مهرجان أفلام النازحين: الكاميرا في الخيمة
بغداد - مروان الجبوري
كثيراً ما يؤخذ على الفن والإعلام العراقيين ابتعادهما عن هموم
الناس ومعاناتهم، والمكوث في أبراج لا تلامس نتاجاتها غير هموم
النخبة التي تعيش فصاماً عن واقعها. لكن مجموعة من طلبة كلية
الإعلام في "الجامعة العراقية" قدّموا نموذجاً مختلفاً لذلك ـ على
بساطته ـ حين قاموا بإنتاج عدد من الأفلام التسجيلية القصيرة التي
توثّق أوجاع نازحي العراق؛ ممن تركوا ديارهم أخيراً على وقع أزيز
الرصاص والقنابل والمعارك المحتدمة.
وها إن أوضاعهم تزداد سوءاً مع اتساع رقعة المعارك في مدنهم
ومحافظاتهم وانسداد أفق الحل السياسي لقضيتهم. هذه المأساة دفعت
الطلاب المذكورين إلى التضامن معهم بالإمكانيات المتوفّرة لديهم،
وعرض الأفلام في مهرجان خاص بها.
سليمان صالح مهدي أحد الطلبة المشاركين قال إن الهدف الرئيسي من
هذا المهرجان هو استثارة الضمير العراقي عبر توجيه رسائل مباشرة
تتضمن أسئلة من نوع: ماذا لو كانت هذه أسرتك التي ترقد في خيمة في
العراء؟ ويؤكد مهدي أن حلم هؤلاء بالعودة إلى منازلهم أصبح لدى
بعضهم اليوم أشبه بأمنيات صعبة المنال.
"تكاد
وجوه العراقيين أن تتماثل حتى في خطوط الحزن والتجاعيد"
"غربة وطن"، "مجهولون إلى مجهول"، "قصة نازح"، "إحنا أهلكم"،
عناوين لبعض هذه الأفلام، توجّهت، كما يقول أصحابها، إلى المواطن
العراقي البسيط، مخاطبةً ضميره الذي يفترض أن يكون منزّهاً عن
الانتماء الطائفي في التعامل مع القضايا الإنسانية.
زهراء عبد الحميد، المشاركة في إعداد فيلم بعنوان "وجوه"، تقول
إنها وزملاؤها حاولوا إيصال فكرة أن وجوه العراقيين جميعاً تتشابه
في لحظات الفرح والتعاسة، وتكاد تتماثل حتى في خطوط الحزن
والتجاعيد التي تظهر على تقاسيم ملامح المهجّرين والمقيمين على حد
سواء، وأن الشعور بالمصير المشترك لا بد أن يدفع الجميع إلى
التضامن مع كل متضرِّر مما يدور اليوم. وتشير عبد الحميد إلى أن
الطلبة تحمّلوا نفقات إنتاج هذه الأفلام بأنفسهم، بما في ذلك
استئجار كاميرات حديثة للتصوير، الأمر الذي كلّفهم مبالغ مالية
كبيرة نسبياً، من دون أن يثنيهم عن إكمال مشروعهم هذا.
أما هاجر حبيب، فتؤكد أن الغرض الرئيسي من توثيق معاناة النازحين
هو إطلاق نداءات استغاثة إلى الجهات الرسمية ومنظمات المجتمع
المدني المحلية والدولية كي تتدخّل لوضع حد لمعاناة هذه الفئة من
الموطنين العراقيين التي ذهبت ضحية لصراعات الساسة.
وكمحاولة لتقديم صورة أكثر دقة وواقعية، قرّر بعض هؤلاء الطلاب
الذهاب إلى مخيمات النازحين في المدارس، وعلى أطراف بغداد، ليعيشوا
بعض الأوقات معهم وينقلوا ما رأوه عبر عدسات الكاميرا.
محمد زنكنة واحد من هؤلاء. يقول إنه ذهب إلى أحد المخيمات جنوبي
بغداد ورأى كيف يقضون تفاصيل شتائهم القاسي مع قلة الغذاء والوقود،
وندرة فرص العمل التي تؤمّن لهم الحصول على احتياجاتهم الأساسية.
لكنه يؤكد أن حجم المأساة أكبر من ذلك بكثير، مشيراً في الوقت نفسه
إلى أن هذه التجربة منحته الكثير من الخبرة الميدانية التي يعتبر
أن الإعلام العراقي ما زال يفتقر إليها.
