أبواق الدعاية الصهيونية تصدح في ثيسالونيكي السابع عشر
رامي عبدالرازق/ ثيسالونيكي (اليونان)- خاص:
•
بينما لا يزال مهرجان ثيسالونيكي أحد أهم مناسبات
·
السينما التسجيلية الأوروبية، غزت هذه الدورة أفلام
·
تريد الدفاع عن الفكرة الصهيونية بإعادة التذكير بويلات
·
النازية.
"على العالم أن يتعلم الدرس وإلا فإن الليل سوف يسقط وسيحل الظلام
على البشرية كلها".
هكذا كانت السطور التي اختتم بها المدعي العام قرار الأتهام في
محاكمات نومنبرغ الشهيرة التي اجريت لقادة وضباط وجنود الرايخ
الثالث عقب هزيمة المانيا النازية في الحرب العالمية الثانية
(1939-1945) وكان محور الأشارة التي تضمنها القرار يخص تحديدا
الجرائم المتعلقة بمعسكرات الأعتقال النازية التي ازهقت ارواح
الألاف من اليهود والغجر والمعاقين خلال سنوات الاجتياح النازي
لأوروبا أثناء الحرب، ولكن وحدهم اليهود/ الصهاينة هم من استطاعوا
ان يزيحوا من عداهم من قوائم ضحايا النازية ليستاثروا بمفردهم
بعقدة الذنب الهائلة التي خلقت داخل المجتمعات الأوربية كنتيجة
مباشرة لما فعله النازي واصحابه.
استطاع مهرجان سالونيك للأفلام التسجيلية عبر دورته السابعة
عشر(13-22مارس) ومن خلال برمجه انتقائيه دقيقة ومحسوبة أن يطرح
العديد من الأسئلة الحضارية والسياسية حول وضع العالم خلال القرن
الحادي والعشرين وهو ذاته الشعار الذي أعلنه منذ انطلاقه مع بداية
الألفية الجديدة (صور من القرن الحادي والعشرين).
فمن خلال 185 فيلما عبر احد عشر قسما تمثل البرامج الأساسية لقوام
الدورة السابعة عشر يمكن أن نلمس بقليل من التمعن هذه الأشارات
الباطنية التي يبثها تجاور التجارب التسجيلية عبر سياقات تتشابه في
الروح وتختلف في الاطر والاشكال، ويكفي ان نشير إلى أن ثمة فيلمين
من أهم الأفلام التي عرضت خلال فعاليات الدورة بديا وكأنهما فيلم
واحد من جزئين رغم اختلاف المخرجين والدول المنتجة، الاول هو
الأمريكي الأنجليزي الأسرائيلي الدنماركي المشترك "الليل سوف يسقط"
للمخرج اندريه سينجر والثاني هو"كل وجه يملك اسما" للسويدي ماجنيوس
جيرتن والحائز على جائزة اتحاد النقاد الدولي"الفيبريسي"لهذا
الدورة.
"الليل سوف يسقط" بناء تسجيلي يعتمد على مادة فيلمية أفرج عنها
مؤخرا من متحف الحرب البريطاني وتصور لقطات ومشاهد طويلة صورت
بكاميرات وحدات السينما في جيوش الحلفاء (انجلترا وفرنسا والسوفيت)
عن معسكرات الأعتقال الألمانية التي أكتشف الحلفاء أنها تحتوي على
اطنان من الجثث البشرية التي ابادتها النازية.
وعلى نفس السياق باختلاف المادة يقوم بناء "كل وجه يملك اسما" على
مشاهد طويلة لوصول مئات من اللاجئين المحررين من جحيم النازي إلى
ميناء مالمو السويدي ومحاولة المخرج التعرف على اسماء هذه الوجوه
العديدة التي تظهر في الفيلم لأعادة قراءة هذه اللحظة التاريخية
الفارقة في تاريخ البشرية والعالم مدمجا اياها في لقطات حديثة
لوصول مركب يحمل مهاجرين غير شرعيين إلى نفس الميناء بعد سبعين
عاما من وصول المركب الأول.
وكأن "كل وجه يملك أسما" هو الجزء الثاني من "الليل سوف يسقط" عقب
تحرر مجموعات المعتقلين في المعسكرات النازية، ولكنه أيضا يبدو
اقرب لجسر وثائقي أذا ما قمنا بتتبع المادة المصورة على استقامتها
عبر طرح سياسي وحضاري لنجد أن المشاهد الأخيرة من "كل وجه يملك
اسما" والتي تصور عمليات انزال المهاجرين غير الشرعيين إلى السويد
تسلمنا فكريا ونفسيا إلى رحلة الروح الهائمة عبر كاميرا طائرة
وزوايا غريبة ولقطة طويلة مشهدية داخل جحيم المهاجرين الغير شرعيين
إلى اوروبا عقب نزلهم إلى شواطئها في توابيت الهجرة المسماة
بالقوارب في فيلم "هؤلاء الذين يشعرون بلسع النار" للمخرج مورجان
كنيبي.
