«شيفرة
دافنشي» بين رواية وفيلم
قصة حرب
مقدسة تنتهي في متحف اللوفر
الوسط -
نبيل
عبدالكريم
توقع
الكثير من المعجبين برواية «شيفرة دافنشي» أن يكون الفيلم على
سوية الرواية التي
اكتسحت الأسواق وباعت حتى الآن قرابة 40 مليون نسخة.
إلا
أن
التوقع لم يكن في محله نظراً إلى ذلك الفارق بين رواية تعتمد الألغاز ولغة
الأسرار وشريط سينمائي يريد نقل القصة من خلال سرد كل
المحتويات. وهذا من الأعمال
الصعبة لأن القدرة على حبك الرواية كتاباً يختلف عن نقل عناصر الموضوع
الشائك
بمختلف وجوهه من خلال الكاميرا.
حاول مخرج
فيلم «شيفرة دافنشي» تقريب حكايات
القصة قدر الإمكان إلى المشاهد. ونجح في مهمته إلى حد ما لكنه فقد السيطرة
على
تتابع المشاهد نظراً إلى ذاك التداخل بين العناصر المختلفة. فالرواية دمجت
التاريخ
بالعقائد بالإشارات بالرموز إضافة إلى مطاردات بوليسية يصعب
فكها من دون الوقوع في
التطويل السردي.
الفيلم
الذي يعرض الآن في سينما الدانة جيد الصنع لكنه أقل من
المتوقع، وذلك لسبب يعود إلى نجاح الرواية في مخاطبة الملايين من خلال سرد
قصصي دمج
مجموعة عناصر في سياق هادف. الفيلم قارب الرواية لكنه كان أقل منها في
مستوى إمساك
المخرج مختلف خيوط اللعبة. وحين تكون التوقعات عالية وتفوق
التصور تصبح المقارنة
بين الرواية والفيلم غير عادلة. فالمخرج تجرأ على معالجة موضوع شائك ومن
أصعب
المناطق حساسية وخصوصاً حين يتناول في جوانب منه مسائل عقائدية تمس إحساس
مئات
الملايين من البشر.
وبما أن
السينما مكشوفة أكثر من الكتب وعدد المشاهدين عادة
أوسع من القراء تصبح مهمة المخرج أصعب لأنه سيتعرض للنقد أكثر سواء من جهة
المعجبين
بالرواية أو من جهة الرافضين لها.
«شيفرة دافنشي» من الأفلام الروائية المعقدة
التي تتشابك فيها مجموعة حقول تجمع بين التاريخ والأساطير والإشارات
المبهمة أو
الرموز الدالة على تناقضات سلبية وإيجابية في آن. فالإشارات
والرموز تختلف في
دلالاتها بين ثقافة وأخرى، وتتبدل معانيها بين زمن وآخر. وأحياناً تكون
الرموز جيدة
وإيجابية في تقاليد شعب وتدل على العكس في تقاليد شعوب أخرى.
فالمسألة نسبية وتتغير
رؤيتها بحسب المكان والزمان... وعندما تختلف الرؤية بهذه المقادير يصعب على
الراوي
أو المخرج أو المشاهد أن يقدم قراءة موحدة أو مقنعة. فلكل طرف
زاوية ينظر منها إلى
الأشياء. وتزيد المشكلة صعوبة حين تكون تلك الأشياء مقدسة عند البعض وغير
ذلك عند
البعض الآخر.
المسألة
إذاً تتصل بالقراءة والرؤية والزاوية التي ينظر منها
المشاهد إلى فيلم «شيفرة دافنشي». يبدأ الشريط في متحف اللوفر الفرنسي
وتحديداً من
تلك الباحة الواسعة التي أقيم في وسطها هرم زجاجي مفتوح على
السماء وفي الآن يستخدم
ممراً أو مدخلاً للمتحف الشهير في باريس.
بداية
الفيلم هي الهرم الزجاجي في
اللوفر وأيضاً نهايته تتوقف هناك. فالقصة تبدأ من تلك الردهات التي يطارد
فيها أحد
الجاملين للأسرار. وتلك الأسرار هي عبارة عن شيفرات وضعها دافنشي وتدل على
خريطة
طريق تنكشف فيها أحد أسرار الكنيسة وتمس الجوهر المقدس في
الديانة
المسيحية.
