للمرّة
الأولى منذ تأسيسها قبل سبعة وسبعين عاماً، تُرشّح «أكاديمية الفنون
والعلوم السينمائية» في لوس أنجلوس فيلماً فلسطينياً «لأفضل فيلم أجنبي».
وللمرّة الأولى منذ ولادتها في فلسطين في مطلع القرن الفائت، تجد هذه
السينما نفسها في لحظة تاريخية مهمّة على المستويين الجماهيري والتجاري ـ
الاقتصادي، على الأقلّ.
ذلك أن
فوز «الجنّة الآن» للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، المقيم في هولندا،
بجائزة «غولدن غلوب» في فئة أفضل فيلم أجنبي في السابع عشر من يناير
الفائت، اعتُبر بمثابة «إعلان غير رسمي» أو «تأكيد شبه نهائي» للفوز بجائزة
«أوسكار» في الفئة نفسها، انطلاقاً من الاعتبار السائد في الأوساط
السينمائية المعنية بأن جوائز «غولدن غلوب»، التي تمنحها «جمعية الصحافيين
الأجانب في هوليوود»، تمهّد طريقاً واسعة (جداً، في بعض الأحيان) أمام
الأفلام الفائزة بها لانتزاع جوائز «أوسكار»، التي تمنحها الأكاديمية في
الشهر الثالث من كل عام. (في الخامس من مارس 2006، تُعلَن النتائج النهائية
لدورة العام الجاري).
أياً يكن،
فإن «الجنّة الآن» يذهب بمخرجه إلى المعقل الدولي للسينما العالمية
(هوليوود) بخطى ثابتة، وإن لم يفز بجائزة «أوسكار». ف«غولدن غلوب» تساهم في
دفع أفلامها الفائزة في اتّجاه المقرّ العام لصناعة السينما، وتدعم مخرجيها
في «معاركهم» اليومية للحصول على تمويل أو إنتاج، بتسهيلها أموراً كثيرة
لهم في المتاهات المعروفة في عالم المال والصناعة.
غير أن
هذا الفيلم الروائي الجديد لهاني أبو أسعد عرف نجاحاً في بعض المهرجانات
الدولية التي شارك فيها مؤخّراً، نقدياً وجماهيرياً: في الدورة الفائتة
(2005) ل«مهرجان برلين السينمائي الدولي» فاز بجائزة «بلو آنجيل» في فئة
أفضل فيلم أوروبي (إنتاج مشترك بين فلسطين وفرنسا وألمانيا وهولندا)، ثم
عُرض في مهرجاني القاهرة ودبي (افتتح الدورة الثانية لهذا الأخير)، بعد
مشاركته في احتفالات جماهيرية ونقدية متنوّعة ومتفاوتة الاهتمام والمتابعة،
ووصوله إلى «غولدن غلوب» عشية توزيع جوائز ال«أوسكار».
فهل
«ينتزع» هذه الجائزة من الأفلام الأربعة الأخرى التي رُشّحت في الفئة
نفسها، وهي: «لا تخبر شيئاً» (إيطاليا) لكريستينا كومينتشيني، «عيد ميلاد
سعيد» (فرنسا) لكريستيان كاريون، «مدرسة صوفي، الأيام الأخيرة» (ألمانيا)
لمارك روثموند و«تسوتسي» (جنوب إفريقيا) لغافن هوود؟ أم يفشل في ذلك؟
الجائزة
أم الفيلم؟
لا شكّ في
أن مسألة الجوائز هذه ليست أهمّ من القيم الجمالية والدرامية والفنية
الخاصّة ب«الجنّة الآن»، ولا تستطيع أن تغطّي على المضمون الإنساني في
التفاصيل التي صنعت الحكاية وناسها، وبيئتهم الاجتماعية والظلال السياسية
والعقائدية والفكرية والحياتية التي عاشوا فيها.
