نجوم خارج دائرة النسيان: أحمد زكي
حطم مقاييس النجومية فأصبح
فناناً فوق العادة
عاطف
النمر
اليتم جعل حياته ميلودراما تتطابق مع أسطورة العندليب !!
-
طعنات زملائه ومرارة الغربة دفعته لتحدي الإدمان والاكتئاب
-
لا يهاب الخطر ويرفض الاستعانة بدوبلير لتحقيق الصدق
-
لم يتلوث بعقد العظمة وهستريا الشهرة فاتهموه بالغرور !!
مما لا شك فيه أن القراءة المتأنية لمشوار النجم
الأسمر أحمد زكي سوف تنتهي بنا إلى أنه يشكل حالة استثنائية في تاريخ السينما
العربية، ويشكل أيضا حالة إنسانية فريدة لكل من عرفه عن قرب ، والحالتان لم
تنبعا من فراغ ، فوراء كل منهما مشوار طويل من الألم والقهر واليتم والتيه
والدموع ، انصهرت جميعها في بوتقة من الصدق فأفرزت لنا فنانا جميلا قلبا
وقالبا ، وإنسانا نقيا تلقى من الطعنات والشائعات والحروب الخفية والمعلنة ما
يهد الجبال ، ولكنه بالصبر تغلب على معاناة الاكتئاب الذي أدى به في مرحلة
إلى السقوط في الإدمان ، وبقوة الإرادة خرج من هذه المرحلة بعد رحلة العلاج
في لندن ، بالصبر أيضا أظهر ما لديه من عبقرية في قهر المستحيل ، فأفرز على
الشاشة العربية فنا راقيا جعله يتربع على قمة النجومية رغم أنف الجميع ،
لينال تقدير النقاد والجماهير العريضة التي عبر عن أمالها وأحلامها وآلامها
وطموحها ، فنان أحب الفن للفن فأخلص له ، ولم يكن مثل بقية الأدعياء الذين
اتهموه بالغرور ووجهوا له السهام الطائشة غير عابئين بشفافية نفسيته التي
تتسم ببراءة الأطفال ونقاء أهل الريف البسيط .
أجتاز أحمد زكي كل ذلك بفنه وإنسانيته التي لا
تعرف الحقد وتكره الغل ، ها هو القدر يفرض عليه حربا جديدة مع عدو خفي جاء
فجأة لينهش في جسده دون إنذار أو مقدمات ، ها هو أحمد زكي الذي قهر الأدوار
الصعبة والشخصيات المركبة يرقد الفراش الأبيض يحيط به فريق من الأطباء ،
وتحيط به قلوب الملايين من محبي فنه الراقي في العالم العربي ، داعين له بقوة
الصمود لقهر سرطان الرئة اللعين !!
(اللقاء الأول)
كنت في زيارة لسعيد صالح بكواليس مسرحية (مدرسة
المشاغبين) ، في طريقي للخروج شاهدته - لأول مرة - جالسا بمفرده في غرفته
الصغيرة الضيقة في سكون غريب ، شارد الذهن يفكر في شيء بعيد ، قطعت عليه
خلوته ، تعارفنا في عجالة ، أيقنت يومها أن هذا الشاب الأسمر النحيل في حياته
أشياء كثيرة تتسم بالغموض، ودود ، لطيف ، مهذب ، خجول ، قليل الكلام
،ابتسامته مريحة ، عيناه اللامعتان تنطقان بشعور الغربة من الناس والمكان وكل
المحيطين به ، ترك في نفسي انطباع بأنه انعزالي يفضل الوحدة ، يشاهد ما يدور
حوله دون أن يشارك فيه ، جاء من يهمس في أذني بأنه إنسان معقد ومغرور، من
يومها أحسست بالحرب التي بدأ البعض شنها عليه ، مع أنه لم يكن يشكل خطورة ما
على غيلان الضحك الذين يقف بجوارهم على خشبة المسرح ، فهو ليس منهم وله
مفهومه الخاص في الكوميديا التي تنبع من الموقف وليس من التهريج الرخيص ،
ودوره الصغير الذي يؤديه في المسرحية يستدر العطف والتعاطف مع الشخصية
البسيطة المطحونة التي يؤديها بصدق المطحون في حياته .
