني المعاناة وينتظر مساعدة
الآخرين التي تجعلنا مدينين أيضاً لآخرين يحتاجون مساعدتنا،
فمدينتي الفاضلة غزة علمتني أيضاً ألاّ نكون جشعين أو بخلاء،
علمتنا أننا كما نحب أن يقف إلى جانبنا الجميع، يجب أن نقف إلى
جانب هؤلاء الذين أيضاً هم في حاجتنا.
·
تعتني كثيراً بالمشاهد الدرامية في سياق أفلامك الوثائقية، فهل هذا
تمهيد لصناعة فيلم روائي؟
- بدأت بصناعة الأفلام الوثائقية، كما قلت، إنها بداية صناعة حلمي
ومن ثم أدخلت بعض الدراما كمشاهد إعادة التمثيل. وأنا لا شك في
طريقي لصناعة الأفلام الروائية كي أنجز أحلامي في مدينة غزة التي
علمت أبناءها أن لا شيء مستحيل.
·
أخيراً هل تعتبر أفلامك نوعاً من المقاومة ضد الاحتلال؟
- حين كانت غزة تحت القصف والدمار، كانت هناك أيضاً قصص الحياة
والإرادة نراها تنبت زهوراً بين الركام بطريقة تدعو أعيننا للبكاء
من إرادة هؤلاء البسطاء، وأنا دوماً سأقوم بواجبي، وأقدم أفلاماً
تحكي قصص هؤلاء البسطاء، بين قصص الفرح ومشاعر الألم، وآمل بأن
أوفق في أفلامي المقلة في رسم هذه اللوحات بأكبر قدر أستطيعه.
الانحراف النفسي والاخلاقي... ولكن في اتجاه واحد مغلق ولا يتبدّل
بيروت - فجر يعقوب
على رغم الجدل الفاضح الذي تناقلته الأخبار من حول فيلم «خمسون
ظلاً لغراي» والذي اندلع في مهرجان برلين في دورته الفائتة، لم يحظ
الفيلم هنا في بيروت بمتابعة كبيرة على عكس ما كان متوقعاً، وفيما
تتنوع معدل الأعمار في البلدان التي عرضته فكان 12 سنة مثلاً في
فرنسا، وصل المعدل الى 21 سنة في لبنان. والفيلم المقتبس عن رواية
للكاتبة البريطانية إي إل جيمس باعت 100 مليون نسخة وترجمت الى 52
لغة حول العالم، أخرجته للشاشة الكبيرة البريطانية أيضاً سام
تايلور- جونس، فإن أضفنا الى هذا أن من قام باعداده سينمائيا امرأة
أيضاً، نكون قد وقعنا على فيلم بتوقيع ثلاث نسوة، وعليه يمكن
التمهل بقرءاته من هذه الزاوية، اذ تبدو نجمته داكوتا جونسون في
حاجة لإضاءات تشريحية لشخصيتها - تحديداً - طالما أن القائمات على
الفيلم جئن بـ «سندريلا» القرن الواحد والعشرين ليخبرن قصتها عن
طريق بعث وتأكيد الجانب المظلم في شخصية الرجل الذي سيمنحها القدرة
على الاستيقاظ في عالم غفل وينهشه الجوع والكوارث. كأن الاستديو
المديني العملاق الذي يصور فيه الفيلم بعيد تماماً عنه، وكل مايدور
من حوله لا يتعدى الشائعات الكلامية، حتى تتحول الصدمات العاطفية
فيه الى «بيزنس» وعلاقات تجارية تحكمها العقود بين المسيطرين
والخاضعين.
عالم مظلم
ليس الملياردير الشاب كريستيان غراي (27 سنة) المريض المنحرف،
الغارق في عالمه المظلم في الفيلم الا تلك الشخصية الهشة المأزومة
التي عاشت على ترسبات وعقد الماضي الأليم، فانحنت على جوانيتها
بفجاجة لتعيش تهويمات العلاقات المازوسادية بانعتاق كبير، فكل
مايملكه هذا الملياردير يسخره في اتمام سيطرته على من هم حوله. لا
يحب. ليس لديه وقت للعواطف. مقل في كلامه، وإن تكلم فببطء وصعوبة
بالغين طالما أنه سيقف أمام أناستازيا لتبدأ معه رحلة تحريره من
هذا الانحراف، ولكن بتهويمات ودموع فتاة ساذجة خيل اليها أنها وقعت
في غرام الفارس الذي سيوقظها من سبات لعين. يقول لها إن الرجال من
المؤكد يترامون عليها عندما يكتشف أنها لا تزال عذراء. تخبره أنها
لا ترغب في أي منهم. تبدو الإشارة الى بداية القصة مهمة جداً على
رغم سياقها الافتعالي الذي يحيل الى نوع من التركيب الميلودرامي
الذي لا يشكل أذى كبيراً في بعض الأفلام التي يقبض فيها أصحابها
على السرد السينمائي بحرفية وحرية عاليتين.
