أحمد زكي.. العصامي الجريح الذي نقل فلسفة المهمشين لشاشة
السينما
أحمد فوزي سالم
كان طول حياته يرتاح للوحدة، عشق دائما الانفراد بذاته، في
صباه أدمن هوس الفرجة على نفسه، وجعل من تجارب حياته الصعبة عناوين بارزة
يعكسها على كل مشهد، يقوم بتمثيله أمام أصدقائه ومحبيه، هكذا بدأ النجم
أحمد زكي مشوار النجومية، قبل أن ينهي الموت مسيرة كفاحه، في مثل هذا اليوم
من عام 2005.
هو عصامي بامتياز، تحكي سراديب قصة حياته، سر تعثره الدائم
في خجله على الشاشات، إذ لم يكن يجد حرجًا في تفسير خبايا تركيبته الشخصية،
ما بين انطوائية يفسرها بطريقته، وخوف من كواليس ماض محمل بالعجز والشجن،
وأوهام تمرد عليها، ليخرج منها متوحشا في الفن، يجسد كل الأدوار، ويبدع في
كل الشخصيات.
https://www.youtube.com/watch?time_continue=1&v=mYpnfPVQfwM
رحل والده زكي عبد الرحمن، قبل أن يولد، ذاق مرارة الفقر،
ولم تجد والدته مفرًا من الزواج مجددًا، ليعيش «زكي» طفولة قاسية، جعلته
يتنقل بين منازل أقاربه، من أخواله إلى أعمامه، أجواء تعشش فيها المشاعر
الباردة، والانغلاق على الذات، وكأن القدر يعده بكل هذه الآلام ليصبح
«مشخصاتي» من العيار الثقيل، بحسب تعبير الدكتور وليد سيف الناقد والكاتب.
عطلت ظروفه المادية مساره التعليمي، فحصل على دبلوم صنايع،
ولم يجد فيه نفسه، لا يمثله ولا يقترب منه في شيء، فطار على القاهرة، وهناك
التحق بمعهد التمثيل، وجد راحته وكأنه كان مريضا بالفن، وعرف أين العلاج.
في الاحتفال بألفية القاهرة، سبعينات القرن الماضي، لجأ
المخرج الألماني، أرفيل لاستر، إلى معهد التمثيل، واستعان بعشرين طالبًا،
للاشتراك في بعض المشاهد الصامتة، وقع اختياره على أحمد زكي، ليتفاجأ بحجم
موهبته الضخمة، ويقرر على الفور تصعيده ليصبح نجم العمل الأول، وهو في عامه
الأول بالمعهد، كانت مفاجأة كبرى، ولكنها اصطدمت بجبل البيروقراطية
والروتين المصري العتيد.
رفض مدير مسرح البالون آنذاك، الفنان سعيد أبو بكر،
الاختيار الألماني، واعتبر الشاب الصاعد «عضمة طرية» لا تستحق هذه المكانة
السريعة، وكانت أولى الضربات للفهد الأسمر في قاهرة المعز، ليعود إلى دوره
القديم بالمسرحية كأحد جنود المماليك، ويلقى جملة واحدة فقط، يتلقفها
المخرج سعد أردش، ويقررها بوابة عبور، لاختياره ضمن فناني مسرحية هالو
شلبي، مع الكبار سعيد صالح، وعبد المنعم مدبولي، ومنها فرض موهبته، على
"مدرسة المشاغبين" وقدم فيها دورًا صورة بالكربون من لمحات شخصيته
الحقيقية، وكواليس حياته، فخرج الدور ببراعة لا مثيل لها بشهادة النقاد
ورواد الفن.
كان «زكي» يبدع في الإلمام بالتفاصيل النفسية والإنسانية،
يبحث بعناية في القشور الفيزيائية للدور الذي يقدمه، ويضبط إيقاعه على
مزاجه النفسي، فيخرج كل دور وكأنه يحكي ملمحا من حياته هو، وكانت هذه
الملكات سر اختياره بشكل شخصي من الرئيس الراحل أنور السادات قبل رحيله،
لتمثيل بطولة رواية تجسد أحداث كتابه الأشهر البحث عن الذات، بعد أن شيد
فنه الراقي تلال من المحبة بينهما، وخاصة دوره في مسلسل الأيام، الذي عُرض
عام 1879، لدرجة أن السادات توحد مع شخصية زكي/ وأصبح يراه يجسده هو وليس
طه حسين.
https://www.youtube.com/watch?time_continue=2&v=PiJIxtvn0mU
في آخر كلام إنجي أنور تحاور أحمد زكي
عصامية زكي، وتركيبته الثقافية والفكرية، جعلته يرتبط بما
يسمى بـ«فلسفة القنافذ»، يتقرب من الناس بحسابات شديدة، شجاع حد التهور
والاندفاع، ما يكلفه الكثير، فيعود إلى القوقعة، تجنبا لجرح حساسيته
المفرطة، ولا يخلص إلا للفن وحده، فحصن نفسه من بريق النجومية الزائف، ولم
يقع في فخاخ سينما المقاولات، التي اجتاحت مصر في سبعينات وثمانينات القرن
الماضي، حتى أصبح مدرسة خاصة في التشخيص، يجمع بين المصداقية والحرفية في
إطار من العفوية الشديدة.
لمع زكي مع جيل من العباقرة، عاطف الطيب، ومحمد خان، وخيري
بشارة، وسمير سيف، ورأفت الميهي، وداوود عبد السيد، نهاية بشريف عرفة،
وأضاف معهم نكهة جديدة لسينما الواقع، أو «سينما المهمشين» بحسب تعبير وليد
سيف في كتابة "أحمد زكي"، ليقدم الفهد الأسمر لمحات من «لحم ودم» لبطل
السينما الذي ينزل للشارع، ويقتحم قضاياه، فكانت روائعه، شفيقة ومتولي،
النمر الأسود، البيه البواب، زوجة رجل مهم، البريء، التخشيبة، شادر السمك.
خلق زكي من تيمة الفقر واليتم والعناد والإصرار، دعائم
موهبته الضخمة، واستنار في طريقه بثالوث «عبد الناصر في السياسة» و«صلاح
جاهين في الشعر» و«عبد الحليم حافظ في الغناء»، لتخلق كل هذه المتناقضات
كائنا زجاجيا، تؤثر فيه وتؤذيه أقل الكلمات، وترفع معنوياته للسماء في نفس
الوقت، فأصيب بالأمراض والعلل، حتى فارق عالمنا في مثل هذا اليوم، وترك لنا
رصيدًا ضخما من الأعمال العظيمة، وشخصية فريدة من نوعها، لن تنساها ذاكرة
التاريخ. |