عن هذه الفترة يقول أحمد زكي :
- (جئت إلى القاهرة وأنا في العشرين من عمري ،
التحقت بمعهد الفنون المسرحية وفي داخلي زحام من الطموح والمعاناة التي
عرفتها في الوسط الفني لصعوبة التجانس مع من يعملون به، فأنا إنسان بسيط قضيت
معظم سنوات عمري في الزقازيق وسط أناس بسطاء لم يتلوثوا بعقد العظمة أو
هستيريا الشهرة . تعبت من الانتظار والوعود والآلام والأحلام والأفلام التي
لا تأتي .... وفجأة ، توقفت مع نفسي في يوم عيد ميلادي الثلاثين ، ونظرت إلى
السنوات التي مرت من عمري دون أن أنجز شيئا مما كنت أحلم به ، أحسست أنني
سرقت .. احباطات القاهرة سرقت من حياتي عشر سنوات كاملة. وعندما يكبر اليتيم
مثلي تختلط الأشياء في نفسه .. الابتسامة بالحزن ، والحزن بالضحك، والضحك
بالدموع! فأنا إنسان سريع البكاء ، لا أبتسم ، لا أمزح . أدخل السينما لأشاهد
ميلودراما من الدرجة الثالثة فأجد دموعي تسيل ، عندما أخرج من العرض وأبدأ في
تحليل الفيلم ، قد أجده سخيفاً فأضحك من نفسي ، لكني أمام المآسي أبكي بشكل
غير طبيعي ، أو ربما هذا هو الطبيعي ، إذ أن من لا يبكي هو في النهاية إنسان
يحبس أحاسيسه ويكبتها !! )
( هو والعندليب )
استطاع أحمد زكي بصدقه الفني أن يهز الدنيا ،
ويخلخل عروش النجوم ويغير من مقاييس النجومية المألوفة عندما أثبت أنها لم
تعد حكرا على الممثل الوسيم ذي الشعر الأصفر والعيون الزرقاء ، وهو بذلك يكرر
أسطورة عندليب الغناء الراحل عبد الحليم حافظ الذي تكاد حياتهما أن تصل إلى
حد التطابق ، فهما أبناء محافظة واحدة هي محافظة الشرقية ، وكل منهما عانى في
طفولته من اليتم والحرمان العاطفي ، كل منهما جاء إلى القاهرة بغربة الفلاح
الفطري بحثا عن قدم ومكان تحت الشمس ، وسط غيلان من النجوم الكبار الذين
تربعوا على القمة ولا يريدون لأحد أن يزاحمهم عليها ، كل منهما بصدقه وتمرده
وصبره نجح في تغيير كل المعادلات الثابتة والساكنة ، فغير عبد الحليم من
مفهوم الغناء التقليدي ، وجاء أحمد زكي ليغير من مفهوم التشخيص السينمائي ،
ومن مصادفات القدر أن كل منهما ارتبط عاطفيا وفنيا بسندريلا السينما الراحلة
سعاد حسني ، التي أحبها حليم ووقف إلى جوارها في بداياتها ، وأحبت هي أحمد
زكي وقدرت موهبته ووقفت إلى جواره في بداياته وأصرت على أن يشاركها بطولة
فيلم (شفيقة ومتولي) ومسلسل (هو وهي) وفيلمي (موعد على العشاء) و (الدرجة
الثالثة) الذي لم يكتب له النجاح الجماهيري!!