لكننا في «خمسون ظلاً لغراي» سنقع على مصيدة مبهمة للمشاعر
الإنسانية التي تدور في مدينة هندسية مترامية الأطراف وتشبه غرفة
عملاقة يسهل فيها تصنيع الكتل الصماء التي تنقاد وراء مصائر محددة
سلفاً. لا تظهر داكوتا جونسون، التي أدت دور الفتاة الساذجة، أكثر
من وجه يمكن قراءة مصيره في ضوء عروض غراي (جيمي دورنان) المتكررة
بأن توقع عقد الخضوع الكلي له، لتحصل عليه بإشراف محام بارع حتى لا
تتسرب أخبار عالمه المظلم وتخفّيه في علاقاته بأسرار الغرفة
الحمراء المعدة لصنع اللذة المخلوطة بالألم، ويسميها هو غرفة
الألعاب، للتدليل على طفولة مسلوبة لم يعشها الولد الذي ماتت أمه
وهو في الرابعة، وتبنته أسرة ثرية سمحت له بتعلم العزف على البيانو
وهو في السادسة، وظل يؤدي كل تلك المعزوفات الحزينة التي لا تسمح
لأحد بملامسته عقب كل علاقة حميمة، وإلا تعرض لعقوبة الجلد في
أمكنة حساسة.
سيحمل غراي ذكريات أليمة عن عالم ألعابه المفقود. لم يكتمل الكشف
عن عالمه ان صدقنا علم النفس التكويني فلجأ الى تأسيس عالم مواز
إحلالي بديل من الأسواط والحبال والكلابات والسدادات التي تلهب
عالمه العاطفي المضطرب. وأهم ما يميزه في لحظات غضبه خمسون درجة من
التوتر حين يصاب بإحباط، كما يخبر أناستازيا التي تنزلق برضا كامل
في عالمه المريض قبل أن تعود وترفضه تمهيداً لجزء ثان على مايبدو،
وإن قدمت العناوين في الرواية الأصلية «خمسون ظلاً أكثر قتامة»
و»خمسون ظلاً طليقاً»، دلالات على نهايات كل جزء، في ما يبدو أن
الفيلم الموسوم باسم غراي أهمل جزءاً مهما حين ترك «خمسون ظلاً
للرمادي» العنوان الأصلي للجزء الأول، وكان يبدو أكثر تعريفاً
ببطله من خلال تدرجات هذا اللون المحبب في عالم السينما، في ما لم
نعثر في شخصية غراي في الفيلم على أكثر من ظل واحد سقيم واقع في
أمراض جنسية منحرفة رسمت مصيره منذ الدقائق الأولى في الفيلم، هذا
اذا استثينا البحث في عالمه المظلم، وحاولنا الانحناء على الجانب
المضيء طبعاً اذ لا يمكن تفويت هذا التوازي الساذج في رسم شخصيته،
فهو رجل الأعمال الخيرية، يحارب الجوع في أمكنة مختلفة من العالم،
من دون أن نقع على ما يفيد في هذا الشأن ولو في صورة واحدة،
ويتبرّع للجامعات كما سيحدث مع جامعة أناستازيا لحظة تخرجها، كأنه
لايفوّت سانحة حول اشراكها في فعل الاستيقاظ، الا ويقوم به. وهي
كانت قد قصدته أصلاً لتجري معه لقاء صحافياً لصحيفة الجامعة بدلاً
من صديقتها المريضة فيقع في غرامها، ويكبته، لأنه لا يعرف الحب،
ولأنها هي بالذات لا يجب أن تقع في براثنه وأصفاده وأغلاله.