ويسعى هؤلاء الطلاب إلى التواصل مع بعض القنوات العراقية بغرض عرض
أعمالهم على شاشاتها، إلا أنهم يواجهون بعض العراقيل والعقبات في
ذلك، من بينها أن بعض هذه الفضائيات تشترط معايير تقنية عالية ربما
لا تنطبق على أعمالهم. لكنهم يحتاجون ـ كما يقولون ـ إلى أن تتخذ
هذه المؤسسات خطوات إيجابية، علماً أن كثيرين من بينهم يعتقدون
أنهم سينتظرون كثيراً قبل أن يتحقق ذلك.
الحالة الغريبة لـ مانويل دي أوليفييرا
نوال العلي
كان المخرج البرتغالي مانويل دي أوليفييرا قد تجاوز المائة عام حين
ظهر فيلمه الروائي الأخير "غيبو والظل" (2012)، أما آخر أعماله
حقاً فقد كان تسجيلياً قصيراً بعنوان "عجوز بيلام" أخرجه وعرضه
العام الماضي في "مهرجان البندقية للأفلام".
السينمائي الشيخ (1908 - 2015) بدأ حياته بفيلم وثائقي صامت سنة
1931 واستمر في إنتاج أشرطة تسجيلية قصيرة لأكثر من ثلاثين عاماً،
وها هو ينهي مسيرته من حيث بدأ؛ بفيلم وثائقي أيضاً.
قبل أيام فقط، كان يقال عنه أكبر مخرجي العالم سنّاً، برغم ذلك رحل
مثل جدٍّ مُهمل، لم يُحدث ضجة إعلامية ولم يتنبه كثيرون إلى أن
صاحب رباعية "الحب المنكوب" (1978) غادر العالم الخميس الماضي.
لا غرابة في هذا الخفوت الإعلامي حوله، فقد اختار أوليفييرا
أشكالاً سينمائية ليست جماهيرية، كما أنه كان كريماً في الغياب
والانقطاعات لأسباب سياسية تارةً، إذ تزامنت سنوات شبابه مع
ديكتاتورية سالازار في بلاده، أو لأسباب مادية أو خاصة تارةً أخرى.
لكن، في منتصف الثمانينيات، جاءت لحظة قتل فيها صاحب "النعل
المتسخ" (1985) شهوة الانقطاع تلك، مستبدلاً إياها بحالة نادرة من
الرغبة السينمائية التي شغلته بعد أن بلغ 76 عاماً. وكأنه انتبه
فجأة لتسرّب الزمن، بدأ يخرج فيلماً كل عام تقريباً، إضافة إلى
مسلسلات تلفزيونية قصيرة ووثائقيات. لقد بات مهووساً بالحضور وهو
يقترب من الثمانين.
"حالة
نادرة من الرغبة السينمائية مسّته في عقد الثامن"
يمكن القول إن أوليفييرا كان نجماً حقاً في السينما الفرنسية،
خصوصاً بعد فيلمه "أنا ذاهب إلى البيت" (2001) والذي كان يطرح فيه
سؤاله الأثير عن الزمن ومعنى التقدّم فيه والآلام وكذلك المباهج
الصغيرة للعيش في ظل الشيخوخة.
حميمية هذه المواضيع وقربها من ذات أوليفييرا نفسه ميزت أعماله
التي ظهر معظمها ناطقاً بالفرنسية في الأعوام العشرة الأخيرة مثل
"الصورة الناطقة" (2003) و"مبدأ اللايقين" (2002) و"جميلة دائما"
(2006) وغيرها. أعمال جعلت ناقديه يصفونه بأنه يضع قدماً في
السينما الكلاسيكية وقدماً في الحداثة، لذلك تخرج السينما من بين
يديه غرائبية ومربكة.
ثمة شيء غريب وخاص في سينما أوليفييرا، إننا إما نحبها بقوّة أو
ننفر منها بالقوة نفسها، مثلما يصعب علينا أن نمسك صفة واحدة
ونطلقها على منجز أوليفييرا كلّه، ربما يناسبه القول إن كل فيلم
بالنسبة له نزوة سريالية سرعان ما ينفض عنها إلى غيرها.
نشاهد أعقد وأبلغ هذه النزوات في فيلم "الحالة الغريبة لأنجلِيكا"،
ربما يكون الأبرز في إنتاج السنوات الأخيرة، ويمكن وصفه بأنه قطعة
سينمائية عن الحب والموت، والذي وظّف فيه أوليفييرا الكاميرا كآلة
تتحرك بين عالمين لا يمتّان لبعضهما بصلة، عالم الحضور الكلّي
للجسد وعالم الموت والغياب الكلّي.
