"بعيداً عن الرجال": اقتباس كامو بروح كيبلينغ
حميد عبد القادر
يعود المخرج الفرنسي دافيد أولهوفن إلى قصة الكاتب الفرنسي ألبير
كامو، "الضيف"، في فيلمه "بعيداً عن الرجال" الذي يعرض حالياً في
قاعات السينما. وقد كتب كامو القصة سنة 1954، ونشرها ضمن المجموعة
القصصية "المنفى والملكوت" (1957).
تقع أحداث قصة "الضيف" في فصل الشتاء، قبيل اندلاع حرب التحرير
الجزائرية (1954). وبقي الفيلم محتفظاً بهذا الارتباط، فيظهر منذ
البدء مدرّس إسباني يدعى دارو (فيغو مورتنسن)، وهو يترقب صعود
رجلين إلى قمة الجبل، أحدهما على صهوة جواد، بينما يسير الثاني على
قدميه، مكبّل اليدين.
يدرك من قرأ القصة أن أحداث الفيلم لا تدور في بلاد القبائل، كما
كتبها كامو، بل في جبال الأطلس في المملكة المغربية، علماً أن
علاقة كامو بالقبائل كانت متينة. يقترب الرجلان من مشارف المدرسة
الواقعة على سفح الجبل، فيتعرف دارو إلى الدركي بالدوتشي. وبمجرد
وصولهما إلى المدرسة، يقوم بالدوشي بتسليم العربي لدارو، ويأمره
بنقله إلى مركز الشرطة في قرية تيغيت.
"يتجلّى
تفوّق الإسباني عبر تكفله بالعربي وحمايته"
يدرك دارو أن العربي، ويدعى محمد (رضا كاتب) متهم بقتل أحد أبناء
عمومته، فيبدي في البداية رفضاً قاطعاً لفكرة نقل محمد إلى مركز
الشرطة لأن ذلك يعني الذهاب به إلى موتٍ أكيد. لكن بمجرد وصول
أقارب الضحية إلى مشارف المدرسة، تحذوهم رغبة الثأر، فيوافق على
المهمة وينطلق برفقة السجين نحو تيغيت.
ينتاب المشاهد خلال اللقطات الأولى شعورٌ بالنفور من محمد، بعد أن
قدّمته كاميرا ألهوفن في صورة شخص خاضع للمستعمر، لا يفكر حتى في
إيجاد طريقة للتحرر، مثل مَن يسير نحو الموت برجليه. وتأتي تسمية
العربي (محمد) واضحة في الفيلم، على النقيض من القصة، إذ لم يعطه
كامو أي اسم، ونعته بـ"العربي"، كما في روايته "الغريب"، حيث لا
نعرف اسماً للعربي الذي قتله ميرسو.
بيد أن الفيلم يحتفظ بروح القصة، خصوصاً في ما يتعلق بتبعية العربي
للمدرس الإسباني خلال طريقهما إلى مركز الشرطة، حيث يظهر دارو في
صورة الرجل المُدبّر والمفكر والمقدام، ويجسد روحاً خلاقة، بينما
ينكمش محمد على نفسه ويكتفي بإعطاء رأيه في مسائل تتعلق بالأكل.
وكأن الفيلم يسير وفق روح قصيدة روديارد كيبلينغ الشهيرة "عبء
الرجل الأبيض" (1899) التي كتبها للتغني بالروح الكولونيالية.
وتتجلى هذه الروح المتفوقة من خلال إدراك دارو أن من واجبه
الأخلاقي التكفل بالعربي، وحمايته من ثأر بني جلدته.
ومع توغل الرجلين في جبال الأطلس، يحدث تقارب بينهما. لكن التماهي
لا يتحقق بشكل كامل، لأن محمد يظل خانعاً وتابعاً وعاجزاً عن
الرغبة في إبراز أي نية للتحرر. وحتى حين يقرر دارو مساعدته على
الفرار، يرفض الاقتراح ويصرّ على التوجه إلى العدالة الفرنسية من
أجل محاكمته.
ولا يحدث تحوّل في شخصية محمد العربي، إلا بعد أن تفطّن دارو إلى
أنه يريد تسليم نفسه للفرنسيين، حتى يتخلى أبناء عمومته عن فكرة
الثأر، ويموت كي يُحيي الآخرين. هذا الخيار يجعل دارو ينظر إلى
محمد ببعض العطف والاحترام، فيتخلى عن نظرة اللامبالاة التي كانت
تميزه خلال بداية الفيلم.