وعلى نفس الخط المستقيم يمكن بسهولة الربط ما بين "الليل سوف يسقط"
الذي يصور هروب اليهود من جحيم النازي إلى فلسطين وفيلم"المطلوبون
ال18" لأمير شوميل فتجاور الفيلمين يعبر عن تجلي المثال الأبرز
لمتلازمة ستكهولم الشهيرة- تحول الضحية إلى جلاد- ونحن نتابع
الصراع العربي الأسرائيلي خلال انتفاضة 1987 في بيت حانون عندما
قررت اسرائيل أن 18 بقرة تكفل اللبن إلى المدينة الفلسطينية
الصغيرة يمكن أن تصبح مهددة لامن اسرائيل وبالتالي تطالب بتلك
البقرات من أجل الا تتحول بيت حانون إلى نموذج للمقاومة السلبية
بمقاطعة الألبان الأسرائيلية وبالتالي الأضرار باقتصاد الدولة
العبرية.
تسلمنا التجارب التسجيلية إذن عبر برامج المهرجان المختلفة إلى
غواية الصورة الكبيرة التي تتشكل اجزائها تباعا عبر النظر إلى
التفاصيل ولكنها في النهاية تصنع المشهدية الحضارية المطلوبة
لمحاولة استيعاب أن الليل قد سقط بالفعل والظلام قد حل على
العالم.
ماذا فعلتم بعقدة الذنب؟
يعتبر فيلم "الليل سوف يسقط" في ظاهرة نموذجا للأفلام الدعائية
الصهوينية التي طالما روج لها اليهود فيما يخص ما فعله بهم النازي
خلال سنوات الحرب لكن المتأمل بقليل من الريبة تحت مسام البشرة
التسجيلية فسوف نجد أنه يتحدث عن كيفية زراعة عقدة الذنب اليهودية
لدى الألمان والأوربيين. أنه يفسر على مستويات كثيرة لماذا تدعم
اوروبا اليهود الصهاينة في قتل الفلسطينين! لأن اليهودي الجيد- على
حد قول ايال سيفان المخرج اليهودي المعادي للسياسية الأسرائيلية-
هو اليهودي البعيد عن أوروبا. وإذا ما وضعنا المواد المصورة بهذا
الفيلم والتي نرى بها اطنان الجثث المنتهكة ارواحها عبر شتى صنوف
العذاب والقتل بجانب اكثر من ستين عاما من المذابح
الأسرائيلية-خمسة عشر ضعف زمني من المدة التي نكل بها هتلر
باليهود-فسوف نجد الأمر اشبه بتفويض اوربي يقول اذهبوا لتقتلوا
العرب بعيدا ولكن لا تبقوا هنا لاننا سوف نحرقكم دون رحمة.
تذكرنا مشاهد الملابس المجمعة لسجناء المعسكرات في المواد المصور
التي يعرضها الفيلم بأستفاضة كبيرة على اعتبار أنها القوام البصري
الأساسي للبناء التسجيلي بمشهد الملابس المجمعة في الوان متشابهة
الذي قدمه يسري نصر الله في الجزء الأول من فيلم"باب الشمس"عندما
عادت نائلة واهل قريتها لبيوتهم بعد ان طردتهم عصابات الهاجاناه
فوجدوا الأسرائيليين يضعون الملابس بنفس الأسلوب والطريقة التي كان
النازيين يفرزون بها ملابسهم في المعسكرات!!
وإذا ما وضعنا مشاهد الاطفال المبتسمين والمراهقين الذين عادوا من
حافة الموت في المشاهد التي صورها الحلفاء لتحرير المعسكرات بجانب
المشاهد التي يعيد"المطلوبون ال 18" تصويرها عن المواجهات بين قوات
الاحتلال والفلسطينين في بيت حانون دفاعا عن البقرات المطلوبات سوف
ندرك حجم المآساة البشرية التي صيغت من ذهاب هؤلاء المراهقين بعد
ثلاث سنوات فقط من تحريرهم من قبضة النازي كي يفرغوا كل شحنات
الغضب والحقد والعذاب الذي شاهدوه وعلق داخل جيناتهم في شعب أخر في
أرض اخرى بحجة دينية تخصهم ولا تلزم العالم.