فكرة هذا الفيلم كتبها في الأربعينيات ولم يعمل المخرج المتردد أو
الكسول عليها حتى عام 2010، وفيها يُستدعى مصوّر فوتوغرافي في ليلة
عاصفة لالتقاط صورة شابة متوفاة وهي مستلقية على السرير، وما أن
يبدأ الشاب بالتقاط الصورة حتى تعود الفتاة إلى الحياة، لكنها حياة
تخصّ المصوّر وحده، لا يدركها غيره. ينقلنا هذا الفيلم إلى عمل آخر
وهو "المرآة السحرية"، حيث الواقعية مرآة الفنتازيا والعكس بالعكس،
كعالمين يتعكّز كل منهما في وجوده على الآخر في عين أوليفييرا.
ورغم الغياب الكلّي لأوليفييرا إلا أنه نجح بطريقته السريالية في
أن يمدّ عمره السينمائي خطوة في المستقبل، إذ يمكننا أن نشاهد بعد
أسابيع عملاً جديداً بتوقيع مانويل دي أوليفييرا كان قد أخرجه سنة
1982 بعنوان "ذكريات واعترافات" وأوصى ألا يتم عرضه إلا بعد مماته.
لطفي عاشور: أُبوة في 18 دقيقة
أحمد باشا
لا تزال النظرة إلى الفيلم السينمائي القصير، عربياً، على أنه خطوة
أولى نحو إنجاز شريط طويل، وتفترض فيه تجربة يتعرّف من خلالها
المخرج على أدواته. وإذا نظرنا إلى الفيلم القصير على هذا النحو،
يصعب تناوله كتجربة إبداعية وفنّية مكتملة بذاتها تستحق النقد
والقراءة.
ومع ذلك، تمكّن بعض المشتغلين في الفيلم القصير من أن يفصحوا، من
خلال أفلامهم القصيرة، عمّا ينافي الافتراض السابق. من هذه التجارب
الأخيرة يحضر فيلم "بو لولاد" (2014، 18 د) للمخرج التونسي لطفي
عاشور، والحاصل عنه على عدة جوائز، أهمها جائزتا الفيلم القصير في
مهرجانَي "كليرمون فيران" الفرنسي و"أبو ظبي السينما".
تكمن أهمية شريط عاشور في موضوعه أولاً من حيث الدخول إلى عوالم
المسكوت عنه اجتماعياً، ثم بقدرته على توليف عمله ليكون مادة بصرية
تثير القلق والأسئلة لدى المتلقي. ضمن هذه الرؤية، اهتمّت كاميرا
عاشور في اقتحام قضايا واقعٍ هي ليست غريبة عنه، وسمحت لنفسها بأن
تقع في مصائده.
في شريط "بو لولاد" يحرص المخرج التونسي على أن تكون شخوصه متحرّرة
من الأنماط والقوالب الجاهزة، فمحلية الحكاية لا تعني أبداً غياب
الأسئلة وتعقيداتها في نفوس أبطالها. يقلّ سائق التاكسي هادي
الجبالي (الممثل نعمان حمدة) امرأة غريبة على وشك الولادة إلى
المستشفى. يُستدعى بعدها بأيام من قبل القاضي لأن المرأة ادّعت
عليه بأنّه أب للطفل الوليد.
"مادة
بصرية تثير القلق والأسئلة لدى المتلقي"
يجن جنون هادي بسبب أمر ليس له فيه ذنب. تتوالى الأحداث، وتكشف
التحليلات الطبية كذب ادّعاء المرأة لأن سائق التاكسي غير قادر على
الإنجاب أساساً. الحادثة السابقة ستضع الرجل أمام مأزق أكبر وأكثر
تعقيداً: ما الذي سيفعله هادي مع زوجته وطفليه في المنزل؟
مأزق سائق التاكسي في الفيلم سيفتح باب الاحتمالات على مصراعيه،
فتثار قضية الأبوّة وعلاقة الرجل بأبنائه، إذ إن كثيراً من الأعمال
الأدبية والفنية عبر التاريخ ناقشت قضية الأم وعلاقتها بأطفالها،
لكن عاشور هنا يقترح النظر إلى القضية نفسها من الطرف المقابل، أي
عند الذكر هادي، والأب بالمعنى الواقعي لطفليه ولكن ليس بالمعنى
البيولوجي. القضية المطروحة إنسانية، أزلية، لكن كيف سيتعامل معها
سائق التاكسي التونسي؟
لا ينجرّ فيلم "بو لولاد" إلى الحلول الأولى، فما هو مطروح من عنف
اجتماعي نمطيّ وتوصيفات جاهزة أقل ضراوة مما يعتمل في دواخل
الشخصيات، التي وبخصوصيتها الشديدة قادرة على استثارة قضايا
الواقع.
