في مصر
يشبه الناس مدنهم، بجمالها وقبحها وربما عنادها، وحتى إذا لم يتشرب الأبناء
سمات مدينتهم، فإن الغرباء يدفعونهم إلى ذلك، فيواجهونهم بحفر سماتها على
وجوهم.. أحد هؤلاء الفنان محمود ياسين «البورسعيدي»، ابن «المدينة الحرة»
التي صمدت بأشلائها لثلاثة جيوش عام 1956، وصد صدرها العاري رصاص
إمبراطوريتين مجروحتين تخوضان معركتهما الأخيرة. قدر ياسين أنه مثل مدينته،
لم يرفع الراية البيضاء طيلة حياته، وانتصرت إرادته في جبهات كثيرة كان
عليه أن يقاوم فيها جميعا من أجل الأنقى والأروع.
ولد
ياسين1941 لأب يعمل بهيئة قناة السويس التي تم تأميمها بقرار رئاسي مدوٍ
عام 1956، وهو الحدث الذي لاقى صدى واسعا داخل بيته الصغير مع ترحيب الأب
به والثناء عليه وغرس قيم التمرد على الاستعمار داخل أولاده، قضى ياسين في
مدينته الأثيرة بورسعيد طفولته وصباه، ثم انتقل إلى القاهرة بعد حصوله على
الثانوية العامة للالتحاق بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وهناك اقترب من عشقه
القديم، المسرح، وقدم على خشبة مسرح الجامعة كثيرا من الأعمال التي أنبأت
عن موهبة كامنة، وبعد تخرجه تقدم للمسرح القومي وجاء ترتيبه الأول في ثلاث
تصفيات متتالية، إلا أنه عين عن طريق القوى العاملة بمدينته بورسعيد بشهادة
الحقوق. رفض ياسين التعيين الحكومي واختار الفن، وبدأ حياته في محرابه
بمسرحية «الحلم» التي كتبها محمد سالم وأخرجها عبد الرحيم الزرقاني.
في المسرح
قدم ياسين أكثر من خمسة وعشرين عملا، منها «سليمان الحلبي»، «وطني عكا»،
«الخديوي»، «الزير سالم»، «ليلة مصرع جيفارا»، «ليلى والمجنون»، مستفيدا من
المناخ الحاضن للإبداع المسرحي في ذلك الوقت.
لكن
النجومية الحقيقية لمحمود ياسين تحققت في السينما، فرغم دخوله عالمها على
استحياء بدور محدود في فيلم «القضية رقم 68» للمخرج صلاح أبو سيف، ودور آخر
صغير المساحة في الفيلم الشهير «شيء من الخوف» لحسين كمال، إلا أن انطلاقته
الحقيقية كانت مع حسين كمال أيضا في «نحن لا نزرع الشوك» عام 1970 ليقدم
بعدها أكثر من171 عملا شكلت ملمحا مهما في تاريخ السينما المصرية. طوال عقد
السبعينات من القرن الماضي كان ياسين هو نجم المرحلة وفتاها الأول
سينمائيا، وربما شاركه القمة حسين فهمي كـ«جانات» جدد ورثوا بجدارة مقاعد
أسلافهم «جانات» الستينات، سواء رشدي أباظة وأحمد مظهر بحكم السن، أو عمر
الشريف بحكم الهجرة، إلا أن الفتى الأسمر الطويل ذا الصوت الرخيم كان له
طابع مصري خالص قرب بينه وبين فئات مختلفة من الجمهور بعكس فهمي ذي الملامح
الأوروبية الذي شكل مع (زوزو) سعاد حسني ثنائيا مفضلا لجيل صاعد متمرد يبحث
عن البهجة وسط ركام الأحزان الصاعد من هزائم يونيو (حزيران).
إذا كان
حسين فهمي وسعاد حسني قد بحثا عن النجاة في البهجة التي مثلتها تجربة «خللي
بالك من زوزو»، فإن محمود ياسين، في «الخيط الرفيع» مع فاتن حمامة خطفا
الناس بدراما شجية لا تزال تثير شهية الباحثين عن المتعة السينمائية، وإذا
كان البعض قد أغرقته تجارب رخيصة في فترة ما بين الحربين صور أغلبها خارج
مصر فيما عرف ببداية سينما المقاولات إلا أن ياسين كان عنوان سينما الصمود
والانتصار، فكانت «أغنية على الممر» عام 1968 بجوار العملاق محمود مرسي
رسالة بأنه لا مناص عن تحرير الأرض حتى لو استشهد آخر جندي مصري، كما كانت
«بدور» و«الرصاصة لا تزال في جيبي» من أبرز الأعمال التي سجلت نصر أكتوبر
سينمائيا، للدرجة التي سادت نكتة في الثمانينات تقول إن ياسين هو البطل
الحقيقي لحرب أكتوبر من كثرة عرض العملين وتكرار طلب المشاهدين لهما.