فالفيلم
«جميل» بمقاييسه الإبداعية المختلفة، وإن لم يبلغ مرحلة الكمال المطلق،
والبحث الدرامي في مآزق الإنسان الفرد وموقعه في قلب الجماعة مشغول بتقنية
تلفت النظر إلى سلاستها الحكائية من دون تبسيط أو سطحية أو خطابية مباشرة،
وإن تخلّل ذلك كلّه كلام مباشر أو موقف واضح في ايديولوجيته الخارجة عن
بنائها الفني والسينمائي. لهذا، لا يكترث نقّادٌ ومهتمّون بالفن السابع
وقضاياه الجمالية والفكرية والدرامية بهذه الجوائز أو بغيرها، ولا يأبهون
بمدى «قدرتها» على التأثير في جماهيرية الفيلم، إذ يميلون إلى بنيته
الإبداعية المتكاملة، ويرون في تحقيقه الشروط المطلوبة مبتغاهم الثقافي
والفني والفكري.
إلى جانب
«حمى» الجوائز، لا يُمكن إغفال واقع بات مألوفاً في صناعة فيلم فلسطيني
جديد: التأسيس الثقافي لسينما متحرّرة من سطوتها الايديولوجية، ومن خطابها
العقائدي، ومن كونها أداة إعلامية للترويج السياسي أو الحزبي. ذلك أن
«الجنّة الآن» يأتي في سياق نمط إبداعي يستلهم مواضيعه من الواقع
الفلسطيني، في السياسة والحياة اليومية والمشاعر الإنسانية والانفعالات
المختلفة، انطلاقاً من استعادة البُعد الإنساني البحت للفرد الفلسطيني، ومن
مبدأ التعاطي معه كإنسان لا يختلف عن بقية البشر في أنحاء مختلفة من
العالم.
إذاً، ظهر
الفرد الفلسطيني في أفلام هذا النمط السينمائي إنساناً عادياً، يأكل ويشرب
وينام وينفعل ويمارس حياته اليومية بشكل طبيعي ويختلف مع جيرانه ويعاني
أزمات عدّة جرّاء تربية اجتماعية ودينية وأخلاقية مستمدة من العادات
الراسخة في الوجدان العربي، ويحاول أن يكسر الحصار المفروض عليه من المجتمع
الفلسطيني العربي أولاً، ومن الاحتلال الإسرائيلي ثانياً. في أفلام هذا
النمط السينمائي الفلسطيني، لا ينسى المخرجون الفلسطينيون أن فلسطين
محتلّة، وأن الاحتلال الإسرائيلي يساهم في تفعيل المعاناة والأزمات
والانكسارات والخوف والغضب والفقر والبؤس والألم.
ولا
يتجاوزون نتائج هذا الشقاء اليومي، محاولين دائماً إيجاد توازن ما بين آثار
التربية الاجتماعية والدينية والأخلاقية الفلسطينية العربية وما يصنعه
الاحتلال الإسرائيلي. وهذا كلّه، بلغة سينمائية شفّافة وجميلة غالباً،
تستوفي شروطها الإبداعية وتصنع من الصُور سلاسل متتالية من الحكايات
الإنسانية الفلسطينية.
لا يختلف
«الجنّة الآن» عن المسار التجديدي في «صناعة» الفيلم الفلسطيني الحديث. إنه
جزءٌ من الصورة الجديدة لسينما الإنسان الفرد، بعلاقته بذاته أولاً ثم
بالآخر (المجتمع، الجماعة). إنه مرآة لآلاف التفاصيل اليومية التي يرويها
أناس مجبولون بالقهر والعذاب من دون أن يتخلّوا عن إنسانيتهم وانتماءاتهم
المختلفة ومقاومتهم الدائمة احتلالاً يسعى إلى انتزاعهم من أرضهم.
إنه واحدٌ
من الأفلام التجديدية في السينما الفلسطينية، التي يسعى مخرجوها إلى جعلها
مرايا الذات والواقع والحقائق الإنسانية المختلفة. وهو، كفيلم سينمائي
بامتياز، يضيء عوالم الفرد الذاهب إلى حتفه بمهمة وطنية، ويتوغّل في نفسه
وروحه في الساعات القليلة الأخيرة من «حياته»، من دون أن يسقط في فخّ
التنظير الخطابي المملّ، وإن عرف شيئاً من ذلك في بعض المشاهد.