لا تتغير معاملة هادي مع طفليه، ويلجأ إلى الحيلة بغية دفع زوجته
إلى الاعتراف، إلا أنّها لا تعترف. بعد المواجهة مع الزوجة في مطبخ
المنزل، يذهب هادي إلى النوم بجانب طفليه، تاركاً زوجته تدخن على
النافذة ونتيجة التحليل بيدها، وتاركاً في الوقت نفسه نهاية
الحكاية لتُصنع في ذهن المتفرج.
سامي الجلّابي: جيل يحلم بسينما سودانية
الخرطوم - محفوظ بشرى
عقب سبات طويل دخلته السينما السودانية منذ مطلع التسعينيات، بدأت
تظهر في الآونة الأخيرة ملامح "هبّة سينمائية" يقودها شباب دون
الثلاثين، تظهر أسماؤهم لأول مرة. يشاركون في مهرجانات إقليمية
ويحصدون جوائزها، مثل سامي الجلَّابي، وحجوج كوكا، ومزمل نظام
الدين، وإيلاف الكنزي، وعبد الله الليلي، ورزان هاشم.
سامي عبد المعطي الجلَّابي (1990)، أحد صنّاع الأفلام الشباب
هؤلاء، يصف نفسه بأنه "مخرج ومصوِّر ومونتير وكاتب"، في رصيده ستة
أفلام قصيرة هي: "الفيروس 1 و2"، "بتاع الطبليّة"، "حتى حين"،
"الخطيئة"، "هيتمان سودان". يتحدث لـ"العربي الجديد" عن علاقته بفن
السينما ورؤاه وطموح جيله في تطوير هذا الفن، وعن مشاركته في
برنامج "محطة بيروت السينمائية" (ينايرــ مارس 2015).
عن بداية علاقته بصناعة الأفلام، يقول الجلَّابي: "طلب مني صديقي
المخرج التونسي سجير طليحة، التمثيل في أحد أفلامه القصيرة عام
2010. اختارني لأنني لاعب كرة سلَّة، وفكرة فيلمه "ديني ما يمنعني"
هي أن الدين لا يمنع ممارسة الهوايات. كانت تجربة جميلة، شعرتُ
بعدها أن السينما هي مجالي، فغيّرت تخصّصي الجامعي، من البرمجة إلى
الوسائط المتعددة. واتّخذتُ في تلك اللحظة القرار بأن تكون حياتي
العمليّة في صناعة الأفلام".
"من
يدَّعون أنهم يفهمون كل شيء لم ينتجوا عملاً واحداً"
حول مشاركته في برنامج "محطة بيروت السينمائية" الذي نظّمه "المركز
الثقافي الألماني" لصنّاع الأفلام الشباب في المنطقة العربية، يقول
الجلَّابي: "عملت على كتابة عدد من الأفكار وخططت لمشاريع أفلام.
عرضت أفلامي هناك، ووجدت تقديراً وتشجيعاً. تعرّفت أيضاً إلى صنّاع
أفلام، وكنتُ جزءاً من نقاشات وتبادل خبرات مثمر. حضرت مهرجان
"أيام بيروت السينمائية"، وترك الفيلم الموريتاني المرشح للأوسكار
"تمبوكتو" انطباعاً جيداً لديّ. كان أمراً مشجعاً لي أن أرى
أفريقياً يتمكّن من الذهاب بعيداً في السينما".
المشترك بين أفلام الجلَّابي، إضافة إلى عنايته بالمونتاج والخدع
البصرية؛ أن أفكارها ليست معتادة في السودان. حول هذه النقطة يقول:
"اشتغلت على أفلام التشويق والرعب والكوميديا، لأنها أنماط نادرة
هنا. مثلما عملتُ في مجال أفلام الخيال العلمي لندرة هذا النوع في
السودان والمنطقة العربية. "هيتمان" شخصية هوليودية أردت صنع نسخة
سودانية منها. وقصة فيلم "الخطيئة" حقيقية، أحببت تحويلها إلى
دراما تحاور المشكلة".
مثل معظم أبناء جيله، ينتج الجلَّابي "سينما مستقلة" بالمعنى
المجرّد، بلا تمويل من مؤسسات أو أفراد، وبطريقة عمل جماعية تتيح
للأفكار أن تتّسع، يوضح: "أعمل بتمويل ذاتي، من جيبي، وبفريق عمل
من المتطوعين. المونتاج والعمليات الفنية تتم بأجهزة "على قدّ
الحال". نعمل جماعياً، وأتشاور مع فريق العمل قبل البدء حتى بكتابة
السيناريو، ثم أناقشه معهم كما أناقش بقية التفاصيل قبل بدء عملية
الإنتاج".
