خيرية البشلاوي تكتب عن «الجنة الآن»
أول فيلم فلسطيني يتناول العمليات
الاستشهادية
الفيلم الذي رفضته الفصائل الفلسطينية وفجرت مواقع تصويره وتدخل الرئيس
عرفات لإنقاذه!
* شاركت في تمويله جهات أوروبية وسمحت إسرائيل بتصوير بعض مشاهدة في
أراضيها
* حظي بحفاوة هائلة في المهرجانات الأوروبية ومرشح لجائزة الأوسكار
كأحسن فيلم أجنبي
* نص حوار مهم مع مخرجه في أشهر مجلات السينما الأمريكية
انشغلنا
كثيرا بفيلم «الجنة الآن» عندما تم عرضه أثناء مهرجان القاهرة الأخير نظرا
لموضوعه بالغ الحساسية الذي يقترب ولأول مرة من شخصية الاستشهاديين ويرسم
تفاصيل الساعات الأخيرة في حياتهم قبل لتنفيذ العمل.. وانقسمت الآراء حول
أسلوب المعالجة.. فهناك من هاجم الفيلم ومخرجه.. وهناك من رأي في الفيلم
استمرارا للخطاب العقلاني الهادئ الذي بدأه السينمائيون الفلسطينيون
المقيمون خارج فلسطين.
وكان هاني
أبو أسعد مخرج الفيلم أثناء الندوة التي أعقبت عرضه في القاهرة هادئا حريصا
في كل إجابة علي تأكيد هويته الفلسطينية رغم جواز السفر والهوية الرسمية
المفروضة علي كثيرين من أبناء فلسطين..وقد تحاورنا من خلال الندوة وبعدها
ولكنني وجدت في هذا الحوار الذي تم في الولايات المتحدة بعد عرض الفيلم في
مهرجان نيويورك وقبل عرضه تجاريا هناك.. فالفيلم مثير للجدل.. والجدل حوله
لا يمكن أن يكون فاترا أو باردا وإنما شديد السخونة ومع ذلك حظي الفيلم
بحفاوة كبيرة في مهرجان برلين الأخير ومن الاتحاد الأوروبي وهو من الأفلام
المرشحة للأوسكار كأحسن فيلم أجنبي.. وقد نشر الحوار في العدد الأخير من
مجلة «سينياست» أهم المجلات الأمريكية السينمائية وأكثرها جدية وقد نقلت
معظمه اختصرت فقط في الأسئلة ذات الطابع التقني لأن الموضوع هو فيلم:
«الجنة الآن» هو العمل الفلسطيني الروائي الأول الذي يتناول الصراع
الفلسطيني الإسرائيلي ملقيا الضوء علي شباب العمليات الانتحارية.. تدور
معظم الأحداث في مدينة نابلس بالضفة الغربية ويتم اختيار شابين فلسطينيين
للتركيز عليهما وهما: سعيد قيس ناشف وخالد «علي سليمان» اللذان يعملان في
ورشة لتصليح السيارات.. الفقر المكثف وانفجارات الصواريخ، ونشاطات قوات
الاحتلال الإسرائيلية هي التي تملي نغمة الحياة اليومية.. اللحظات الوحيدة
اللطيفة في حياة هذين الرجلين ظهور سها «لبني أزابال» الفتاة الجميلة التي
عادت لتوها من الخارج والتي تأتي للورشة لتصليح سيارتها.
وبينما
تبدأ العلاقة الرومانسية بين سعيد وسها في أن تأخذ شكلا ما يظهر واحد من
الذين يمثلون إحدي المنظمات الفلسطينية، ويخبر الشابين أن الاختيار قد وقع
عليهما لتنفيذ عملية انتحارية في تل أبيب.. كان المتفرجون يعرفون مسبقا أن
كلا منهما قد عبر عن رغبته من قبل في أن يموت شهيدا وأن يحدث ذلك وهما
يعملان سويا.. وتتجه أحداث الفيلم بعد ذلك في معظمها لمتابعة اللحظات التي
تجري في الأربعة والعشرين ساعة الأخيرة في حياتهما.