الخطورة
هنا. فالموضوع الذي سرد في إطار مطاردة بوليسية تتضمن مجموعة
حلقات مترابطة السلسلة وصولاً إلى نهاية القصة لا يتحدث عن مسألة عادية بل
يحاول
إعادة النظر في مقدس يعتبر من ثوابت المسيحية. وبسبب هذه
الجرأة غير المتوقعة في
تناول جانب تاريخي حساس ومسكوت عنه احتجت الكنيسة الكاثوليكية على الفيلم
واعترضت
على استخفافه بإيمان ملايين الناس وطالبت بمنع عرضه في دور السينما حتى لا
تنشأ
حساسيات تزعزع مفاهيم متوارثة ومتفقاً على قدسيتها.
الفيلم
بدأت دور السينما
بعرضه وسط ضجة كبيرة أحدثتها احتجاجات الكنيسة التي وجهت
انتقادات قوية قبل مشاهدة
الشريط. ولذلك حين أعلن بدء العروض زحفت الملايين في العالم لمشاهدة تحفة
سينمائية
كما توقع الجميع. ولكن الشريط الذي يحاول ربط كل عناصر الرواية فشل في
القيام بهذه
المهمة بسبب تلك التعقيدات التي قد تكون مقنعة كرواية لكنها
ليست كذلك كقصة مصورة
في
شريط سينمائي.
جوانب
الفيلم
تتألف
عناصر الفيلم من جوانب مختلفة. فهناك
أولاً الرموز والأرقام والألغاز والإشارات الغامضة أو الدالة. وهناك ثانياً
قصة
تاريخية دينية تتحدث عن تلك الاجتهادات في تفسير المسيحية وخصوصاً في
بداياتها
الأولى. وهناك ثالثاً اختلاف وجهات النظر بين المسيحيين في
تحديد طبيعة المسيح،
فبعض الفرق تتحدث عن طبيعة واحدة وبعض الفرق تتحدث عن طبيعتين. وهناك
رابعاً اختلاف
الرؤية في الأناجيل والتوافق الكنسي الذي حصل في مجمع نيقية في
القرن الرابع
الميلادي فاختار من كل الأناجيل خمسة (متشابهة) وحذف ما تبقى وأمر بإحراقها
ومنع
تداولها متهماً كل من يروج لها بالهرطقة. وهناك خامساً قصة سرقة تابوت يقال
إن مريم
المجدلية مدفونة به من بيت المقدس في فترة حروب الفرنجة في
فلسطين قبل ألف سنة.
وهناك
سادساً ذاك التواطؤ الذي حصل بين مجموعة أطلق عليها «فرسان الهيكل» وكنيسة
روما ويقوم على فكرة سرقة التابوت (مريم المجدلية) وإخفاء مكانه ومعالمه.
وهنالك
سابعاً قصة انتقال التابوت من مكان إلى آخر لحفظ السر المقدس
ومنع نمو تلك
المعتقدات التي تفصل بين الصانع والأنبياء والرسل.
كل هذا
الكم من التداخلات
يمكن حصره في رواية مقنعة للقارئ لكنه من الصعب تحويله إلى صور
تقنع المشاهد.
فالكاميرا
قوية حين تكون مكلفة بنقل سيناريو متماسك موحد الاتجاهات، ولكن قدراتها
تضعف حين تتداخل السيناريوهات ويختلط التاريخ بالزمن المعاصر.
أهمية
الرواية
أنها تستخدم التاريخ كمادة زمنية معاصرة وتضع تلك الأساطير
والأسرار وخفايا الكنيسة
وتاريخها المظلم واستبدادها بالرأي حرصاً على مصالح تربط أصحاب المؤسسة
بفكرة واحدة
تقوم على معتقد ديني مقدس.
الرواية
نجحت في تفكيك الرموز وحاول الفيلم نقل تلك
المتتاليات في سياق متماسك لكنه فشل في التقاط كل العناصر وتحويلها إلى عمل
مقنع
للمشاهد. فالعمل لا يتحدث عن زمن مضى بل إنه ينقل الماضي إلى حاضر في صورة
مطاردات
بوليسية تبدأ في ردهات ودهاليز اللوفر.
يبدأ
الفيلم من اللوفر الذي تقع فيه
جريمة قتل. وفي اللحظة التي يسقط فيها هذا القتيل الذي يترك إشارات ترمز
إلى ألغاز
وأسرار تبدأ مطاردة من نوع آخر بين الشرطة المخترقة من منظمة دينية تابعة
إلى
الكنيسة وعالم في تفسير تلك الرموز وشابة تعمل مع الشرطة على
صلة قربى بذاك
القتيل.
