مواقف في مسيرة الفتى الشرقاوي
أحمد زكي الذي أعاد الزعماء
إلى الحياة
عماد
النويري
القاهرة/
علاء طه محمد سليمان
البعض يقول عنه انه مجنون فن، ويشبهه البعض الآخر
بروبرت دي نيرو وال باتشينو. وهو مجرد انسان بسيط نشأ وترعرع في غربة اليتيم
لكنه استطاع ان يحول احزانه الى قصيدة شجاعة والى سيمفونية رائعة من الابداع
التمثيلي الراقي. فجأة تعبت خلايا الحياة من الانتظار الطويل ومن قلق الفنان
الاصيل الذي لا ينتهي.
فجأة اصبح نجمنا المحبوب طريح الفراش بعد ان تسربت
خلايا المرض الى جسده المنهك لتحتل مساحات الاشراق والفرح. من قلوب تحبك يا
أحمد زكي نرسل لك باقات الزهور كفنان عربي اثرى الساحة السينمائية العربية
بأجمل الافلام وندعو لك بالشفاء العاجل لتعود الينا قريبا طائرا مغردا على
طريق الفن الجميل.
عماد
النويري
القاهرة ـ علاء طه ومحمد سليمان:
داخل فيللا الرئيس المصري الراحل السادات التي تطل
مباشرة على النيل ازدحم اكثر من مئة فنان «وعامل»، وكانت السيدة جيهان
السادات ترقب ما يحدث، وتتابع سير العمل في الشريط السينمائي الذي يصور حياة
زوجها. فجأة صاح المخرج محمد خان «سكوت» لتصوير احد المشاهد المهمة بين احمد
زكي (في شخصية السادات)، وميرفت امين (في شخصية جيهان). واطبق الصمت على
المكان، ودارت الكاميرا، وبدأ احمد زكي يؤدي دوره الذي بهر الجميع، واستغرق
الجميع في الحوار الذي كان يدور بسلاسة ما بين احمد، وميرفت، وكان يبدو
النقاش بينهما عائليا فقال احمد زكي بنبرة مرتفعة: «يا جيهان».. فاذا بالسيدة
جيهان السادات ترد بشكل عفوي: «نعم يا ريس»، فارتبكت ميرفت امين، وصاح المخرج
CUT
واتجهت الانظار صوب جيهان السادات التي لم تتمالك نفسها وسرعان ما انهمرت
الدموع من عينيها، واتجهت مسرعة نحو السلم، فأسرع اليها احمد زكي يعتذر لها
ويقبل يدها.
وما حدث مع جيهان السادات حدث بصورة مطابقة منذ
سنوات عديدة حينما لعب أحمد زكي في بداية حياته الفنية بطولة المسلسل
التلفزيوني الشهير «الأيام»، فبعد عرض المسلسل اصرت ابنة عميد الادب العربي
الراحل طه حسين على مقابلته مع المخرج يحيى العلمي وهي تبكي وقالت له بالحرف
حسب رواية يحيى العلمي الذي سجلها بقلمه في ذكرياته الفنية قبل رحيله: «أنت
فعلا والدي بشحمه ولحمه، وعندما كنت استعد للقائك كنت اؤهل نفسي لمقابلة
والدي».
لكن الذروة في ادائه كانت شهادة الجمهور له عن
فيلمه «ناصر 56»، فبعيدا عن الايرادات الضخمة التي حققها هذا الفيلم من دور
العرض، فان التصفيق المدوي داخل قاعات العرض كان هستيريا خاصة عندما كان
يتهدج صوته في طبقة قريبة جدا من الزعيم الراحل عبدالناصر، وهو يعلن بميدان
المنشية تأميم شركة قناة السويس.
جمهور عريض
ولعل الحديث عن براعة احمد زكي مسألة مكررة.. فلا
يختلف احد عليه، فعمر الشريف اكد في اكثر من مناسبة ان احمد زكي هو أهم ممثل
مصري في الأعوام الثلاثين الاخيرة. وقال: «خسارة لو عنده لغة انكليزية سليمة
لصار من اشهر نجوم السينما العالمية».
وفضلا عن ذلك لا يزال هو الممثل المصري الوحيد في
جيله الذي له جمهور عريض ما بين النخبة المثقفة وجمهور الشارع، والذي يستطيع
ان يقدم سينما مميزة وجميلة تتناول موضوعات غير تجارية وتحقق الايرادات، هو
نجم شباك لا يقل موهبة عن روبرت دي نيرو او آل باتشينو.. وكلما تقدم في العمر
زاد نضجه ولمعت موهبته - هو حالة استثنائية - لكن الذي لم يتحدث عنه أحد: ما
مفاتيح شخصيته؟ ما مصادر الطاقة بداخله التي تبث كل هذا الابداع؟ ربما يحتاج
الامر إلى تحليل نفسي، وإلى قراءة حياته جيدا، وجمع تفاصيل، وروايات من
المقربين منه الذين عايشوه لحظة بلحظة.