الشابان
لا يطلعان أسرتيهما علي خطتهما.. وكذلك لا يخبر سعيد «سها» التي تتبني وجهة
نظر معتدلة حول فكرة المقاومة.. ولكنه يذهب إليها في منزلها فيما يشبه
زيارة الوداع.
الشابان
الآن خاضعان لرعاية مباشرة من قبل المنظمة فنري كيفية تصوير شرائط الفيديو
للشهداء، ومنها أجزاء تبدو طريفة، وأيضا منذرة ومشئومة ثم نشاهد بعد ذلك
الوجبة الأخري الأخيرة في حياتهما، وعملية ربط الأحزمة الناسفة حول وسط كل
منهما.. بعد ذلك يشرع سعيد وخالد في اجتياز السور الأمني للبدء في تنفيذ
العملية وعلي الجانب الآخر ينتظرهما رجل مرتش إسرائيلي لمساعدتهما.. يتم
قطع ثقب كبير في الجدار يتسللان عبره في حين تصل بسرعة قوات الأمن
الإسرائيلية فيتفرق الشابان سريعا ويذهب كل منهما في طريقه، ويبقي سعيد علي
الجانب الإسرائيلي.. وتصاب المنظمة التي جندتهما بحالة من العصبية الشديدة،
إذ يخشي زعيمها من القبض عليهما وتعذيبهما إلي أن يكشفا عن أفرادها وعن
أماكن اختبائهم... ربما كان أحدهما أو كلاهما خائنا.. وبعد فترة من التخبط
يعود كل من سعيد وخالد إلي نابلس دون أن ينجزا المهمة وتترك هذه التجربة
شكوكا إزاء كل منهما تجاه الآخر.. ورغم ذلك يتفق الاثنان مرة ثانية علي
تفجير حياتهما وحتي اللحظات الأخيرة من الفيلم يظل الشابان يتناقشان حول
مدي حكمة أو صحة ما ينويان القيام به و«الجنة الآن» قام بإخراجه وشارك في
كتابته هاني أبو أسعد الذي ولد في مدينة الناصرة ويحمل جواز سفر إسرائيلي
ولكنه يقدم نفسه كمواطن فلسطيني.. الفيلم شاركت في إنتاجه جهات أوروبية
عديدة وساندته مؤسسات أوروبية لدعم الفيلم السينمائي وقد ضم طاقم الفيلم
سبعين شخصا من بينهم مواطنون من هولندا وألمانيا، وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا
بالإضافة إلي عدد من الفلسطينيين الذين شكلوا طاقم الفيلم داخل الأراضي
المحتلة، إلي جانب خمسين ممثلا أغلبهم من فلسطين وقد استأجر المخرج عشرة
إسرائيليين أثناء التصوير في تل أبيب وقد استغرق تصويره في نابلس ثلاثة
أشهر.. ومعظم المشاهد الداخلية قد تم تصويرها في 15 يوما في مدينة الناصرة.
وواجه
المخرج صعوبات كبيرة أثناء التصوير أشاعت جوا من التوتر الشديد فقد انتاب
العديد من الفلسطينيين إحساس بالريبة إزاء المشروع، وكانوا يتساءلون لماذا
سمحت السلطات الإسرائيلية بدخول هؤلاء الغرباء بالإضافة إلي العديد من
الأدوات في منطقة تموج بالقلق والصراعات؟ وأبدت كثير من الفصائل الفلسطينية
رغبتها في قراءة السيناريو أولا.. وتسببوا في خلق حالة من البلبلة.