(ميلودراما القدر)
وصف لي أحمد زكي حياته بأنها ميلودراما من نمط
الأفلام التي كان يقدمها مخرج الروائع حسن الأمام ، تبدأ هذه الميلودراما
الفاجعة التي خطها له القدر منذ ميلاده بمدينة المنصورة بمحافظة الشرقية في
عام 1949 ، لم يكمل عامه الأول حتى رحل والده عن الدنيا فلم تحتفظ ذاكرته
بقسمات وجه الأب ، وتزوجت والدته بعد رحيل الأب بفترة قصيرة جدا،
ويسترجع أحمد هذه الفترة فيقول :
- (أمي كانت فلاحة صبية ، لا يجوز أن تظل عزباء ،
فزوجوها وعاشت مع زوجها ، وتربيت أنا في بيوت العائلة ، بلا أخوة . رأيت أمي
للمرة الأولى وأنا في السابعة من عمري !!.. ذات يوم جاءت الى البيت إمرأة
حزينة جداً ، رأيتها تنظر اليّ بعينين حزينتين ، ثم قبلتني دون أن تتكلم
ورحلت . شعرت بإحتواء غريب . هذه النظرة الى الآن لا تفارقني .
في السابعة من عمري أدركت أنني لا أعرف كلمة أب أو
أم ، والى اليوم عندما تمر أمامي كلمة بابا أو ماما في حوار بمسلسل تليفزيوني
أو فيلم سينمائي ، أشعر بحرج شديد ويستعصي عليّ نطق الكلمة بسهولة !! ) .
من هذه اللحظة تجذرت في داخله شجرة الإحساس باليتم
والغربة وتغلغلت في كل تفاصيل حياته ، أصبحت الغربة من العلامات المميزة التي
تقرؤها بسهولة في عينيه ، فعاش في سكون يرقب ما يجري من حوله دون أن يشارك به
، أصبح التأمل مغروساً في وجدانه بعمق ، فصار خاصية تلازمه في كل أطوار حياته
. لم يضحك بما فيه الكفاية ، ولم يبك بما فيه الكفاية .. ولكنه صمت بما فيه
الكفاية . وحين أراد أن يهرب الى الكلام ، وجد في المسرح المدرسي المتنفس
الذي يفرغ فيه مشاعره المكبوتة ، أراد بعقله الباطن أن يهرب من وحدته بأية
طريقة ، أراد أن يهرب من الحزن لقهر الشعور باليتم كانت قدماه تتآكلان وهما
تأكلان أرصفة الشوارع ، أصبح زبونا لمقاعد الدرجة الثالثة في دور السينما ،
ظن أنه كبر قبل الأوان . ساهم في ذلك شعوره المتواصل بأن هناك صدام متواصل
بينه وبين العالم الخارجي المحيط به .
مازالت هذه الفترة محفورة في ذاكرته ويترجمها بعفوية حين يقول :
- (في العاشرة كنت وكأنني في العشرين .. في
العشرين شعرت بأنني في الأربعين . عشت دائماً أكبر من سني ... فعندما كنت
طالباً في مدرسة الزقازيق الثانوية ، كنت منطويا جداً على نفسي ، و لكن
الأشياء مازالت مطبوعة في ذهني بطريقة عجيبة ، من حيث تصرفات الناس
إبتساماتهم ، سكوتهم . من ركني المنزوي ، كنت أراقب العالم فتراكمت في داخلي
الأحاسيس وشعرت بحاجة ملحة لكي أصرخ ، لكي أخرج ما في داخلي . فكان التمثيل
هو المنفذ الوحيد أمامي ، لتفريغ ما بداخلي من دوامات القلق التي ما تزال
تلاحقني ، أصبح المسرح المدرسي هو بيتي الحقيقي . رأيت الناس تهتم بي وتحيطني
بالحب ، فقررت أن يصبح هذا العالم الساحر هو مجالي الطبيعي .فإشتركت في
مهرجان المدارس الثانوية ونلت جائزة أفضل ممثل على مستوى الجمهورية . عندها
سمعت أكثر من شخص يهمس (الولد ده إذا أتى القاهرة ، يمكنه الدخول الى معهد
التمثيل) . كانت القاهرة بالنسبة لي مثل الحجاز ، في الناحية الأخرى من
العالم !!