هذه بهارات طفولته التي سيخبر عنها ما يمكن أن يجتره أي مريض نفسي
بغية الإيقاع بضحيته من طريق إثارة فضولها وشفقتها. كريستيان غراي
الذي تعرّض لحروق السجائر في جسمه من قبل صديقة والدته التي ربطته
في مراهقته الى جانبها واستغلته أكثر من ست سنوات ومارست عليه فنون
التعذيب قبل أن تطلقه في عالم الانحراف وتصبح مثل مستشارة سرية له،
اذ سيظل مرتبطاً بها ويحاورها في شؤون الفتيات اللواتي يستدرجهن
الى الغرفة الحمراء. أناستازيا ستبدو مختلفة. هكذا يخبرنا هو. لم
نشاهد شيئاً من علاقاته الـ 15.
غياب
ليس هناك في الفيلم حضور للسيدة روبنسون المسؤولة عن انحرافه
وتشظّيه العاطفي والنفسي. كل ما نقع عليه تبريرات سطحية بكلمات
منمقة و»أنا» متشققة وضخمة يظهرها بعلاقته مع الفتاة الساذجة
أناستازيا التي تعمل في محل لبيع الخرداوات، ولم تكتشف رسالته لها
حين يقصدها بعد لقاء الصحيفة الجامعية ليشتري من عندها حبال ولاصق
وكلابات حديدية تشي لها بأنه يتصرف مثل قاتل متسلسل مثالي، وهي من
أدوات التعذيب التي يستخدمها في غرفة ألعابه. ستبدو المحاولات
النقدية الباحثة عن عالم موازٍ لهذا المنحرف خارجة عن اطار الكتابة
نفسها انصافاً للإضاءة والصورة وحركة الكاميرا المتقنة في الفيلم
والميزانسين الاحترافي. حتى داكوتا جونسون في أدائها دور الفتاة
الساذجة كانت مقنعة تماماً، ولهذا يبدو من كل ما تقدم أن قراءة
مصيرها لن تكون صعبة، ولن تغطي عليها بعض تلك الابتسامات التي تبدو
وكأنها ستغيّر من عالم مريض قائم على تهويمات شبحية لا ينفع معها
التذكير بالحدث المتوازي الذي يشكله عمله في فعل الخير مقروناً
بأمراض ينبغي المصادقة عليها بعقد موقّع من الخاضع والمسيطر، اذ
يبدو أن هذا الحدث سيشكل مادة خطرة في التنبيه الى انحدار علاقات
انسانية غير سوية ولا ينقصها سوى التدليل عليها في غرفة حمراء
قاتمة بالسوط والأغلال. الذي سبق الفيلم في الترويج له على مدار
الأعوام الثلاثة التي تلت صدور الرواية يشبه تماماً ذلك الخضوع
التدريجي الذي يجرّ القارئ والمشاهد معاً نحو القاع المظلم للنفس
البشرية لمعرفة مصير العقد الذي سينشأ بين الملياردير والحسناء
التي كانت نائمة في زمن ما، قبل أن توقظها ضربات السوط الموجودة
على مرّ الأزمنة في عقلها: مصدر الألم واللذة على حد سواء.
«الوادي» لغسان سلهب يرصد انسدادات الراهن اللبناني
أحمد باشا
بدأ المخرج اللبناني غسان سلهب، مشروع ثلاثية سينمائية استهلها
بفيلم «الجبل» (2011)، الذي يطالعنا فيه بطله سلهب ( الممثل فادي
أبي سمرة) متوجهاً ليعيش عزلة جبلية يواجه فيها الموت أو يختبره
بعيداً من شرك المدينة ومن فيها. وفي الفيلم الثاني من الثلاثية
«الوادي»(2014)، الذي عرض في الفترة الأخيرة ضمن فعاليات مهرجان
«برلين السينمائي»، لا يبدو صاحب «أشباح بيروت» (1998) أقل تشاؤماً
بمستقبل الأيام، فكل الإشارات تشي بالخراب، كما يعلن على لسان إحدى
الشخصيات الثانوية في الجزء الأخير من فيلمه «انمحت بيروت».
يذهب غسان سلهب في «الوادي» إلى سهل البقاع ليكون مسرحاً لأحداث
حكاية الفيلم: بعد أن يتعرض رجل خمسيني (كارلوس شاهين) لحادث سير،
يشاهد مجموعة أشخاص في سيارتهم، يتجه نحوهم والدماء على قميصه،
يصلح لهم السيارة ثم يقع على الأرض. يقلون الرجل الغريب معهم في
السيارة، ثم وهم في طريق عودتهم يكتشفون أنه قد فقد ذاكرته.