فقد كانت
موافقةفريق من الفصائل المسلحة عن الفيلم تعني أتوماتيكيا رفض الفريق
الآخر، وفي إحدي المرات أثناء التصوير قام أحدهم بخطف حسن تيتي مدير الموقع
الذي يتم فوقه تصوير الفيلم وطالبوا بوقف تصوير الفيلم وعندما أصاب صاروخ
إسرائيلي سيارة كانت قريبة من موقع التصوير أمرنا رجال مسلحون بأن نغادر
الموقع ونتوقف عن استكمال الفيلم.. وأذعن ستة من الأوروبيين في طاقم الفيلم
للأوامر وتركوا الفيلم وكان المخرج أبو أسعد متفهما جدا لإذعانهم ولكنه بقي
في الموقع وباقي الطاقم.. فلم تعد مشكلته هو إكمال الفيلم بقدر ما كان
تخليص مدير الموقع الذي تم ا ختطافه وتحريره وفي هذه الأثناء وزعت منشورات
تقول: إن الفيلم جزء من مؤامرة أمريكية ـ إسبانية، ورغب بعض الصحفيين
الأجانب الموجودين في تحويل حكاية الاختطاف إلي خبر يطوف العالم. وأمام
مشاعر اليأس اضطر المخرج هاني أبو أسعد للاتصال بالرئيس ياسر عرفات الذي
تمكن عبر المفاوضات من تخليص حسن تيتي وبالتالي هدأ الموقف ولو مؤقتا.
وضاعت
ثلاثة أسابيع في هذه الأحداث وحتي بعد استئناف التصوير لم تتوقف المشكلات
السياسية التي تتعقد مع كل يوم.. فالفصائل المختلفة تتبني آراء مختلفة حول
كيفية تصوير هؤلاء الانتحاريين.. وما إذا كانت ثمة فائدة من تصوير فيلم لا
يخضع لسيطرتهم بالكامل.. وبعد خمسة أيام من استئناف التصوير انفجر لغم من
منطقة تقع علي بعد ثلاثمائة متر فقط.. من موقع التصوير في الليلة السابقة
مباشرة وقتل ثلاثة أشخاص من جراء ذلك وأغمي علي بطلة الفيلم لبني أزابال
وقرر أبو أسعد أن ينقل موقع التصوير من نابلس ويكمل تصوير الفيلم في مسقط
رأسه الناصرة، وكان عليه أن يضحي بالعديد من اللقطات ولكن من دون هذا
الانتقال لم يكن بإمكانه الانتهاء من تصوير الفيلم.
ولم تتوقف
المناقشات الساخنة حول «الجنة الآن» حتي بعد عرضه فهناك إحساس لدي البعض أن
إضفاء هذه المسحة الإنسانية علي الانتحاريين يبرر أفعالهم وهناك إحساس لدي
البعض الاخر أن الفيلم يجرد هؤلاء الشباب من قيمة الاستشهاد بجعلهم بشرا
عاديين بل ربما تافهين.
فقد أجاب
أبو أسعد في العروض الصحفية أن هدفه من وراء الفيلم فتح الباب لمناقشة جادة
حول العمليات الانتحارية فلا يروج لوجهات النظر التي أصبحت مستقرة بالفعل.
وفي لقاء تم مع المخرج في سبتمبر الماضي مباشرة بعد عرض الفيلم في مهرجان
نيويورك أجرته كل من باربارا سولتز ودان جورجاكسي كان هذا الحوار.
·
قلت في مهرجان برلين حيث عرض الفيلم وفاز بعدة جوائز إن الناس اعترضت علي
فكرة الفيلم ولم تعترض علي الفيلم نفسه ماذا كنت تقصد بذلك؟
ـ أبو
أسعد: نحن في لحظة من العالم حيث يسود وجهتا نظر لا ثالث لهما. إما هؤلاء
الانتحاريين مجرمون أو أنهم أبطال فوق العادة.. وفيلمي يدمر هذه الأفكار
السائدة.. وهذه الصور قدمتها لبناء مفهوم جديد. علما بأنني لا أجبر الناس
من خلاله علي تغيير مواقفهم فقط فتحت لهم المجال أن يجر بوا أشياء لم
يعايشوها في حياتهم الخاصة.. ولذا فهناك أعداء علي كل الجانبين.. وقد
حاولنا في الفيلم أن نحرك مفاهيمهم المستقرة.