(السنوات الصعبة)
السنوات الأولى في القاهرة كانت تشكل له صداما آخر
مع عالم آخر غريب عليه .. وصفها بأنها سنوات صعبة ومثيرة في ذات الوقت ،
سنوات شكلت جانبا آخر في تعامله مع البشر ، وجذرت أيضا من شعوره بمزيد من
الغربة واليتم ، كلماته تشرح ذلك بكل عفوية وبساطة عندما يقول :
- (ثلاثة أرباع طاقتي كانت تهدر في البحث عن أسلوب
مناسب أتعامل به مع الناس ، والربع الباقي من طاقتي كان للفن . الساعات التي
كنت أقضيها في كواليس المسرح كانت بالنسبة لي أصعب من العمل على الخشبة. كم
من مرة شعرت بأنني مقهور ، صغير ، معقد ، لعدم تمكني من التفاهم مع الناس .
هكذا كنت أشعر وكنت أسمعهم يقولون عني ذلك ، أحسست أنني أعيش في وسط غريب ،
الوسط الفني .. مشحون بالكثير من النفاق والخوف والقلق ..كنت أشاهد الناس
تسلم على بعضها بحرارة وما ان يدير أحدهم ظهره حتى تنهال عليه الشتائم . مع
الوقت ، أدركت أن الناس في النهاية ليست كلها بيضاء أو سوداء النفسية ، إنما
هناك المخطط والمنقط والمرقط.. أشكال وألوان !! )
.
( مغرور ومعقد !!)
لم يكذب أحمد زكي فيما قال ، فقد عرفته وتعرفت
عليه في هذه الفترة ، سمعت زملاءه يقولون عنه أنه مغرور ومعقد ، شاهدته يعيش
في وحدته بعيدا عن الاندماج مع الآخرين ، تركيبته وفطرته السليمة وظروفه
الصعبة ، وصدمة العالم الخارجي المحيط به جعلته يبتعد ليرصد ويتأمل ويراقب ،
لم يكن أحد يدري ما يدور في داخله من مشاعر وأحاسيس وأحلام وطموح وثقة بالذات
فسرها البعض على أنها عقد وغرور ، لم يقدر أحد من زملائه أنه إنسان يذوب رقة
وخجلاً . يحدث المرأة فلا يتطلع لعينيها أو لوجهها . ويحدث الكبار باحترام
شديد ، ويعامل أقرانه بمودة متناهية ، لهذا فأحمد زكي من نوعية البشر الذين
يعترفون بفضل الآخرين ، ولا ينسى أبدا من مد له يد المعونة الأدبية في يوم من
الأيام ، فهو حتى الان مازال يذكر بكل فخر واعتزاز المواقف النبيلة التي
أبداها تجاهه الكاتب والمنتج سمير خفاجي صاحب فرقة الفنانين المتحدين الذي
سمح له بالمبيت في الغرفة الضيقة الصغيرة بكواليس المسرح لحين تدبير مسكن له
، ولا ينكر ولا ينسى فضل المعونة الأدبية التي قدمها له الشاعر الراحل الكبير
صلاح جاهين ، الذي كان يعتبره بمثابة الأب الروحي له ، والذي تنبأ له بأنه
سوف يحتل مكانة فنية غير مسبوقة سوف تتوجه على القمة بلا منازع ، كان صلاح
جاهين بالنسبة له بمثابة البلسم الشافي الذي يخفف عنه ما يشعر به من قهر
والآم ومعاناة في عدم فهمه وتأقلمه مع نوعيات معينة من البشر والزملاء الذين
تعودوا على تجريحه والتشنيع عليه .