عند وصولهم نكتشف أنهم أعضاء عصابة لتصنيع وتوزيع المخدرات. يشكل
وجود الرجل الغريب في مركز العصابة محركاً لأحداث الفيلم، فتارة
يحاولون مساعدته لاستعادة ذاكرته، فيبدأون بتكهن اسمه وطائفته
ومهنته، وتارة يشكون بأمره، فيعذبونه ويهددونه بالقتل إلى أن
يسمعوا صوت قصف ومروحيات في الخارج. يخرجون بعدها، وإذ بالقرى
المحيطة خالية من السكان، والقصف يكاد يدمر المناطق كلها، حتى نعرف
أن الشرق الأوسط كله قد اشتعل.
الرجل الغريب هو مواطن لبناني غادر الوطن قبل عام 2006، وعاد قبل
الحادث بأسبوعين ليلتقط صوراً لبيته الذي كان يحتله ضباط سوريون.
عاد ليستعيد شيئاً من الذاكرة. ولكن أي ذاكرة! ذاكرة الحرب الأهلية
اللبنانية واحتلال الجيش السوري للبنان. لذلك ستكون الرسائل
السياسية في الفيلم نتيجة لبؤس الواقع وليس سبباً لانغماسه في
التشاؤم. وفي نفس السياق السابق يذكر في الراديو خبر مفاده بأن قوة
اسرائيل قد زادت خمس عشرة مرة عما كانت عليه قبل 2006، وعدد
اللاجئين السوريين قد تجاوز المليون في لبنان وغير ذلك عن
التفجيرات في اليمن وأحكام محمد مرسي وغيرها.
لكن العودة السابقة للرجل الخمسيني ليست عودة بالمعنى المباشر، لأن
الحديث عن لحظتين مختلفتين أمر خاطئ، فلا الحرب الأهلية انتهت، ولا
نتائج 2006 كذلك، كل ما يحدث اليوم ليس إلا استمراراً لماضٍ لم
ينتهِ. لذلك نجد أن سلهب لا يوفر سطحاً عاكساً واحداً في الفيلم من
دون أن يستثمره (مرآة، زجاج سيارة، نافذة، شاشة كمبيوتر.. إلخ) حيث
كثيراً ما يقدم الحدث من خلاله ثم يبدأ بالتمازج البيني في الصورة
مع اللقطة التالية، وكأنه يريد أن يقول بذلك: الوهم يبنى عليه
أيضاً، وربما يصير يقيناً إن صار مؤسساً لحدث مقبل، هكذا سعدنا
بنهاية الحرب الأهلية اللبنانية، وهكذا انتصر حزب الله، وهكذا صار
لبنان بلداً مستقلاً. كما يمكن قراءة اشتغال سلهب السابق على أنه
ارتياب المجموعة من الغريب، فكل غريب هو مثار للشك، وهذا ما لا
تخفيه نقاشاتهم اليومية.
على هذا النحو تغدو الرؤية العامة أكثر شمولية: العصابة قادرة على
أن تتسع لتصبح طائفة، فهي تملك مؤهلات كافية؛ مصالح مشتركة،
أفراداً مسلحين، مواجهة مع الجيش إن اقتضى الأمر، والأهم من كل ذلك
هو استمرارها بالسلوك نفسه رغم وعيها بالواقع الطائفي وانسداداته.
في «الوادي» يذهب رجل العصابة (فادي أبي سمرة) الى نقيض ما كان
عليه في «الجبل» مبتعداً في شكل أكبر عن بيروت، «من زمان مازرت
بيروت» تقول إحدى الشخصيات. يظهر شغوفاً بالشعر ويقع بين يديه
ديوان للحلاج يتأمله بعد أن يسمع خبر دمار الشرق الأوسط كاملاً. لا
يخفي شريط سلهب قدرة كبيرة لصاحبه على خلق لحظات شاعرية رغم حتمية
الكارثة المقبلة، فتظهر شخوصه على أنها قادرة على قراءة الشعر
والرقص والرسم وهي تضع أقدامها على أعتاب العدم. وهنا لا بد من
الإشارة للأداء المتماسك لكارلوس شاهين الذي تمكن بأدائه الهادئ من
إضفاء قيمة أكبر على شخصيته المكتوبة بعناية فائقة.