سعيد
وخالد شخصيات تتردد علي الجامع وليست متدينة جدا.. ولا يحضران اجتماعات
سياسية وليس لديهما انتماءات محددة لجماعة مسلحة بالإضافة إلي أنهما لا
يتحاوران في السياسة حتي وهما جالسان علي المقهي.. هل تعتقد أن هذا النموذج
يمثلها الشخصية المطابقة تماما. ـ لو قدمت شخصية مطابقة تماما، فأنت تؤكد
فقط علي حكمك أنت المسبق، فأنا لا يهمني كم عدد المتدينين تماما أو الذين
يترددون علي الجامع، أو الذين يتحركون بدوافع دينية مائة بالمائة أو هؤلاء
الذين يفعلون بدوافع سياسية ما عنيت به في الأساس هي ترجمة الواقع إلي فيلم
روائي، فأنا أعلم أن هناك شخصيات مثل سعيد وخالد لا ينتميان إلي حركة دينية
ويقومان بعمليات انتحارية، سواء كانوا رجلا واحدا أو عشرة لاذ نسبة هؤلاء
لا تعنيني، ما يعنيني إنهم موجودون في الواقع.. وهذا أكثر تشويقا بالنسبة
للسينما أن أقدم شخصيات تعيش في صراع ولديهم شكوك إزاء الآخرين أو ليس
لديهم شكوك.. فلست مهتما بتقديم صورة طبق الأصل لشخصية الانتحاري، لأن هناك
صورا عديدة تضم كل الأنواع فهناك الفقراء.. والأغنياء والمتعلمون والجهلة
فمن الممكن أن يكونوا أي شيء من هذا أو لا شيء.
·
أنت إذن تتجنب عن وعي مسألة التنميط عند تقديم شخصية الانتحاري بمعني أن
سعيد يبدو وكأنه يعاني من مشكلة نفسية أكثر منها مشكلة سياسية.. فهو يريد
أن يمحو العار الذي جلبه والده بتعاونه مع الإسرائيليين. ألا يعني هذا
الحافز الفردي تجاوز حدود المشكلات الثقافية التي ترغب في توجيهها؟
ـ أبو
أسعد: لا.. لأن قصة سعيد تشرح حدود المشكلات الثقافية فالأب حتي يحقق
لأسرته معيشة أفضل يضطر للتعاون مع الإسرائيليين والابن حتي يحمي أسرته من
ذنب أبيه يعتقد بأن عليه أن يضحي بحياته، إنها مأساة.. وأنا أؤمن أن
الاحتلال من أكبر الجرائم، لأنه يرغم الناس علي التعاون مع المحتل ويفعل
هذا ضد قناعاته وضد مصلحته وهناك دائما نقطة ضعف تجدها في البشر تدفعه إلي
التعاون مع العدو.. فالاحتلال جريمة كبري لأنه لا يسبب الأذي لإنسان واحد
أو أسرة واحدة وإنما لمحيط كامل من البشر.. وهو الأمر الذي يدفع أحدهم إلي
فعل أشياء ضد مصلحته الذاتية.. والحل الذي لجأ إليه سعيد لمواجهة هذه
المشكلة حل ميثولوجي الأبعاد.. فأن تقتل نفسك حتي تقتل عدوك هذه قيمة من
الإنجيل.. عندما هدم شمشون المعبد قال: علي وعلي أعدائي وذلك بعد أن شعر
بمنتهي الامتهان والمهانة من قبل أعدائه وهذه القصة الآن لها تجليات
حديثة.. وقد حاولت أن أرويها في الفيلم من وجهة نظر إنسانية وليس ربانية أو
إلهية.