وعن مهنة الإخراج وتكاليفها ومتطلباتها لمخرج في أول الطريق، يقول
الجلّابي: "بدأت عام 2013، وأنا في طريقي إلى الاحترافية. كل
العثرات والتجارب الماضية هي ضريبة الطريق إلى الهدف. الإخراج مهنة
عمليَّة، لا بد من التجارب، والإخفاقات، لتصحيح المسار. هكذا
تُكتسب الخبرات في هذا المجال. أنا لا أحب "مخرجي الونسة"؛ من
يدَّعون أنهم يفهمون كل شيء في الإخراج، لكنهم لم ينتجوا عملاً
واحداً".
"جيل
يمارس انقطاعاً عن تراث المنطقة العربية السينمائي"
لا يبدو الجلَّابي على دراية بالمنجز السينمائي السابق في المنطقة
العربية والأفريقية، لا يختلف في ذلك عن كثيرين من أبناء جيله، ما
يطرح أسئلة عن "انقطاع سينمائي" قد يكون حدث لأجيال جديدة أو مورس
من قبلها لصالح مشاريع معولمة عابرة للثقافات.
على كلٍّ، لا يبدو المخرج الشاب خجِلاً من الاعتراف لنا بأنه ليس
مطلعاً على المشاريع السينمائية التاريخية والحديثة في أفريقيا وفي
المنطقة العربية. يقول: "أنا متابع فقط لأعمال هوليوود، وأشاهد
الأفلام السودانية المنتجة الآن، وأيضاً أتابع الأفلام القصيرة
المنتجة في العالم العربي وفي الغرب".
وعن الاستسهال في هذا الفن الذي يبرره التقدم التكنولوجي، يقول
الجلَّابي: "هناك من اتجه إلى هذا الحقل ظناً منه بسهولة العمل
فيه. لكن أيضاً هناك من يريد فعل شيء عظيم. أنا أريد أن أصنع
أفلاماً سودانية إبداعية عالمية في أفكارها وموضوعاتها، وبمؤثرات
بصريّة وقدرات تقنية مواكبة لما نشاهده الآن في السينما المتقدمة.
وأتدرب الآن على المؤثرات البصرية والتصوير والكتابة".
وفي تعليق يلخّص جانباً من أزمة السينما في السودان وانقطاع
التواتر بين الأجيال، يبيّن الجلّابي: "ربما سارت السينما
السودانية بثبات في وقت من الأوقات، لكن فجأة توقف كل شيء. الأفلام
الآن تعدّ على أصابع اليد. إنها خسارة عظيمة، فالسودان خامة غنية
لصناعة الأفلام العربية والأفريقية".
شاشة ضارية
طارق حمدان
في الحكاية الأولى من فيلم "حكايات ضارية" (Wild
tales)،
لمخرجه وكاتبه الأرجنتيني دميان سيفرون، والذي انطلقت عروضه في
صالات السينما العالمية شباط/ فبراير الماضي، يقوم غابرييل
(الموسيقي المغمور قبل أن يصبح طياراً) بإرسال تذاكر رحلة مجانية
إلى صديقته السابقة وصاحبه الذي خانه معها، ومعلمته في المدرسة،
والصحافي الذي كتب نقداً سيئاً عن موسيقاه ذات يوم، وزميله أيام
المدرسة، ومديره في العمل وآخرين غيرهم.
يجمعهم في طائرة، هو قائدها، يقفل قمرة القيادة، ويهوي بها واضعاً
حداً لحياة من خذلوه ولحياته بالطبع.
في واقعنا، الضاري أيضاً، تابعنا الأسبوع الماضي تفاصيل سقوط
الطائرة الألمانية. أندرياس لوبيتز مساعد الطيار المسؤول عن
المأساة، كان قد أقفل قمرة القيادة، بالضبط كما فعل غابرييل في
"حكايات ضارية"، وتعمّد إسقاطها لتتحطّم فوق جبال الألب وعلى متنها
150 راكباً.
تزامُن مأساة الطائرة مع خروج فيلم سيفرون إلى صالات السينما،
يجعلنا نتساءل إن كان لوبيتز قد شاهد هذا الفيلم قبل أن يقدم على
فعلته، أم أنها محض "صدفة" (وأي صدفة)، ونكاد نميلُ بشدةٍ نحو
الخيار الأول، ونفكّرُ كم هي ساحرة هذه الشاشة الذهبية، وكم هي
مبدعة.. في التدمير. |