اليتيم في وقت مبكر
موسوعة الممثل المصري تقدم احمد زكي بانه الابن
الوحيد لعائلته، والده توفي بعد ولادته مباشرة، اي انه لم يذق حنان الأب، صار
يتيما في وقت مبكر. وربما زاد من مأساته زواج أمه السريع بعد وفاة والده من
شخص آخر، فأشرف على تربيته جده عبدالرحمن. ولم يكن متفوقا في التعليم فحصل
على الاعدادية بدرجات ضعيفة فالتحق بالدراسة المتوسطة في مدرسة «الصنايع»،
ومن حسن حظ موهبته ان ناظر هذه المدرسة كان يحب المسرح، ولمح موهبة دفينة
داخل هذا الشاب فشجعه على تقديم مسرحيات حفلات المدرسة.
وقام بتلبية دعوة من مجموعة الفنانين المبتدئين
لزيارة القاهرة، ولعل هذه الزيارة غيرت مجرى حياته، فقد التحق بعدها بمعهد
الفنون المسرحية، واثناء دراسته في المعهد شارك في مسرحية «هالو شلبي»، وتخرج
في عام 1973 لتبدأ انطلاقته الفنية. ولك ان تتخيل حياة احمد زكي كممثل ناشئ
صاحب المؤهل المتوسط، يتيم الأب، ابن العائلة متوسطة الدخل. من المؤكد انها
كانت نسيجا من المعاناة والفقر والمصاعب.. وهو ما احتاج منه ان يستنفر كل
طاقاته للخروج من عنق الزجاجة!!
وبمقدار ما كانت خطوات احمد زكي في البداية بطيئة
بمقدار ما كانت ناجحة وكان كل عمل يعلن عن موهبته، ويقدم اقرار نجم من الطبقة
الاولى، وهذا النجاح الذي لم تشبْه وشائج الشللية او العلاقات الخاصة، او
مفاهيم السمسرة، تحول بشهادة الجميع الى حالة من الادمان لتصفيق الجمهور
للمديح، وهو ما جعله قلقا بشكل دائم، اعصابه كأنها سلك كهربائي عار، وهي حالة
مزيج من الخوف والطموح تفسر وحدته وفشله في زواجه، واقامته في الفنادق وتدهور
صحته إلى حافة الخطر.
الثمرة الوحيدة
النجاح هو الثمرة الوحيدة التي كان يلهث وراءها
احمد زكي طيلة مشواره الفني، فلم يدخر مالا، وفي وعكته الحالية لم يسانده سوى
تدخل الرئيس المصري حسني مبارك الذي امر بعلاجه على نفقة الدولة. مدير انتاج
افلامه المقرب منه جدا طارق الشيمي، يقول بوضوح: «احمد زكي لا يمتلك مالا
يذكر لانه يعطي بسخاء شديد، فمع نهاية تصوير اي فيلم يطلب مني كشفا باسماء
العاملين ويوزع عليهم معظم اجره، ولم يصدق احد انه في احدى المرات لم تكف
الاموال التي قرر توزيعها على العاملين فما كان منه الا ان اخذ «عربون» فيلم
لم يكن قد صوره بعد ووزعه على العاملين.. عاش وحيدا ولا يشعر بالراحة الا في
الفندق. وانا ادفع بنفسي فاتورته في الفندق ما بين 40 الى 50 الف جنيه كل
شهر، وهذا المبلغ بسيط جدا بالنسبة إلى مصاريف ونفقات نجم كبير».
ويؤكد طارق الشيمي على ان احمد زكي مريض منذ فترة
وممنوع من تناول انواع عديدة من الطعام، كما انه عصبي للغاية، ويقول: «لكن
على المستوى الانساني مشاعره فياضة يحب الجميع ويساعد اي محتاج».
ويصف احمد زكي بانه عاشق التمثيل ويقول: «يعيش مع
كل فيلم شخصية البطل الذي يجسده، ويتقمصها بشكل غريب، واذكر عند تصوير فيلم
«سواق الهانم» انني ذهبت اليه في الفندق لاصطحابه للتصوير، وكان يرتدي ملابس
السائق واثناء خروجنا شاهد سيارة فاخرة تقف امام باب الفندق، فإذا به يتركني
ويسرع نحو بابها ليفتحه. ونزلت منها سيدة أنيقة، فانحنى لها فأسرعت باخراج
نقود من حقيبتها لتعطيها له كبقشيش لكنها عندما نظرت إلى وجهه عرفته، فتركها
وانصرف وهو يبتسم».