كذلك في تجربتها السينمائية الأولى برعت يمنى مروان في إضفاء حيوية
لافتة على دورها، مساهمة في كسر قتامة الإطار العام للفيلم. ومن
خلال حركتها المكثفة والمدروسة، داخل الفضاءين العام والخاص، أعطت
مروان أبعاداً أكثر لشخصيتها، فظهر رسمها بالفحم، ورقصها، وشكل
علاقتها مع الرجل الغريب، متسقاً مع رؤيتها الفكرية الرافضة
للمنظومة السياسية والاجتماعية والدينية القائمة في لبنان.
بدا العالم في شريط «الوادي» غارقاً في تعقيداته ومنغلقاً على نفسه
حد الفصام، تتناحر أجزاؤه الدقيقة وتطحن بعضها في سبيل لحظة تفوّق
ما قد تحمله الصورة من إيجاز. كما تتصارع الرموز والدلالات،
المقبلة من الواقع، لتحقيق نبوءة محتمة: الخراب ولا شيء غيره. رغم
كل ذلك، لا يُسلم غسان بالمقولة العامة بسهولة، ولا تبدو لغته
السينمائية ناجزة مسبقاً أو مسكونة بالنهائيات بقدر ما تتميز
بقدرتها على التشكيك، وفي كل لحظة، بأدق التفاصيل. فكل مشهد يبدو
وكأنه خارج من معترك أكثر ضراوة وعمقاً من الصراع في السيناريو
المكتوب، وأكثر تعقيداً مما قد يخلص إليه الشريط عند نهاية التصوير
والمونتاج وعرض الفيلم في صالات بيروت.
«الزر اللؤلؤ» ... المياه حين تتحول مقبرة جماعية
أمل الجمل
جثة ممددة على طاولة تم حقنها بالسيانيد أو سم قاتل، تُوضع فوقها
كتلة حديد طويلة مجتثة من قضبان السكة الحديد. الجسد البشري
والحديد يتم ربطهما معاً بأسلاك متينة، بعدها يتم تكييس الرأس –
كما كان يحدث في سجن أبو غريب العراقي – ثم تكييس القدميين أيضاً
قبل أن تُصطحب الجثة في الهليكوبتر وتلقى لتستقر في قاع المحيط.
هذا المشهد الذي يطالعنا في الفيلم الوثائقي «الزر اللؤلؤ»
The pear Button
للمخرج التشيلي باتريشيو غوزمان، البالغ من العمر 73 عاماً، هو
إعادة تمثيل لوقائع حقيقية حدثت عام 1973 في عهد بينوشيه
الديكتاتور الذي دعمته الاستخبارات الأميركية في انقلابه على حكم
سلفادور الليندي، فقتل ما يتراوح بين 1200 و1400 رجل وامرأة من
معارضيه ثم ألقى بهم في مياه المحيط أحياءً أو أمواتاً - من دون أن
نغفل أن ضحاياه قد تجاوزوا الثلاثة آلاف قتيل دُفن منهم كُثر في
رمال الصحارى - معتقداً هو ورجاله أن المياه ستحتفظ بسر جريمته
للأبد، غافلاً عن عقيدة الشعب الباتاغوني – سكان التشيلي الأصليين
- الذين لم يتبق منهم سوى عشرين فرداً نجح المخرج في التصوير مع
ثلاثة منهم - في أن «للمياه ذاكرة وأصواتاً أيضاً، تماماً كما لكل
شيء روح، حتى الحجر».
نظرة كونية
يبدأ الشريط الوثائقي من نظرة كونية شديدة الاتساع، من الفضاء
والفلك، ثم تنسحب الكاميرا مبتعدة لتقترب من الأرض، ولينتقل المخرج
بعذوبة وشاعرية الخيال المتجدد إلى لقطات أقرب فأقرب، حيث يجوب بنا
في أعماق المياه، ويخبرنا بأشياء مروعة عن تاريخ بلاده الحافل
بالقمع السياسي والمجازر – التي ارتكبها المستعمر كما الحاكم
المحلي - قبل أن يعود بنا مجدداً إلى نظرته الواسعة والأشمل عن
علاقات الفلك والنجوم والمياه بالجغرافيا والتاريخ والسياسة،
ممسكاً بخيوط حكايته المتشعبة والمترامية الطرف في نسيج هارموني،
مرشوق بالعمق، بإحكام مُبهر، مُشكلاً فسيفساء مدهشة عن الطبيعة
والبشر.