* جماليات
بصرية ودرامية
يستحقّ
«الجنّة الآن» اهتماماً وتقديراً ونقاشاً نقدياً جدّياً وضرورياً، بسبب
معالجته الدرامية الجيّدة والمهمّة لمضمونه الدرامي، وجمالياته البصرية في
صوغ مشاهد وعلاقات ونفسيات، وبساطته التقنية في توليف صُوَر ولقطات،
وإدارته الفنية الجميلة للممثلين (قيس ناشف وعلي سليمان اللذين أدّيا
الدورين الرئيسين، وهيام عباس).
ثم إن
هاني أبو أسعد، كاتب السيناريو أيضاً، لم يسقط في فخّ التعميم، ولم يحسم
(أو لعلّه لم يشأ أن يحسم) «الجدل الدائر» بين رافضي العمليات الانتحارية ـ
الاستشهادية والمنظّرين لها، من جهة أولى، وبين من يعتبرها «انتحارية» ومن
يراها «استشهادية»، من جهة ثانية. ذلك أن هاني أبو أسعد حرّر نصّه
السينمائي البصري من أي إدانة أو ترويج، ولم يُنجز فيلماً دعائياً أو
خطابياً أو استعراضياً، ولم يذهب إلى الأمكنة والحالات المعهودة في
الغالبية الساحقة من الأفلام الفلسطينية والعربية المتمحورة حول فلسطين، بل
اختار، منذ البداية، أن يتعمّق في الروح الإنسانية للفرد الفلسطيني في
واحدة من أقسى اللحظات التي يواجهها في حياته، أي الموت.
وأراد أن
يُفكّك عقَداً (أو بعضها على الأقلّ) في داخل المجتمع الفلسطيني، في
السياسة والاجتماع وثقافة اليوم والعلاقة بالموت والذاكرة والآخر. فمنذ
اللحظات الأولى، بدا واضحاً أن «الجنّة الآن» مصنوعٌ بشكل جيّد درامياً
وجمالياً وفنياً وتقنياً، إذ سرعان ما يجذب المُشاهد إلى تفاصيله المختلفة،
ويذهب به إلى عوالم أناس واقفين عند الحدّ الفاصل والواهي بين الحياة
والموت.
والحياة
الفلسطينية في «الجنّة الآن» مشحونة، في الوقت نفسه، بنبض العيش والحيوية
والحركة المجتمعية التي يعرفها أي مجتمع إنساني آخر. شيئاً فشيئاً، يُفكّك
أبو أسعد عالم بطلي فيلمه، فتظهر خبايا الذات والروح والقلب والألم والماضي
والذاكرة، ثم يقع الانفجار، فتولد لحظة التحوّل: يُكلّف الشابان من قبل
تنظيم فلسطيني مسلّح (لا تتوضّح هويته أو التزامه السياسي أو العقائدي أو
الايديولوجي بشكل مباشر وعلني وسريع) بمهمة «وطنية» و«قومية» ملحّة: تنفيذ
عملية استشهادية ـ انتحارية ضد إسرائيليين في تل أبيب. هنا، تنقلب الأمور،
ويدخل الفيلم في ذات كل واحد منهما أثناء «رحلتهما» إلى تل أبيب، أي إلى
الموت.
صحيح أن
السرد كلّه عكس يومياتهما، ملقياً الضوء على بعض التفاصيل الفلسطينية في
قلب المجتمع (لي عودة إليها)، غير أن لحظة التحوّل هذه فتحت العالم الحميم
والخاصّ بهذين الشابين، في الزمن الفاصل بين بداية الرحلة ونهايتها في
الموت: المشاعر، القلق، التوجّس، الخوف، البحث عن منفذ للخلاص، ليس فقط من
تنفيذ العملية، بل أيضاً (وربما أساساً) من هذه الحياة اللعينة والموبوءة،
خصوصاً أن سعيد (ابن العميل)، بعد «إيهامنا» (الجميل فنياً والصادق
إنسانياً) بتردّده، «يوهمنا» ثانية أنه سيكون المنفّذ الوحيد للعملية، إذ
يعود خالد إلى المدينة بحثاً عنه، بعد أن تفشل خطّة الدخول إلى تل أبيب،
ويُغلق المُشاهد عينيه في ختام الفيلم طارحاً على نفسه أسئلة عدّة، لعل
أولّها: هل نفّذ سعيد العملية أم لا؟
* المجتمع
الفلسطيني
في سياق
الفيلم، يُلقي هاني أبو أسعد ضوءاً ساطعاً، على تفاصيل الحياة اليومية في
المجتمع الفلسطيني: المصوّر الذي لا يتردّد عن بيع ـ تأجير أفلام فيديو
سُجّل عليها الخطاب الأخير أو الوصية للمقاتل الانتحاري ـ الاستشهادي (وهذا
ما يحدث في فلسطين أصلاً، إذ اعتبر البعض أن هذه المسألة تُشكّل اليوم
تجارة رابحة). المقاتلون الذين يأكلون السندويتشات أو المناقيش أثناء تصوير
«زميل» أو «رفيق» لهم خطابه ـ الوصية هذا (بدا الأمر مؤثّراً للغاية، إذ
كشف المشهد عن سخرية مريرة، بقالب كوميدي سوداوي صادم). هناك أيضاً الحب
المبتور بين سعيد وصديقته الثرية سهى (لبنى زبّال)، مما يعكس شيئاً من
التفاوت الطبقي الحاصل، والحياة العائلية في مواجهتها الموت وعيشها الحياة.