صراحة وصدق
وعلى طريقة أبناء البلد واحاديتهم عن «الجدعنة»
يقول صاحب اكبر مكتب ريجسير في مصر احمد ترك: «أحمد زكي لا يحب ان يضحك عليه
احد، واذا اتفق على شيء يحب تنفيذه من دون زيادة أو نقصان، كما انه لا يحب
«اللف ولا الدوران»، ويحب الصراحة، وتعرفت على طبيعة أحمد زكي من خلال عملي
وانا صغير بجانب والدي الذي عمل مع والدي اكثر من فيلم كان المسؤول فيها عن
الممثلين، والكومبارس، الى جانب عملي انا شخصيا معه في مجموعة من الافلام
اتذكر منها «ضد الحكومة»، و«الباشا» و«الهروب»، و«أيام السادات»، وأخيرا
«معالي الوزير». واحمد زكي لا تفارقه العصبية والانفعال خاصة في وقت العمل
فمثلا في فيلم «ضد الحكومة» اعاد تصوير مشهد المحكمة 17 مرة متواصلة بسبب
كثرة المعجبين به، وما يسببونه من ضوضاء، وكان شديد الانفعال لانه يحب
الهدوء».
ابن البلد
داخل استديوهات مصر هناك اسم لامع مشهور «بابواحمد»
وهو مهندس الصوت المعروف احمد عباس محمد، له خبرة في مجال السينما تزيد عن 30
عاما ـ ومنذ ان كان عمره 15 عاما، بدأ حياته كمساعد صوت، وعن علاقته باحمد
زكي يقول: «عملت معه في ثلاثة افلام «البداية» لصلاح ابوسيف، و«مستر كاراتيه»
للمخرج محمد خان، و«امرأة واحدة لا تكفي» لايناس الدغيدي. وعندما تعرفه عن
قرب تكتشف انه ابن بلد، عندما يدخل الاستديو يتحدث ويضحك مع «طوب الارض» كما
نقول في مصر لكسر الحاجز بينه كنجم وبين العمال وباقي الممثلين، ويحدث هذا في
الايام الاولى للتصوير، ثم بعد ذلك تجد احمد زكي تقمص شخصيته بالفيلم، وعاش
عالمها، وهنا تختلف نبرة صوته.
صوته بطبيعته غير مرتفع، وهذه كانت تمثل مشكلة
لمسؤولي الصوت، فهو لا يستطيع ان يرفع صوته، وكان علينا ان نحصل على نبرته
كما هي، خصوصا انه يخرج الكلام بكل حواسه، هو يشعر بالكلمة اولا ثم يخرجها.
واتذكر في فيلم «البداية» ان مشكلة صوته كانت تسبب لي قلقا شديدا، حيث لم تكن
الاجهزة قد وصلت الى هذا الحد من التكنولوجيا الحديثة، وكنت يوميا افكر في
الطريقة التي تجعلني اسجل الصوت بالذبذبة، والنبرات التي يطلبها المخرج».
اما مهندس الصوت عبدالعزيز عمارة الذي عمل مع احمد
في افلام «الهروب»، و«الرجل الثالث»، و«نزوة»، و«البيه البواب»، و«البرنس»
وجزء من فيلم «ايام السادات» فيروى عن احمد زكي قائلا: «كنا نصور مشاهد فيلم
«البيه البواب»، في منطقة الزمالك، وكان تصوير احد المشاهد امام مدخل
العمارة، واذا بمحصل كهرباء حقيقي يأتي فجأة ويتجه ناحية احمد زكي، ويقول له:
انت يا بواب عايز فلوس الكهرباء. ولم يتوقف التصوير، واذا بأحمد زكي يستمر في
الاداء، ويدفع فاتورة الكهرباء، ويصور المشهد بطبيعته، وبالفعل استخدمت
اللقطة في الفيلم، وكان مشهدا ناجحا، واحمد زكي يأتي من بيته متقمصا الشخصية
التي سيلعبها، ويتعامل مع الجميع على هذا الاساس، فأثناء تصوير فيلم «ايام
السادات» كنا عندما نريد منه شيئا لا نناديه الا بسيادة الرئيس».