( طاقة الاكتئاب !! )
لا أخفي سرا إذ ما قلت أن الاكتئاب الذي أصيب به
أحمد زكي في هذه الفترة الصعبة من حياته كان وراءه عوامل كثيرة ولكن من أهمها
الواقع المر الذي وجد نفسه فيه، والوسط الفني الذي لم يكن يتصور أنه بهذه
الصورة التي جعلته يعيد حساباته في تعامله مع البشر ، وفرضت عليه الوقوف مع
نفسه وكأنه البطل الشكسبيري ( هاملت ) الذي اتخذ منه عبارته الشهيرة ( أكون
أو لا أكون .. تلك هي المشكلة ) ، فإما أن يكون أحمد زكي كما يريد ، وإما أن
يضيع في هذا العالم غير الإنساني ، فلم يكن أمامه من سبيل سوى التحدي وقهر كل
ما يقابله من مستحيل دون أن يتخلى عن نقائه وفطرته ، وهذا ما جعله ينظر إلى
الاكتئاب بمفهوم آخر يفسره في قوله :
- (المثقفون يستعملون كلمة اكتئاب ، ربما أكون قد
عانيت من هذا بفعل أشياء كثيرة لا ذنب لي فيها ، وأعتقد أنني شديد التشاؤم
وشديد التفاؤل أيضا .عندما أنزل إلى أعماق اليأس ، أعثر على أشعة ساطعة للأمل
. لدي صديق ، عالم نفساني ، ساعدني كثيراً (في هذه الفترة ) وأكد لي أن كل ما
عانيته يرجع إلى طفولتي اليتيمة ، أيام كان هناك ولد أسمه أحمد زكي يود أن
يحنو عليه أحد ويسأله ماذا بك ؟ !! ) .
من هنا تغيرت نظرة أحمد زكي للعالم المحيط به ،
أصبحت له رؤية واقعية لا تصطدم بما لديه من مثاليات أساسية ، هذه الرؤية هي
التي شكلت فيما بعد اختياراته الفنية ، إذ أصبح الإنسان هو همه الأول ،وقد
فسر لي ذات مرة تلك الرؤية بقوله :
- ( أنا لا أجيد الفلسفة ولا العلوم العويصة ..
أنا رجل بسيط لديه أحاسيس يريد التعبير عنها .. لست رجل سياسة ولا ارتبط بنهج
سياسي معين ، ولا أحمل أو أؤيد أيديولوجية خاصة ، أنا ممثل يبحث عن وسائل
للتعبير عن الإنسان . فالإنسان في هذا العصر يعيش وسط عواصف من الماديات
والجنون ، السينما لدينا مازالت تتطرق إلى هذا الإنسان بسطحية . لقد أصبح
هدفي هو إبن آدم ، تشريحه ، السير وراءه ، ملاحقته ، هدفي هو الكشف عن
الإنسان بكل متناقضاته ، أي إنسان ، إذا حلل بعمق يشبهني ويشبهك ويشبه غيرنا
.. المعاناة واحدة .. الطبقات والثقافات عناصر مهمة ، لكن الجوهر واحد .
الجنون موحد .. عالمنا المعاصر عالم حروب وأسلحة وألم وخوف ودمار ، العالم
كله غارق في نفس العنف ونفس القلق . والإنسان هو المطحون . ليس هناك ثورة
حقيقية في أي مكان من العالم .. هناك غباء عام وإنسان مطحون)!!
( فلسفة فنان !!)
أحمد زكي يتكلم بعفوية دون أن يدري أن وراء ما
يطرحه فلسفة عالية جدا ، ورؤية واضحة تشكل ما يعتمل في عقله الباطن ، تلك
الرؤية التي دفعت به إلى تحديد اختياراته للنماذج البشرية التي سعى الى
تجسيدها على الشاشة بصدق يحسد عليه ، وبعبقرية يندر أن تتكرر لفنان آخر ،
فعرف بتمرده كيف ينتقل من دور إلى آخر بحثا عن تشريح أبن آدم الذي تحدث عنه
وفق رؤيته ، فكان الفلاح الساذج الطيب المضحوك عليه في فيلم (البريء ) الذي
صدق أن المسجون السياسي الشيوعي هو عدو لله والوطن ، وأدرك بحسه الفطري
الخديعة فثار وتمرد ، وهو مقتنص الفرص الهائم على وجهه في فيلم (أحلام هند
وكاميليا ) ، وأبن الحي الذي وقع في الهوى ولكنه لخجله يحجم عن التعبير عن
مشاعره في فيلم ( كابوريا ) ، وهو ضابط مباحث أمن الدولة القاسي الذي يفهم حب
الوطن على طريقته في فيلم ( زوجة رجل مهم ) ، وهو الموظف المطحون التائه في
خضم المجتمع الذي يعاني من الكبت الجنسي في فيلم ( الحب فوق هضبة الهرم ) ،
ذلك المجتمع الذي شبع من الشعارات الثورية الكاذبة ، والأقلام المخدرة التي
تزييف الواقع والحقيقة ، وهو الصعيدي الباحث عن حقه الذي يكشف تلاعب أجهزة
الأمن بمصير البسطاء على حساب الحقيقة في فيلم ( الهروب ) .