يعرض الفيلم لقطات من الصحف الألمانية التي كانت تنشر بعد الحرب
وتحمل صورا من المواد المسجلة عن جثث اليهود في المعسكرات وفوقها
مانشيتات الصحفة الأولى التي تقول (هذا ما تسببتم فيه)محاصرة
بدعايتها تخوم العقلية الأوربية التي تتشكل بعد الحرب والتي
استراحت للأبعاد حتى لا يكون اليهود سببا في أي حرب مستقبلية في
اوروبا وتجعل ما فعلوه في فلسطين تحريرا وليس أبادة وكأن رد الجميل
للأنسانية التي حررتهم يأتي بتخفيف احمال الأرض بقتل بشر ابرياء
كانوا يجلسون في هدوء اسفل بيارات البرتقال في بلادهم الجميلة
بينما كان اليهود معبئين في الأفران الضخمة التي نراها في لقطات
طويلة ينتظرون ان تصعد ارواحهم إلى السماء لأفساح الأرض لمن هم
افضل منهم بحكم النظرة النازية العنصرية الشهيرة.
هل تعلمون لمن ذهبت تلك المواد لكي يصيغها في فيلم واحد طويل عام
1945 لكي يفضح للعالم ممارسات النازية؟ أنه هتشكوك نفسه!
أجل الفريد هتشكوك العظيم الذي قرر أن المادة تحتاج إلى المزيد من
القوة التأثيرية رغم كل ما تعرضه من فظاعات جعلت من بقوا على قيد
الحياة من الضباط والمصورين والمونترين وهم في التسعين من عمرهم
الأن يبكون كلما تذكروا تلك اللقطات التي صوروها او مشاهد اكوام
العظام وبقايا الرماد البشري، ما فعله هتشكوك أنه قام بوضع خرائط
مصورة حول مدى قرب المعسكرات من المدن والقرى الألمانية تحديدا
كنوع من التأكيد على أن تلك المعسكرات كانت جزء من البنية
الأقتصادية لألمانيا بحكم اعتمادها على عمالة بلا ثمن وبالتالي لم
يكن السكان يتذمرون من روائح الجثث أو الهواء المعباء بدخان اللحم
المحترق يوميا عقب انتهاء صلاحية الجسد الذي يظل يعمل حتى يموت من
الجوع والتعب، ولكن الأمر في الحقيقة كما تكشف عنه بشكل غير مباشر
اللقاءات التي اجراها المخرج اندرية سينجر أنه كان نوعا أخر من
زراعة عقدة الذنب الرائعة في نفوس الألمان للقضاء على العداء
التاريخي بينهم وبين اليهود.
أين ذهبوا ؟؟
تنقل لنا المواد الارشيفية المفرج عنها وشهادات العاملين في الجيش
ووحدات التصوير العسكرية أن معتقلي المعسكرات الذين بقوا على قيد
الحياة لم يكونوا يريدون العودة إلى موطنهم بل الهجرة إلى فلسطين
او امريكا ولكن الصحف والمواد الأذاعية التي تصاحب مشاهد سفن
الاجئين اليهود تعكس بشكل مباشر رفض امريكا وانجلترا أن تفتح ارضها
لليهود الهاربين من اوروبا خوفا من نازي جديد ربما يظهر ذات يوم
وبالتالي اصبح من السهل تقبل فكرة أن تكون هناك قطعة ارض بعيدة
اسمها فلسطين يمكن ان يجتمعوا فيها كجيتو ضخم بعيدا عن اوروبا
كلها.
ولكن يصبح السؤال هنا ؟؟ لماذا اذن تم حفظ هذا الأرشيف الضخم من
المواد المصورة ولم يتم توظيفه ضمن عشرات الأفلام الدعائية خلال
سنوات الأعداد لأقامة دولة اسرائيل! واكتفى الأمريكان بالحصول على
بعض المشاهد واللقطات التي صيغت في فيلم قصير من اخراج هوليودي اخر
هو بيلي وايلدر تم عرضه عام 1946 واصبح جزء من تاريخ الدعاية
الصهيونية لتأكيد احقيتهم في وطن قومي يهودي يحميهم من غدر
الأوربيين مجددا!!
لا يطرح الفيلم اجابة واضحة عن سبب الحفظ! يشير من بعيد إلى اسباب
مخابراتية ضمن بدايات الحرب الباردة بين المعسكريين الغربي
الأمريكي والشرقي السوفيتي خاصة أن الأمور لم تكن بعد واضحة بشكل
كبير ورغيف العالم كان مختمرا طازجا بعد الحرب امام الحلفاء
ينتظرون تقسيمه فيما بينهم بأسرع وقت وبشكل يضمن ثبات النظام
العالمي الجديد أنذاك بأقل قدر من الخسائر واكبر قدر من الضمانات.