ويحكي عمارة عن موقف ثان له مع احمد زكي فيقول:
«في فيلم «الرجل الثالث» مع المخرج علي بدر خان، صورنا احد المشاهد 6 مرات
متتالية، وكذلك الصوت سجلناه 6 مرات، فقلت لهم، ولأحمد زكي افضل تسجيل هو رقم
3، فقال احمد: لا الافضل رقم 4.. فتمسكت برأيي فاذا به يتحداني ويقول: سأحضر
ثلاثة صناديق مشروبات غازية لكل فريق العمل اذا كان رأيي صحيحا، اما اذا كنت
أنت الأصح فستأتي بصندوق واحد.. وشعرت بالخوف ليس من اجل صناديق المياه
الغازية، ولكن من التحدي نفسه لانه فنان كبير ولديه احساس، ولم اتراجع وقبلت
التحدي، وعندما تجمع كل العاملين بالاستديو شعرت بالخوف أكثر، فطلبت من
المساعد الخاص بي تشغيل الصوت، وتركت المكان بعيدا، فاذا بأحمد زكي بعد سماعه
التسجيل رقم 3 يصرخ ويناديني، ويحضنني، وهو سعيد بنجاحي، ودقتي.
أهدر صحته بالكتمان
على ان احمد زكي الموجوع حاليا بآلام العلاج
الكيماوي لسرطان الرئة ساهم الى حد كبير في اهدار صحته بالكتمان والصبر على
الآلام، فقد ظل يعالج نفسه بنفسه على ان ما لديه نزلة برد لعدة ايام. وهو امر
فعله قبل ذلك العديد من المرات إلى درجة ان حمام غرفته في احد فنادق الخمس
نجوم مليء بعشرات علب الادوية المبعثرة في كل مكان (على حد وصف صديق مقرب له)
وكان يتناول من دون استشارة الطبيب ما يشاء من ادوية.
وقد كان حريصا على اخفاء تقريره الصحي لانه يخاف
ان يشفق احد عليه، ولديه اعتزاز كبير بالنفس وهذا يعرفه كل المقربين منه..
على ان الغريب والمدهش امران: الاول قبل اصابته بهذه الوعكة بأيام استدعى احد
الكتاب المعروفين وهو صديق له واملاه وصيته، وطلب منه عدم الكشف عما فيها الا
بعد رحيله.
والثاني ما يرويه مساعده في الانتاج طارق الشامي
اقرب شخصية له اثناء تصوير احمد زكي لفيلم «ايام السادات»، حيث يقول: «كنا
نصور مشهدا في مستشفى القصر العيني القديم، داخل قسم الباطنة وهو مستشفى كل
مرضاه من الفقراء غير القادرين على العلاج، فجلس احمد زكي على سرير احد
المرضى لتصوير المشهد، واذا به يناديني هامسا، وعندما اقتربت منه قال لي
بهدوء شديد: تعرف انا سأموت على هذا السرير، وستجمعون لي المال لعلاجي،
ودفني» فبكيت وحاول التخفيف عني ثم انصرف. لكني للان لم انس كلامه!!
في برنامج خاص عن دوره الاجباري مع المرض
أحمد زكي: أحلم بفيلمين أعتزل بعدهما اختياريا
ظهر احمد زكي بمعنويات مرتفعة للغاية على شاشة
الفضائىة المصرية الاولى والقناة الاولى الارضية في حلقة خاصة من برنامج
«ليلتي» اذيعت مساء امس الاول.
تحدث عن احلامه ما بعد الشفاء، فقال انه يريد ان
يمثل دورين فقط في مسيرة الكبار وبعدها يعتزل، الدور الاول عن الضربة الجوية
الاولى في حرب اكتوبر 1973 ودور اللواء حسني مبارك، قائد القوات الجوية
حينها، والدور الثاني عن مسيرة الزعيم الوطني سعد زغلول.
وعن مرضه اجاب: «انه الدور الوحيد في حياتي الذي
لم اختره وعليّ ان أعايشه مرغما. الميزة الوحيدة لهذا المرض انه كشف لي حب
وتقدير الناس ابتداء من الرئىس المصري الى كافة الجماهير المصرية والعربية».
واكد ان اول مشروع سيعود به بعد استقرار حالته هو
فيلم «رسائل البحر» تأليف واخراج داود عبدالسيد. واعتبر احمد زكي فيلم «ارض
الخوف» وهو لداود ايضا، من اهم افلامه في السنوات الاخيرة، حيث رشح للاوسكار،
لكنه حتى الان لم يحظ بالمكانة التي يستحقها.
واشار الى ان غالبية افلامه تلقي الضوء على مشاكل
ومعاناة البسطاء والضعفاء، وضرب امثلة على ذلك بأفلام «الحب فوق هضبة الهرم»،
«الهروب»، «البيه البواب».
يذكر ان حلقة «ليلتي» مع احمد زكي جاءت بطلب شخصي
من وزير الاعلام صفوت الشريف، الذي اقنع الفنان المريض بأهمية ظهوره في
البرنامج لكي يطمأن الجمهور على حالته الصحية.
|