·
هذا يقودنا إلي سؤال لا مهرب منه وهو من في رأيك هو المتفرج الرئيسي
لفيلمك؟ من الواضح أنك تريد أن تصل إلي أكبر جمهور ممكن.. ولكن هل هناك
متفرج مستهدف بعينه؟
ـ أبو
أسعد: لا أؤمن بمتفرج بعيدا عن نفسي أنا شخصيا لدي حب استطلاع وأرغب في
معرفة الأشياء وتجربتها ومشاركة هذه التجربة مع آخرين.. فليس لدي متفرج
بعينه.. أنا نفسي أرغب في مشاهدة هذا الفيلم.
·
لو أراد الإسرائيليون الفرجة علي هذا الفيلم
فماذا تأمل أنت أن يشاهدوه؟
ـ أبو
أسعد: الإسرائيليون أو غيرهم، ما أريده أن يخرجوا من الفيلم وقد شعروا
بالصدمة، ولست أتطلع إلي تغيير الأفكار، أريدهم أن يتركوا الفيلم وهم
عاجزون عن الكلام، أريد فعلا هذا.
·
وماذا عن الفلسطينيين أو هؤلاء الذين يساندون
بقوة القضية الفلسطينية.. هل أيضا سيشعرون بالصدمة؟
أبو أسعد:
لم لا؟ فكل إنسان يجب أن يصاب بالصدمة وهو يشاهد هذا الفيلم لأنه يلقي
الضوء علي أماكن معتمة.. فيلمك يسمح لك بالذهاب إلي أماكن لن تذهب إليها
أبدا ولقاء أشخاص لن تكون مثلهم بأي حال.. فنحن لهذا السبب نصنع الأفلام
وذلك حتي تجرب أشياء لن تجربها في حياتك أبدا.
·
في الكتيبات الصحفية التي وزعت ذكرت حجم الصعوبات التي تواجه المخرج أثناء
التصوير في الضفة الغربية حيث الحياة اليومية بالغة الصعوبة.. لكن الفيلم
لم يكشف عن هذا الواقع والمتفرج إذا لم يكن ملما بهذه الأوضاع فإنه لن يري
من خلال الفيلم نفسه مدي الفقر، ولن يري الضغوط الخارجية غير العادية التي
يواجهها الناس.
ـ أبو
أسعد: نحن نعرف مسبقا هذه الحكايات المهينة.. نحن نعرف مسبقا قصص
الانفجارات وقد رأينا الكثير من الصور التي تصور البشاعات التي يحدثها
الاحتلال للناس.. وما لا نعرفه هو تجربة الـ 24 ساعة التي تسبق تفجير هؤلاء
الشباب لأنفسهم ولذا أردت أن أضيء هذه المنطقة لم أكن مهتما أن أضيء
الأماكن التي كنت أعرفها بالفعل.. ولم يكن في نيتي أن أعيد تكرار كل الصور
التي تنقل مشاهد الإسرائيليين وهم يدمرون البيوت وكل شيء آسف أنا أعرف كل
ذلك.. وأعرف هذه الصور وأعرف صور انفجارات القنابل، كل هذه الأشياء يعرفها
الناس وتصويرها ثانية، سوف يجعل الفيلم مملا.
·
في الكتيبات الصحفية ذكرت المصاعب الجمة التي واجهتها مع الفصائل
الفلسطينية ولم تذكر إلا القليل حول المصاعب التي واجهتك من قبل
الإسرائيليين؟ فهل تسبب الإسرائيليون في مشكلات بعينها؟
أبو أسعد:
الإسرائيليون متعبون، ولكنهم أكثر ذكاء فهم يعرفون كيف يجعلون حياتك بائسة،
دون أن يتركوا دليلا واحدا.. هم فقط يسببون لك البؤس والتعاسة ليس فقط
أثناء التصوير، وإنما وأنت تشرب المياه.. فالاحتلال معني بأن يدفعك إلي
الجنون.. وبالنسبة لي فإن هذا الأمر واضح.. لكن الشيء الجديد بالنسبة لي هو
أنني كنت مثل الكرة بين الفصائل الفلسطينية وما فعله الاحتلال يعرفه الناس
مثلما أعرفه أنا.