ولكن التحذير الذي اختتم به الفيلم سياقه الدعائي ضمن مشاهد
محاكمات نومنبرغ( إذا لم يتعلم العالم الدرس فأن الليل سوف
يسقط)يبدو الأن في اللحظة الحضارية الراهنة دليل على أن العالم لم
يتعلم الدرس وأن الليل قد سقط بالفعل لأنه بعد ثلاث سنوات وفوق ارض
طيبة تدعي فلسطين شرع هؤلاء الاجئين والهاربين من جحيم ملابس
المعتقل المخططة طوليا باللونين الأبيض والأسود في تلقين العالم
درسا جديدا في القسوة وموات القلب.
وهنا يمكن أن نتنقل بسلاسة ما بين المشاهد الأخيرة من فيلم "الليل"
إلى اللقطة الأولى من فيلم "كل وجه يملك أسما" والتي تصور المئات
من الاجئين وهم قادمون من المعسكرات المحررة إلى بلد جديد لكي
ينطلقوا منه إلى العالم بعيدا عن اوروبا البغيضة والمدمرة.
ان بحث المخرج السويدي ماجنيوس جرتين عمن تبقى على قيد الحياة من
هؤلاء اللاجئين ومحاولة معرفة اسم كل منهم والقصة التي وراء كل وجه
وأسم هو تذكير للعالم بفظائع الحرب وويلات الدم المراق بلا ذنب وهو
فيلم اقل دعائية بالطبع من الفيلم السابق لأنه مصبوغ بتلك الروح
المسالمة الشفافة والتي حاول المخرج من خلالها وضع مقارنة بين
استقبال الاجئين عام 1946 والقبض على المهاجرين غير الشرعيين في
2014.
الربط بين مشاهد الاجئين واللقاءات التي اجريت معهم ما بين امريكا
وتل أبيب والسويد واستراليا وبين المشاهد البوليسية المبهمة
لمحاصرة قارب المهاجرين غير الشرعيين والقبض عليهم هو ربط يبدو
تعسفيا في ظاهرة لكنه ضمن سياق النظرة العامة لوضع الحضارة
الأنسانية يبدو متجانسا بشكل كبير، فما حدث أن العالم لم يتطور إلى
الأفضل ولم يتعلم الدرس الرهيب الذي لم ينتهي سوى من ستين عاما فقط
فلا يزال هناك لاجئون يسعون للهرب من موطنهم لانهم مضطهدون ولأن
الحرب اكلت بيوتهم والذي لم تآكل الحرب بيته أكلت الأوضاع السياسية
والأقتصادية روحه فالليل الذي ظن العالم أنه لن يهبط مرة أخرى بعد
درس الحرب العالمية الثانية والذي تصوررحلة لبحث عن اسماء الاجئين
وقصصهم اذداد كثافة في ثلاثة ارباع القرن الذي مضى من عمر البشرية.
الجنة كامل العدد
المشهد الأخير في فيلم "كل وجه يملك اسما" يمكن بسهولة أن ننتقل
منه إلى المشهد الأول من الفيلم الهولندي "هؤلاء الذين يشعرون بلسع
النار" الذي يبدأ بزروق مهاجرين غير شرعيين يغرق على شواطئ اوروبا
ثم تنطلق الكاميرا إلى الفضاء مجسدة نظرة روح هائمة في جحيم يشبه
جحيم دانتي لكنه اشد وطأة على النفس لأنه جحيم ارضي معاش وليس صورة
من حياة أخرى غامضة حيث تنتقل تلك الكاميرا/الروح ما بين العشرات
من اماكن وتفاصيل حياة المهاجرين والأجئين إلى اوروبا على اعتبار
أنها الجنة الأرضية القريبة بينما الواقع الذي تصوره عين
الكاميرا/الروح تسجل ما هو عكس ذلك تماما بل وتجعل من زيارة واحدة
لهذا الجحيم عبر سياق الفيلم كفيلة بأن يفكر كل لاجئ ومهاجر غير
شرعي في ان يطأ بقدمه اعتاب تلك الجنة التي علقت يافطة كامل العدد.
هذه إذن واحدة من ميزات المهرجانات التي تقوم على برمجة واعية
ودقيقة ذات محصلة نهائية وليست مجرد مساحة عروض بلا سياج فكري
ووجداني يحيطها ويؤطر ملامح دوراتها عاما بعد عام وإذا كان تاريخ
الامم هو محصلة سردها فأن تاريخ السينما هو محصلة البرامج
المهرجانية التي تجعل من اصطفاف الأفلام بجانب بعضها في شاشات
متجاروة يمنحها المزيد من البريق الوجودي الخلاب والمفعم بالوعي
والأدراك. |