"الفرنسيون
يعتبرونني عربياً، والعرب يعتقدونني فرنسياً"
وتجدر الإشارة هنا إلى أن "العربي" في قصة كامو ظلّ يراوح مكانه
كشخصية عادية لا قيمة لها حتى النهاية، بينما فضّل أولهوفن، الذي
كتب سيناريو الفيلم، الخروج عن هذا السياق. فبعد إعطاء اسم للعربي،
أضاف إليه ميزات إنسانية، نقلته من وضعية الخاضع والتابع إلى شخص
مؤثر، ولو ضمن علاقته بالإسباني، أي أنه يفكر في مصيره، رغم إصراره
على تسليم نفسه للغزاة والخضوع لقانونهم.
يدرك المشاهد أن دارو بدوره كان يعاني من قسوة الوضعية
الكولونيالية، فالفرنسيون رفضوا تقديره واحترامه بسبب انتمائه إلى
الأقلية الإسبانية، فيردد قائلاً: "الفرنسيون يعتبرونني عربياً،
والعرب يعتقدون أنني فرنسي"، علماً أن دارو في قصة ألبير كامو ليس
إسبانياً، بل فرنسي، وهذا خروج آخر عن روح القصة.
ولا يحدث التماهي النهائي في الفيلم بين الرجلين إلا بعد ارتكاب
دارو جريمة مماثلة، بعد أن قتل أحد الرجال الذين كانوا يتبعون محمد
ويريدون قتله. من هنا يكتشف أن ماضيه العنيف كان يتعقبه، ولم يتركه
يعيش تلك الحياة الهادئة التي كان يتمناها حينما قرر الاستقرار في
قرية نائية "بعيداً عن الرجال".
وهذا العنف الذي تركه وراءه واستعاده رغماً عنه، يصبح بمثابة وسيلة
للثوار الجزائريين للتخلص من الوضعية الاستعمارية والتحرر منها،
وهو العنف نفسه الذي يلجأ إليه أحد الضباط الفرنسيين حين يقتل
ببرودة ثوريين جزائريين بعد أن يقعوا في الأسر.
يفقد دارو الحياة الهادئة التي كان يعيشها "بعيداً عن الرجال"،
لأنه لم يشعر بقدوم الاضطراب في حياته، تماماً مثلما لم تشعر فرنسا
بقدوم الثورة الجزائرية في نوفمبر 1954. وفي هذا السياق، يقول أحد
الثوار الجزائريين له: "فات أوان تدريس اللغة الفرنسية، فالزمن
الآن هو زمن الثورة".
وبالفعل كان الثوار الجزائريون قد صعدوا إلى الجبال واختاروا طريق
الثورة المسلحة بعد أن رفضت فرنسا الاستجابة لمطالبهم وإدخال
إصلاحات على المنظومة الاستعمارية.
إطار الليل: سردية البحث عن الأخ الضائع
سليمان الحقيوي
في فيلمها الطويل الأول "إطار الليل"، الفائز بالجائزة الكبرى في
الدورة الأخيرة من "مهرجان الفيلم الوطني المغربي"، تشكّل المخرجة
العراقية - المغربية تالا حديد عالماً مصدّعاً نتعرّف فيه إلى ثلاث
شخصيات يقودها القدر إلى مكان واحد.
تبدأ الحكاية بعودة زكريا (خالد عبد الله) إلى المغرب، حيث تستدعيه
زوجة شقيقه بعدما غادرها زوجها بشكل مفاجئ، دون الإفصاح عن وجهته.
وتنطلق رحلة بحث زكريا عن شقيقه بعثوره في مدينة الدار البيضاء على
من رحّل شقيقه إلى العراق.
ستشتبك قصة البطل بقصة جانبية أخرى، نتعرف فيها إلى عبّاس الفرنسي
- الجزائري (حسين شتري) وصديقته نادية (ماجدولين الإدريسي) اللذين
يسعيان إلى بيع الطفلة عائشة (فدوى بوجواني) لأحد الفرنسيين مقابل
مئة ألف يورو؛ اشتباك يحصل عندما تتعطل سيارتهما ويضطران إلى إكمال
رحلتهما إلى الدار البيضاء بسيارة زكريا.
أثناء الرحلة، يكتشف الأخير نية الخاطفين ويقرر مساعدة عائشة فيهرب
بها ويتركها في بيت صديقته الفرنسية جوديث (ماري جوزي كروز). ثم
يواصل رحلته إلى العراق عبر تركيا التي يتعرف فيها إلى لاجئَين
عراقيين يحصل منهما على القليل من المعلومات، ثم يدخل العراق
الغارقة في الفوضى والدمار.
"استفادت
المخرجة في فيلمها من تجربتها كمصورة فوتوغرافية"
من الواضح أن المخرجة استفادت كثيراً من تجربتها كمصورة محترفة
وكذلك من اشتغالها مع مدير التصوير ألكسندر بروف. يظهر ذلك في
براعة اللقطات وكيفية العمل على زوايا التصوير واختيار الإطارات
وإعطاء أبعاد جمالية وبصرية للأمكنة. أسلوب ظهر في فيلمها القصير
"شعرك الداكن الطويل يا إحسان".