·
ما هي المشكلات التي واجهتك مع الفلسطينيين
في نابلس؟
ـ أبو
أسعد: كانوا خائفون جدا من طريقة استقبال الناس للفيلم وفهمهم له.. وأعتقد
أن هذا غباء منهم.. لأن لا أحد يستطيع أن يتكهن بردود فعل الجمهور إزاء
الفيلم، أي فيلم.. ففي السينما كل الأمور تخضع للتخمين.. فعلي الرغم من كل
المعرفة والموهبة فالأمر يخضع للتخمين.. لكنني لم أكن أرغب أبدا في عدم
احترامهم ولكنني لم أكن أريد أن أقع تحت سيطرتهم.. وكنت أريد أن أتوغل بعمق
قدر ما أستطيع داخل هذه التجربة.
·
هذا واضح تماما في طريقة تناولك للشخصيتين الرئيسيتين، فهما لا يثيران
الشفقة، ولا العكس.. فهما شخصيتان يمكن للمتلقي أن يتفاعل معهما بطرق
عديدة.. هناك شخصيات أخري تم تحديدها علي نحو واضح أكثر.. علي سبيل المثال
الشخصان اللذان أدارا العملية.. والرجال الذين لازموا الانتحاريين معظم
ساعات اليوم الأخير.. وقد أدهشوا المتفرجين بحالة الاسترخاء والبلادة
نسبيا.. بينما يستمتعون بتناول وجبة جيدة فهم أقرب إلي شخصيات العالم
السفلي «عالم العصابات»، هؤلاء هم الناس الذين يعيشون علي أعتاب السلطة
وينتعشون.
أبو أسعد:
هذا هو الواقع.. فالمخرج لديه دائما الممثلون الرئيسيين وحتي يحيطهم بالضوء
يضع قبالتهم شخصيات أخري في الظل تبدو أكثر استرخاء وبذا يخلق نوعا من
التناقض.. فالشخصيات الرئيسية هم هؤلاء الذين يقومون بالعملية.. وليس هؤلاء
الذين يخططون لها.. وهؤلاء ليسوا مختلفين بأي حال عن الجنرالات في أي جيش..
وهؤلاء الذين لا يكترثون بحياة الجنود وإنما بالقضية وكسب الحرب.. وهو يعلن
أن هناك جرحي بالضرورة.. وأعتقد أن ماكنمارا هو الذي قال إن الولايات
المتحدة لو كانت قد خسرت الحرب الثانية، كانوا سيحاكمون علي أنهم مجرمون
حرب لإلقائهم القنابل علي المدن اليابانية.
·
هذا الوصف ينطبق علي شخصية الرأس السياسي المدبر للجماعة.. فهو الذي يضع
القرارات ويبدو مخلصا تماما للقضية ولكنه متعب وممزق.. فهو يعلم أن هناك
أشياء لابد من القيام بها، ويفضل عدم القيام بها، ولكنه يعلم تماما أنها
ضرورية.. ولكن الفيلم لم يكشف للمتفرج عن الدوافع التي تجعل مثل هذا الشخص
مخلصا وملتزما إلي هذا الحد بالقضية هل تعتقد أن الأمر سيكون مربكا للمتفرج
لو قدمت للمتلقي معتقدات الرجل السياسية وقناعاته الدينية؟
ـ أبو
أسعد: أن تعيش كفلسطيني فأنت في هوان وإذلال مستمر.. فالحياة اليومية
بائسة.. فالفلسطيني يعيش طوال اليوم وهو ينعي حاله، يغرق في رثاء ذاته وناس
يعيشون هذه الظروف يجدون صعوبة كبيرة في التفكير علي نحو مختلف عن ذلك.. لا
يستطيعون.. فكل يوم يعني الغرق في المزيد من الإذلال.. ولكن وأنت بعيد عن
هذا الواقع يمكنك التفكير بطريقة مختلفة، ولهذا قدمت الفتاة «سها» كشخصية
جاءت من خارج هذا السياق. وأنا أؤمن بأن المرأة بوجه عام تفكر بطريقة أكثر
عقلانية حول فكرة القتل، وفي أمور الحياة والموت فإن المرأة أكثر تعاطفا
لأنهن يعرن للحياة اهتماما أكثر من الرجال.. هن يصنعن الحياة ويحملنها
بداخلهن.