( الطبقات المهمشة )
كل هذه الشخوص وغيرها من الشخوص الأخرى التي قدمها
لنا بمفهوم الجراح الذي يمسك بمشرط التشخيص ، لم يقدمها بسطحية السينما
المعتادة ، إنما قدمها وفق مفهومه الذي طرحه في السطور السابقة ، لقد خلص
أحمد زكي السينما من شخصية الأفندي الرومانسي المتأنق الذي ينتقي كلماته من
كتب الشعر والرومانسية ، لإدراكه الواعي بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية
والثقافية التي همشت طبقات اجتماعية لم يكن لها وجود على الشاشة ، فبحث عنها
وعاشها وصادقها وأفرزها بأداء عبقري ومفهوم إنساني بحت يهدف منه إلى كشف كل
الملابسات التي تؤدي لقهر الإنسان على كافة المستويات بدأ من فيلم ( طائر على
الطريق ) الذي نال عنه أول جائزة سينمائية ، وصولا إلى فيلم ( أيام السادات )
الذي نال عنه وسام الفنون والآداب من الدرجة الأولى بتكريم من الرئيس مبارك
شخصيا .
( فنان المشاهير )
بعيدا عن الخط الذي انتهجه أحمد زكي لتحدي نفسه
وتحدي الآخرين في تجسيد شخصيات الزعماء والمشاهير بداية من عميد الأدب العربي
طه حسين في ( الأيام ) والرئيس عبد الناصر في فيلم ( ناصر 56 ) والرئيس
السادات ، وبقية المشاريع الأخرى التي كان يضعها في أجندته لتجسيد شخصية عبد
الحليم حافظ في فيلم ( العندليب ) والمشير عبد الحكيم عامر ، والعالم المصري
العالمي أحمد زويل ، وشخصية الرئيس مبارك في فيلم ( الضربة الجوية ) ، بعيدا
عن هذا النهج الذي لم يختطه فنان أخر يخشى أن يضع نفسه في محك المقارنة مع
تلك الشخوص التي لها رصيد حي في أذهان ووجدان الناس، تبقى أهمية أحمد زكي في
تجسيد شخصيات الطبقة الفقيرة المهمشة ، فهو في كل مرة يقدم لنا وجهاً أكثر
صدقاً للمصري الأصيل في صراعه مع الحياة المحيطة به بداية من (البيه البواب
والباطنية ،ثلاثة في مهمة رسمية ، الهروب ، شادر السمك ) وغيرها من الأفلام
التي أحتفظ فيها بميزة التعبير عن الإنسان ذي المرجعية الشعبية .لقد أدرك
أحمد زكي بحسه وذكائه الذي ينكره على نفسه في أحيان كثيرة ، إن القدر قد جاء
به في فترة تغيرت فيها نوعية جمهور السينما ، الذي أصبح غالبيته من الكادحين
، وأحمد زكي نفسه هو أحد هؤلاء الكادحين ،فجاء إليهم الفتى الأسمر الذي لا
يعتني بملبسه ولا يذهب إلى الكوافير لفرد شعره الأشعث المجعد . فهو وأن كان
قد جاء للقاهرة مفتونا بالنجم الوسيم رشدي إباظة ، إلا أنه أراد أن يرسخ
مفهوما آخر للنجومية لا يعتمد على وسامة أنور وجدي وكمال الشناوي وحسين فهمي
بقدر ما يعتمد على روح وإنسانية الشخصية التي يؤديها ، في مقابل مرارة الواقع
الذي تعيش فيه وتصارعه ، فهو أراد أن يصل بنا إلى النماذج العادية لأشخاص
عاديين نقابلهم ونتعامل معهم كل يوم في الطريق.