ثمة إذاً اختيار واضح في سرد الأحداث، وتضمين المشاهد لأبعاد سردية
غنية وشاعرية. فالمعنى يتشكل بطرق غير اعتيادية، خصوصاً وأن حديد
لم تهتم كثيراً بترابط الأحداث وتعاقبها ومنطقيتها، بل راهنت على
استنطاق الذاكرة وعبور المعنى عبر الأحلام.
لكن هذا الاختيار بدا متعمداً منذ البداية، ما جعل المخرجة تسقط
أحياناً في التكلف قصد بلوغ غايتها، بينما جاءت مواصلة العمل
بالنّفس الفني ذاته على حساب عناصر بناء القصة. وبالتالي، يصيب
الفيلم بضعف درامي، إذ تسير الأحداث بتعثر، ما يجعل المعنى منزلقاً
في مراحل كثيرة، كما أن الأحداث لا تكشف عن دواخل الشخصيات
وإراداتها.
من جهة ثانية، لم يستفد الفيلم كثيراً من الطاقم العالمي الذي عمل
فيه، فظهر وكأنه بغرض التنويع فقط، بحيث يمكن القول إن تصوّر
المخرجة لم يكن مبنياً على الأداء، بل على خلق بناء بصري جمالي، إذ
لم تفتح حديد مجالاً أرحب للممثلة الكندية ماري جوزي كروز ولا
لغيرها من الممثلين.
وبالتالي، رغم فوز فيلم "إطار الليل" بأرفع جائزة سينمائية محلية
في المغرب، إلا أنه لا يمكن النظر إلى هذا التتويج إلا في ظل تواضع
أغلب الأفلام التي نافسته.
"سبات شتوي": الجبل الذي غطّته الثلوج
علي جازو
لطالما فضّل نوري جيلان الصورة على الكلمة، والبطء على التسرّع.
وكما لو كان قادماً من عالم القصة والمسرح، يبتكر سينما هي مزيج من
كل ذلك. ولعله من السهل وصفُ فيلمه بالحيز الجماليّ الذي تتنافس
فيه فكرة مُسبَقة مع صورة جديدة. غير أن الصورة والفكرة هنا غير
منفصلتين، لا سيما حين يؤجّل المخرج الحوارات كي تزيد غنىً وصعوبة،
ويبطئ الزمن عبر تثبيت الصورة على مشهد واحد طويل.
يمكن القول إنّ فيلم جيلان الأخير، "سُبات شتويّ"، يتناول فشل
الحلّ العقلانيّ المتعالي والمجرد من عاطفة حقيقية، إزاء حكمة
واهنة صابرة وخاسرة. فيلم عن معنى المُلْكية والثراء أمام مصاعب
الفقر، عن العزلة والشرخ الاجتماعي، عن صعوبة التفاهم وغياب
الانسجام، وعن الكذب والكآبة الجليدية التي تعزل الأفراد بعضهم عن
بعض.
الكلّ يفكر بمعنى حياته. زوجٌ ترك له والده ثروة كبيرة، وهو مسرحيّ
وكاتب تقدّم به العمر، وزوجة شابة، إضافة إلى أخت تعاني من الوحدة
إثر انفصالها عن زوجها، يقضون أياماً باردة في فندق سياحي تحيط به
قرى منسيّة وطرق موحلة. لكن وصفاً كهذا يبقى بعيداً عن الإحاطة
بفيلم مدته ثلاث ساعات ونصف، ويتضمن حوارات شاقّة ذات طابع مسرحي
يذكّر بمسرح الحجرة، وخاتمة تنتهي بقصيدة صامتة هي رجاءٌ أخير
وأقرب إلى أغنية منها إلى نهاية.
"يتضمن
"سبات شتوي" حوارات شاقّة ذات طابع مسرحي"
وفيما ينصرف الزوج لكتابة مقالات لصحيفة محلية مغمورة، ويعدّ لكتاب
مرجعي عن تاريخ المسرح التركي، تجمع الزوجة تبرعات لجمعية خيرية
لمساعدة مدارس وتلاميذ فقراء، وترى الأخت نفسها نادمة على ترك
إسطنبول.
يبدو الفيلم بمثابة مراجعة متأنية وبطيئة لخيارات فردية فات أوان
تغييرها، لكنها تكتسب طابعاً فكرياً وتجريدياً سرعان ما يجد سنداً
ندّياً من الواقع الذي يحرق مبدأ الفردانية من أساسه ويعيد صياغته
على جمر الأسئلة: كيف نواجه الشر، كيف نوقف الأذى، ما هو دور
الحقيقة، وهل الحل في داخل كل واحد منا وحسب؟ بعد حادثة التلميذ
الذي يرمي حجراً على زجاج سيارة الزوج أثناء عودته إلى الفندق مع
سائقه ومعاونه في إدارة الفندق، تخرج الكاميرا من الداخل الدافئ
والرتيب إلى الخارج البارد والصعب.