إلخ.
وإذا بدا
مشهد المقاتلين الذين يأكلون طعامهم أثناء تصوير زميلهم الذاهب إلى الموت،
اختزالاً لعبثية الحياة ومتاهاتها وتعرّجاتها الحادّة، فإن المصوّر الذي
يُفترض به أن يُصوّر هذا الخطاب ـ الوصية، بدا أكثر عبثية وواقعية، عندما
اكتشف أن الكاميرا لم تصوّر شيئاً بسبب خطأ تقني، طالباً من زميله
«المقاتل»، بتلقائية وعفوية تتناقضان ومناخ الموت، إعادة قول كل ما سبق أن
قاله لتسجيله ثانية. كأن المقاتل «يُلقي» درساً أو يقرأ بياناً عادياً أو
يُقدّم مشهداً تمثيلياً ما، أو كأن اللقطة كلّها تعيد صوغ مقطع أساسي من
معنى الحياة اليومية في فلسطين.
في مقابل
هذا كلّه، بدت لبنى زبّال صادمة في جمودها الانفعالي وسلوكها العاطفي
وتحرّكاتها المختلفة أمام الكاميرا. وبدت سهى (الشخصية النسائية التي
تؤدّيها زبّال) متوترة دائماً في علاقتها بالمحيطين بها، و«خطابية» جداً في
المسائل المتعلّقة بالنضال والحب والعلاقات. وعلى الرغم من عدم توضيحه هوية
التنظيم السياسي وانتمائه الايديولوجي، إلاّ أن بعض «قادته» أرخى لحيته
وأوهم المُشاهد بالتزامه تياراً ما.
لكن
المسألة ليست هنا: فهؤلاء الممثلون بدوا في لحظات قليلة عفويين في أدائهم،
ومتوترين (ليس بالمعنى الجمالي أو الإنساني، بل على المستوى التمثيلي) في
لحظات أخرى.
«الجنّة
الآن»، بتفاصيله المتناقضة كلّها، يُشكّل محطّة مهمّة في المسار المهني
والحياتي لهاني أبو أسعد، الذي أنجز عدداً من الأفلام الروائية والوثائقية،
القصيرة والطويلة، ك«عرس رنا» أو «القدس في يوم آخر» و«فورد ترانزيت»:
فالأول (روائي طويل، 2001)، المشغول بلغة مفكّكة ومملّة وباهتة، يسرد
يوميات فلسطينية من خلال قصّة فتاة يريد والدها أن يزوّجها من رجل لا
تحبّه، فتلحق بمن تحبّ في الطرقات المشرذمة لفلسطين.
والثاني
(وثائقي، 2002)، رحلة من نوع آخر: في سيارة الأجرة فورد، أناس مختلفون
يروون وقائع وحكايات، يُشكّل السائق رابطاً أساسياً بينهم (أي الناس)
وخطّاً درامياً يجمعها (أي الحكايات). في مساره المهني هذا، يبدو «الجنّة
الآن» أفضل فيلم سينمائي أنجزه هاني أبو أسعد حتى الآن، بمستوياته الفنية
والتقنية والدرامية.
|