( بدون بديل !! )
يبقي أن أقول أن من أهم مميزات الصدق عند أحمد زكي
وحبه الشديد لمهنته ، رفضه الدائم بأن يقوم عنه (دوبلير) أو بديل بأدوار
المشاهد ذات الطبيعة الخطرة مثل بقية الممثلين الآخرين ، فقد شاهدته أثناء
تصوير فيلم (عيون لا تنام) وهو يحمل أنبوبة غاز مشتعلة غير عابئ بالخطورة
التي من الممكن ان يتعرض لها ، ومن قبلها ألقى بنفسه من سيارة مسرعة في فيلم
(طائر على الطريق) ورفض أن يقوم بذلك الدوبلير أو البديل المدرب على مثل تلك
المشاهد الخطرة ، ويعتقد أحمد زكي بأن عدم استخدام البديل يعطي الفنان قدرة
أكثر على المعايشة والصدق، وهذا الاعتقاد هو ما دفعه على أن ينام في ثلاجة
الموتى بعد أن أسلم نفسه للماكيير الذي دهن وجهه بزرقة الموت كما يقتضى دوره
في فيلم (موعد على العشاء) . و بقي في الثلاجة إلى أن دخلت عليه بطلة الفيلم
سعاد حسني لتكشف عن وجهه وتتعرف . لقد أعاد المخرج تصوير المشهد أكثر من مرة
، مما استلزم إقفال الثلاجة عليه عدة مرات فلم يغضب ولم يتبرم إيمانا منه بأن
اللقطة التي لا تستغرق أكثر من بضع ثوان على الشاشة لابد أن تكون مقنعة
للمتفرج . وفي فيلم (طائر على الطريق) رفض استخدام الدوبلير عندما طلب منه
المخرج محمد خان أن يستعين بالبديل في مشهد السباحة ، وكان أحمد زكي وقتها لا
يجيد السباحة ، فطلب تأجيل التصوير لمدة شهر أختفى خلاله عن الأنظار ، دعى
بعده محمد خان على الغذاء في النادي الأهلي. وأثناء جلوسهما هناك ، ذهب إلى
غرفة الملابس ، وأرتدى المايوه .. ثم حيا المخرج خان .. وقفز في حمام السباحة
وقام بعبوره عدة مرات بحركات فنية .
وعندما خرج من الماء قال لمحمد خان : لقد ظللت
أتدرب هنا 15 يوماً !!
هذا هو أحمد زكي الذي لو تحدثنا عنه فلن ننتهي ، هذا هو الفنان الذي عانى
وتعذب كثيراً من أجل توصيل ما يحمله من أفكار للناس ، ومن أجل ما يقدمه لهم
من متعة بصرية وسينما راقية تخاطب عقولهم ولا تخاطب غرائزهم ، فنان فرض نفسه
وموهبته وعبقريته ببساطة وصدق يحسد عليهما ، فنان تلتهب أعصابه وتتوتر كل
مشاعره ، ويصيبه الأرق إلى إن ينتهي من عمله ، فيترك ما أنجزه لحكم الناس
ويظل في نفس القلق إلى أن تأتيه ردود الأفعال وكأنه بعد كل هذه الرحلة
الطويلة وهذا المجد الذي وصل إليه مازال في بداية المشوار، فنان قل أن تجد
مثيله وسط هذا الكم الهائل من الممثلين .. إنه حقاً فنان عالمي !!
فدعوا له معي بسرعة الشفاء والنهوض من فراش المرض
.
|