·
نحن هنا في الولايات المتحدة رأينا مشاهد عديدة لأمهات ونساء وزوجات
فلسطينيات يشعرن بالفخر لأن أطفالهن وأزواجهن فجروا أنفسهم في عمليات
انتحارية.. هل تري أن هؤلاء النسوة لا يمثلن الصورة النموذجية للمرأة
الفلسطينية؟!
ـ أبو
أسعد: إن الأمهات الفلسطينيات مثل كل الأمهات في أي بلد.. هن يحمين
أولادهن، وعلي استعداد أن يضحين بحياتهن من أجل حماية أولادهن وإنقاذهن
شأنهن شأن كل الأمهات في أي بلد من العالم.. فهن لسن استناء.. وإذا كنتم
تريدون استغلال هذه الصور فأنا أعتقد أنه شيء يثير الاشمئزاز.. أحيانا
يستغل الإسرائيليون والأمريكيون هذه النقطة في إعلامهم، لأن هذه الصور
تتناسب مع أغراضهم السياسية.. فهي تبرر لهم الاستمرار بارتكاب جرائمهم..
إنهم يسيئون استخدام هذه السلوكيات التي تأتي بها بعض الأمهات الفلسطينيات
لتبرير الاحتلال.. وهذا يثير اشمئزازي.. فـ «إسرائيل» دولة محتلة تعتدي علي
الحقوق المدنية والإنسانية للشعب الفلسطيني.. وأحد تداعيات هذه الممارسات
هو الإرهاب.. واستغلال صور الإرهاب لأغراض الاحتلال تثير الاشمئزاز.
·
الفصائل الفلسطينية تبدو علي استعداد لاستغلال الأمهات في مساندة العمليات
الانتحارية.. فهم يضعون شرائط الفيديو، وينصبون البوسترات لتحقيق هذه
الغاية؟
ـ ليست كل
الفصائل.. وأعتقد أن الفصيلة التي تفعل ذلك مثلها مثل بوش الذي يساند أمهات
الجنود الذين يموتون في العراق وأفغانستان.. فهو يقول لهن: إن أبناءهن
أبطال وإنما يحاربون لغاية نبيلة.. ويقيم لهم جنازات مهيبة حتي يعلن أنهم
لم يموتوا مجانا وإنما ماتوا من أجل قضية.. ونفس الشيء يحدث مع
الفلسطينيين.
·
لقد شعرنا بالحيرة عند نهاية الفيلم عندما اتضح أن الرجلين اللذين صحبا
الانتحاريين من الإسرائيليين؟ فماذا كان هدفك؟ هل تريد أن تقول إن هناك
إسرائيليين يساندون الانتحاريين؟
ـ إنها
مجرد قصة واحدة وليس نمطا ولكنها قصة ومن المهم جدا أن نرويها، لأن معظم
الناس لا تعرفها.. فقد حدثت بالفعل مع واحد من المستوطنين اليهود.. فقد كان
في أزمة ويحتاج إلي الندود، وأعتقد أنه سوف يحل مشكلته بضربة واحدة.. وهي
قصة ليست نموذجية، ولكن هذا لا يهم.. فهي قصة لم يكن أحد يعرفها.