مثله مثل
أبطال أكتوبر من سجل انتصاراتهم، وأبناء بورسعيد، وهو واحد منهم، لا يعرف
محمود ياسين اليأس، فإذا كان في السبعينات بطل المرحلة بأفلام أصبحت علامات
في تاريخ السينما مثل «أفواه وأرانب» و«مولد يا دنيا»، و«الصعود إلى
الهاوية»، و«نحن لا نزرع الشوك» فإنه في الثمانينات استطاع أن يجد له مكانا
على الساحة، وإن تراجع ترتيبه بفعل النجومية المتفجرة لعادل إمام ويونس
شلبي ونادية الجندي ونبيلة عبيد كنجوم للصف الأول، وقدم أعمالا بارزة مثل
«وكالة البلح»، «السادة المرتشون»، «الحرافيش»، وحتى في التسعينات قدم أكثر
من 15 فيلما منها «ليل وخونة» و«تصريح بالقتل»، و«طعمية بالشطة»، و«قشر
البندق»، و«كوكب الشرق»، و«اغتيال فاتن توفيق»، و«فتاة من إسرائيل». وها هو
في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة يزداد توهجا بأدوار مؤثرة رغم
ضمور مساحتها، مثلما تألق في فيلمي «الجزيرة» لشريف عرفة و«الوعد» لمحمد
ياسين.
بجانب
التحدي وقوة الإرادة اللذين تجليا معه في معركتيه القاسيتين من أجل البقاء،
سواء ضد مرض القلب أو ضد التجاهل والذبول، يملك ياسين أسلحة متعددة، فخبرة
السنين وعصارة التجارب والقراءة، زودته برؤية ثاقبة للاختيارات المؤثرة،
ونظرة واحدة لمشهد صغير في فيلم «الجزيرة» يجمعه بأحمد السقا (ولده منصور
في الفيلم) تدل على ذلك، كان يمكن أن يكون (على حفني) مجرد والد تقليدي
لبطل الفيلم، لكن أداءه لمشهد الوصية وهو على حدود الجزيرة، يأبى أن يدخل
نطاق النمطية.
يقول حفني
لولده «يا ولدي انت الكبير والكبير زي الجزيرة أقرب واحد ليه يبقى في البر
التاني»، ثم يبرر له مشروعية تجارتهم في الأسلحة والمخدرات بصوته الرخيم
«يا ولدى كل واحد وله قانونه، تبيع حتة سلاح تبقى إرهابي تبيع ألف تبقى
وزير، يمسكوك بمخدرات تبقى مجرم، وهم بيزرعوه وبيوزعوه على الصيدليات».
بعصارة
السنين كان يدرك ياسين أن المشهد السابق وغيره من مشاهده القليلة في الفيلم
كاجتماعه بكبار العائلات الثلاث في الجزيرة لن يمر عليها المشاهد مرور
الكرام وستؤثر في وجدانه.
مرونة
ياسين التي حمته من عقدة الصف الأول هي نفسها التي مكنته من احترام قرار
زوجته بالابتعاد عن الفن والاعتزال وارتداء الحجاب، لم يصدم بزوجته التي
عرفها أول مرة وهي تستعد لمشاركته بطولة «صور ممنوعة»، ولم يرفض قرارها،
كما لم تصب أسرته بالازدواجية رغم عمل الأب وولديه رانيا وعمرو بالفن
واعتزال الزوجة وتحجبها.
فإذا كانت
روافد الثقافة الرفيعة والموهبة والخبرة والتحدي حافظت على لمعان اسم
ياسين، فإن الاشتباك مع الواقع ومطاردة أزماته أطالت من عمره وزادت من
قيمته، سواء بمساهمته الدائمة في حل أزمات الفنانين من خلال موقعه كرئيس
لجمعية فناني وكتاب وإعلاميي الجيزة، أو كسفير للنوايا الحسنة لبرنامج
الغذاء العالمي.
الشرق الأوسط
06/02/2009 |