من محطات الرصد الفلكي الشهيرة دولياً في تشيلي وحديث عن اكتشاف
المياه، يبدأ باتريشيو. لا يفوته تضمين فيلمه لقطات خلابة لذلك
المكعب الكبير من الكوارتز الشفاف وبداخله نقطة المياه الحائرة
التي وجدت به وظلت حبيسة لمدة آلاف السنين. بصوته الآسر الهادئ
يُفسح مجالاً للحكي عن أهمية المياه لكل حياة، وخصوصيتها للشعب
التشيلي الذي تمتلك بلاده أطول سواحل في العالم. فقبل وصول الرجل
الأوروبي احتمى أفراد شعب باتاغونيا بالحجارة وسافروا في المياه.
كان السكان الأصليون من الهنود رحالة يسافرون من جزيرة إلى جزيرة.
الآن بقايا وأحفاد هؤلاء الشعب ممنوعون من الصيد ومن السفر في
المياه بمراكبهم العتيقة العريقة الموسومة بالأصالة، ممنوعون بحجة
الخوف عليهم من الخطر، مع أن هذه المراكب هي التي واجهت الطقس في
أعتى وأقسى حالاته، فإحدى النساء – غابرييلا التي تجاوزت السبعين –
تستعيد ذكريات صباها، إذ لم يكن أمامها خيار آخر سوى التجديف
والسفر في المياه بحثاً عن الرزق على رغم هطول الأمطار بالأسابيع،
وعلى رغم هجوم الرياح بسرعات مرعبة. فأن تكون أحد أفراد الشعب
الباتاغوني معناه أن تعرف التجديف بالضرورة.
«صوت الماء رافقني طوال حياتي. عندما تتحرك المياه يتحرك معها
العالم ويتداخل». هكذا يقرر غوزمان قبل أن يعترف بأنه ينجذب للمحيط
ولا يحب البحر الذي اختطف منه صديق صباه ثم لفظه بعد حين، ليتنقل
منه إلى العثور على جثة إحدى ضحايا بينوشيه في المياه، ومنها يرتد
إلى القرن التاسع عشر ليسرد حكاية صاحب «الزر اللؤلؤ» جيمي بوتين
أحد أشهر السجناء السياسيين، ثم يبتعد أكثر في التاريخ ليُذكرنا
بأنه من طريق المياه أيضاً جاء الرجل الأبيض والمستوطنون الإسبان
الذين لم يكتفوا بنقل الأمراض التي كان من الصعب علاجها، وقتل 3500
منهم رجالاً ونساءً بطرق بشعة واغتصاب النساء، ولكنهم أيضاً مارسوا
الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين. ثم يرتد إلى الماضي القريب
في عام 2004 عندما تم العثور على «الزر اللؤلؤ» ملتصقاً بإحدى
القطع الحديد في قاع المحيط، فقد كان العثور عليه مُلهم مرتين،
لأنه ألقى الضوء على قصة أول البحارة الإنكليز وأيضاً أولئك
السجناء السياسيين. يعترف غوزمان بأن المرة الأولى التي سمع فيها
قصة هذا الرجل جيمي بوتين بدت لها الحكاية أسطورية، لكنه بالتقصي
والرصد والتحليل اكتشف أنها حقيقية تماماً.
ليس له مثيل
مثلما طلب من صديق له رسام ذات يوم أن يُريه شيئاً لم يسبق له أن
رآه، كذلك فعل غوزمان مع جمهوره ومُريديه من عشاق أفلامه، إذ قدم
لهم عملاً أصيلاً لم يسبق لهم أن شاهدوا له مثيلاً في قيمته
الجمالية والفكرية والأخلاقية. تحقق الفيلم الذي بلغت مدته 82
دقيقة من طريق إنتاج فرنسي - تشيلي - إسباني، وكان الشريط الوثائقي
الوحيد بين أفلام المسابقة الدولية بمهرجان برلين الخامس والستين
فحصل على جائزة الدب الفضي كأفضل سيناريو متفوقاً على جميع الأفلام
الروائية المتنافسة معه، وإن كان يستحق ما هو أفضل من ذلك، فقد كان
دُرة التاج.