·
السور الأمني المكهرب الفاصل بين الضفة الغربية وإسرائيل يسمح عبر فتحات
باستجابة قوات الأمن الإسرائيلية بالحركة في 15 دقيقة.. لكن في الفيلم بدت
الحركة ذهابا وإيابا سهلة بحيث تسمح بالتسلل.. فهل كان هذا بهدف تحقيق
سهولة الحركة في الفيلم أم أن هذا «بيان» يؤكد أن السور ليس مؤثرا كما تدعي
إسرائيل.
ـ لا أقصد
تقديم بيان وإنما كل دفاع يخلق دفاعا مضاد، والناس الذين يصلحون السور
ليسوا مثل الجنود الذين يدافعون عنه.. فهناك حيل تقنية للمس وقطع الأسلاك
في مناطق معينة بطريقة تسمح لتوزيع القوات الإسرائيلية..ولكن هدفي من هذا
كان هو الحفاظ علي استمرار الأحداث.
·
أحد الذين شاركوا في إنتاج فيلمك شركة «لاما برودكشن» وهي شركة وزعت عددا
من الأفلام المهمة في الولايات المتحدة مثل «المشي علي الماء» «يوس وجاجر»
فهل أتاحوا للفيلم شيئا لم يكن متاحا بالنسبة لك؟
ـ أبو
أسعد: أمير هافل صديقي وهو لا يقيم اعتبارا للدول وإنما يهتم أكثر بالبشر
وهو منتج جيد فعلا.. وقد ساعدني علي التركيز فالمخرج لديه مشكلات لا حصر
لها، حول أين يضع الكاميرا؟، كيف يدير الممثلين؟، كيف يشيع المزاج الصحيح
للفيلم وهذا يتطب طاقة وتركيز هائلين وفي وضعنا توزعت طاقتي وتركيزي إلي
جانب ذلك في التعامل مع المشكلات التي كانت تطرأ في كل يوم أثناء تصوير
الفيلم. فقد كانت مشاعرنا موزعة علي أن نبقي لا علاقة لها بصنع الفيلم وقد
ساعدني أمير علي مشكلات جميعا في حالة من التنسيق والتنظيم والتركيز عندما
بدأت الأمور علي وشك الفوضي.. لم يكن حاضرا في موقع التصوير.. لأن المسألة
بالنسبة له تشكل خطرا كبيرا جدا.
·
تاريخك الشخصي كما هو مكتوب في الكتيب الصحفي «ملخبط» نوعا.. فهو يبدأ
باشتغالك مهندس طيران في هولندا ثم فجأة أصبحت مخرجا سينمائيا.. هل يمكن أن
فعرف أشياء أخري حول هذا الانتقال؟
ـ أبو
أسعد: العمل كمهندس طيران يحتاج إلي خيال كبير لحل المشكلات التكنيكية
ولكنك لا تستطيع حلها معتمدا فقط علي الحدس، أو الغريزة فإننا نحتاج
الغريزة لتخمين الطريقة الصحيحة ولكن عليك أن تتوخي منتهي الأمان لأن
الأخطاء الصغيرة تؤدي إلي فقدان حياة الناس.. فلا تستطيع المغامرة وفي الفن
لا تستطيع بالموهبة مهما كبرت ولا بالخبرة مهما كانت أن تعرف ما إذا كنت قد
اتخذت القرار الصحيح.. فالفن يعني المغامرة وأنا أحب المغامرة وحتي إن كنت
دائم الخوف من ارتكاب الخطأ لأن الخطأ هنا لا يهدد حياة الناس فأكثر ما قد
يصيبك هو فشل الفيلم.
·
فيلمك موجود الآن في الولايات المتحدة فهل
هناك شيء تود أن تقوله للأمريكي الذي سوف يراه؟
ـ أبو
أسعد: شاهد الفيلم مرتين.. المرة الأولي ستكون مشغولا بأحكامك المسبقة حول
العمليات الانتحارية والمرة الثانية سوف تعيش التجربة كفيلم سينمائي.
الفيلم
تقوم بتوزيعه في الولايات المتحدة شركة «وارنر إندبندنت» وهو ضمن الأفلام
المرشحة لجوائز الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي.
|