الطفل ابن إحدى العائلات التي تعود منازلها إلى ملكية صاحب الفندق.
يعجز والده عن دفع الأجرة، وما كان رميُهُ للحجر سوى انتقام ضعيف
عن أذى لحق بعائلته بسبب مطالبات المالك ورفعه دعوى على العائلة.
سنعرف لاحقاً أن هذه العائلة الفقيرة، مهددة بالطرد، حالها كحال
غيرها من عائلات المستأجرين الذين لا يعرف المالك أي شيء عنهم. كما
أن المحكمة قد بدأت بمصادرة بعض محتويات المنزل، منها التلفزيون
الذي تذكّر به الجدّة أثناء زيارة الزوجة الشابة لهم في وقت متأخر
من الليل إثر مغادرة زوجها المنزل بعد مشادة بينهما.
والد التلميذ يغرق في تناول الكحول، بعد عمله في منجم فحم، وهو بلا
عمل الآن، بعدما خرج من السجن على خلفية طعنه شخصاً بالسكين سخر
منه بعدما شاع في القرية أن شباناً أقدموا على سرقة الثياب
الداخلية لزوجته عن حبل غسيل! قد نظنها حادثة تافهة تودي برجل إلى
السجن. يقف شقيق الأب هنا، وهو إمام جامع في القرية، محاولاً
الإصلاح ورتق الجرح الذي سرعان ما يتسع وينزف.
فجأة تطفو على السطح خلافات كبيرة بين الأخ وأخته، وبين الزوج
وزوجته: لا أحد يحتمل الآخر. ترى الزوجة أن عملها الخيري قد أضاف
قيمة إلى حياتها الخاوية، ويجدها الزوج ساذجة ومخدوعة، فيما تبدأ
مشاحنات الأخ وأخته، بعدما تصارحه الأخيرة متسائلة إن كانت حقاً
هناك قيمة لما يكتب. سندخل دوّامة تتأرجح بين جدوى الفكرة وقيمة
العمل، بين جذر الأزمة وفروع الحل، ولا نخرج منها إلا بعدما يأخذ
الزوج قرار قضاء الشتاء في إسطنبول، وانعزال الأخت في غرفتها نادمة
ومتحسرة، وانصراف الزوجة إلى عملها الخيري، مع تقديمه مبلغاً
كبيراً مساعدة لها في تبرعاتها.
يرضي الزوج زوجته، لكن الأخيرة تفشل في تضميد جراح العائلة وبؤسها،
بعدما تأخذ كل المال الذي منحه زوجها لها إلى العائلة الفقيرة.
يبدو المال فقيراً وذابلاً إزاء عمق الإهانة، وتبدو الزوجة ملطخة
بالعار وهي عائدة إلى منزلها – الفندق.
الأغنياء المتعاطفون عاجزون عن حل مشاكل الفقراء مسلوبي القوة.
مشهد واحد فقط يختصر بؤس العائلة، إذا ما قورن بين سكنها الضيق
والبائس وبين رفاهية الفندق، لكن الأب السكّير والعاجز عن إنقاذ
عائلته يلقي بالمال في النار، وينهي بذلك حديثاً تأخر، وزيارة كان
يمكن أن تكون أبكر بكثير. بين زجاج السيارة المسكور في بداية
الفيلم وزجاج نافذة الفندق الوثير التي تطل منه الزوجة خافضة
نظراتها، يعود الزوج الكهل إلى زوجته الشابة.
الحاجة إلى دفء إنساني تلقي بنورها على الجميع، فيما ترتفع
الكاميرا عن الجبل الذي غطته الثلوج، مثلما كان افتتاح الفيلم
بمشهد رحب مماثل. يغلق نوري جيلان جبل الجرح بالثلج. لا يمكن النظر
إلى فيلم كهذا على أنه يوجز مقارنة بين إسطنبول الغنية والنائية
التي لا نرى منها شيئاً، وبين الريف التركي المترامي الذي يمكن
لحادثة تافهة أن تودي برجل من رجاله إلى ردّ عنيف (جريمة الطعن
بالسكين). فيلم نوري جيلان أبعد عن أن يكون تركياً وحسب. إنه ردٌّ
محزنٌ وقوي على أزمة ثقافية – اجتماعية عالمية، حيث لا تجيب أعمال
خيرية مثالية على أسئلة تختصر المرض في سؤال واحد: كيف نوقف الأذى؟ |