يجمع غوزمان في شريطه بين المقابلات العميقة التي تكشف وتحلل
وتتأمل بنظرة ثاقبة وبين الاستعانة بالمادة الأرشيفية الساحرة،
خصوصاً للسكان الأصليين في لحظات سعادتهم أو احتفالهم وكذلك أثناء
إبادتهم، نساءً ورجالاً، وهم الذين لم يعرفوا الملابس لكنهم كانوا
يجيدون الرسم فغطوا أجسادهم بالرسومات والألوان في شكل مميز. إلى
جانب تصويره الشاعري لمأساة شعب في مراحل مختلفة من تاريخه، وإعادة
التمثيل أحياناً لتفسير نظرة رعب على وجه ضحية من النساء قبل
إلقائها في قاع المحيط، أو الاستعانة بمعادل بصري واقعي مثل مشهد
بسط تلك الخرائط الضخمة لدولة تشيلي على الأرض، بينما يسمع المتلقي
صوت حركة الورق بين الأيدي، وحفيف الأقدام العارية تخطو على الأرض،
والكاميرا العلوية تلتقط في حركة عرضية الأفرخ الجلدية أو تلك
المصنوعة من الورق المقوى وهي تُفتح وحركتها وهي تنبسط على أرض
الغرفة لنرى بعدها خريطة رائعة مجسمة لتشيلي المترامية الأطراف
التي تنقسم إلى ثلاثة أجزاء وكأنها ثلاث دول.
تظل لقطات المياه في حالاتها المختلفة في «الزر اللؤلؤ» من أجمل ما
تم تصويره وأبهاه. فكل نقطة مياه كأنها عالم وجزء من العالم في
الوقت ذاته، وحتى لقطات المحيط رائعة بفعل اختيار غوزمان زوايا
الكاميرا التي التقطت حالات متنوعة بجماليات آخاذة سواء في مدى
قربها أو بعدها من الهدف ومنها تكوينات بصرية لجبال الثلج البلورية
الزرقاء بينما السماء تنطبق على صفحة المحيط، ولقطات شتى للمياه
وكأنها تفور أو تغلي أو تتكاثر وتزدهر أحياناً، إنه الإبداع
والخيال المشتعل في التصوير المبتكر الراغب في تقديم لوحات تشكيلية
جديدة للمياه.
كذلك يلعب شريط الصوت دوراً أساسياً عند غوزمان، فإلى جانب صوته
الدافئ الذي يعلق من خارج الكادر، وتوظيفه المؤثرات الطبيعية من
وحي البيئة مثل هدير الرياح أو صمت الجبال أو صوت تحطم الجليد ودوي
الانهيار أو حتى صوت صرير القلم وهو يكتب ويرسم، أو ذلك الصوت الذي
يمحو ليعدل ما هو مكتوب، فإن باتريشيو يُتيح أيضاً الفرصة للمياه
أن تعبر عن أصواتها المتباينة المنغمة في هارموني، أو حتى غير
هارموني، فالإنسان الفنان يمكنه أن يصنع من أصواتها ما يشاء. هنا
يتحدث أحد المختصين عن موسيقى المياه وضوضائها، ثم يقدم أداءً
صوتياً يشبه أحد التمارين الصوتية في اليوغا، فنشعر بذبذبة الصوت
ورنينه. ثم ينتقل المخرج صوتياً وكذلك – بعد حين - بصرياً، إلى
مقاطع معبرة للمياه. يصمت الرجل، يلتقط أنفاسه، يستعد من جديد، كل
هذا والكاميرا تنتظره في صبر وشوق، ثم يُعيد الكرة من جديد، بصوته
المنغم، وكأنه تعبير عن أصوات المياه، في عذوبتها ورقتها، وحتى في
ضوضائها، كالشرارة أحياناً، وكالهمس في أحيان أخرى. قرب الختام
يطرح مؤلف تلك القطعة الفنية النادرة ومخرجها كلمات على غابرييلا
حتى تخبره بما يعادلها في لغة الباتاغونيا فتجيبه أحياناً بسرعة
وأحياناً بعد طول تفكير كأنها كادت تنسى لغتها، وعندما يصل إلى
كلمة «الله» تجيبه بأنه لم يكن لها وجود في لغتهم، وعندما يسألها
عن مرادف كلمة «البوليس» ترد: «لم نكن في حاجة إليها». |