هناك إذاً
مطاردة معاصرة بوليسية بامتياز تلاحق مجموع رموز تتصل
بالتاريخ والمقدسات وتطول الكنيسة وموقعها المقدس في ذاكرة الغالبية من
المسيحيين.
«شيفرة دافنشي» موجودة في المتحف خلف لوحة «الموناليزا». وأيضاً لها
صلة بتلك اللوحة التي ترسم «العشاء الأخير» بين السيد المسيح
وتلامذته الـ .12 ومن
خلال رسومات دافنشي تبدأ مراجعة التاريخ ومدى صحة تلك الروايات المنقولة عن
ألوهية
المسيح. ولماذا تحرص الكنيسة على إخفاء ذاك «السر» الموجود في تابوت «مريم
المجدلية».
هذه هي
القصة بينما الرواية فإنها ممتدة على أكثر من بعد. والبعد
الأخير يقوم على فكرة التشكيك بتلك الرواية الرسمية المنقولة عن الكنيسة.
هذه
النقطة تشكل صدمة للمؤمنين لذلك بدأت الفرق تطارد بعضها حتى لا
ينكشف السر المقدس
تلك الكأس التي شرب منها المسيح في ليلة العشاء الأخيرة. دافنشي في لوحته
لم يضعها
على الطاولة بل رسم إلى جانب المسيح صورة غامضة وهي لتلك السيدة مريم
المجدلية.
النقطة
تمس إذاً قداسة السيد المسيح. وأيضاً الفكرة ليست بعيدة عن تلك
الصورة التي يرسمها القرآن الكريم في آياته. وهذه الصورة التي تعتبر عادية
في تفكير
المسلمين ومعتقدهم مرفوضة عند المؤمنين وخصوصاً أتباع الكنيسة
الكاثوليكية.
الرواية/
الفيلم يتحدث عن هذا الجانب المقدس عند فئة واسعة من البشر بينما هو ليس
مقدساً عند فئة أخرى من الناس. والمطاردة التي تحصل هي لمنع انكشاف السر
الموجود في
تلك الشيفرة التي
وضعها دافنشي وترمز إلى إشارات تدل على المكان المدفون فيه تابوت
مريم المجدلية. وهذا التابوت إذا فتح ستنهار بسببه معتقدات الملايين من
البشر.
هذه
الرسالة الأخيرة التي يريد الفيلم (الرواية) إيصالها. هل نكشف
الحقيقة أم نترك الناس على إيمانهم؟ وما الفائدة من قول الحقيقة إذا كانت
في الأخير
لن تقدم الشيء الجديد سوى تخريب القديم؟
ينتهي
الفيلم على نهايتين ساذجتين:
الأولى أن
الشرطية (المحققة) هي آخر الأبناء من سلالة مريم المجدلية (وهذا يعني أن
المسيح بشر أرسله الله إلى الناس) والثانية أن تابوت مريم المجدلية مدفون
في اللوفر
وتحت الهرم الزجاجي المنصوب في باحة المتحف.
النهاية
ضعيفة ومضحكة لكنها كانت
كافية لإشعال معركة عقائدية أعلنتها الكنيسة معتبرة أن الفيلم (الرواية)
تجاوز حده
وأساء إلى مشاعر المؤمنين بألوهية المسيح (طبيعة واحدة) وأعاد
فتح ملف أغلق منذ 1600
سنة حين
أحرقت الأناجيل التي تعاكس تلك الفكرة وهي قريبة في تصورها عن صورة
المسيح التي وصفت في الآيات القرآنية.
المسألة
إذاً تبدأ في متحف وتنتهي في
متحف. فهذا أصبح من التاريخ ولا ضرورة لإعادة فتح ملفات تحولت إلى قناعات
ثابتة عند
الملايين. والمسألة أيضاً تتصل بالزمان والمكان واختلاف رؤية
البشر للرموز والألغاز
والإشارات بسبب اختلاف الثقافات. فلكل ثقافة سرها ولكل حضاره طقسها...
لتترك
الأشياء على حالها كما وصلت من زمن سابق.
أوليفر ستون يقدم من خلال فيلمه هذا، إدانة جديدة
لأمريكا وجنودها، كما يقدم إدانة لكل الحروب بشكل أو بآخر. لقد قدم
المخرج فيلماً متقناً في
حرفيته، يعد من بين أهم أفلام الحركة والتكنيك السينمائي الأمريكي،
ولكن هذا لا
يجعله يتميز كثيراً عن الجيد من أفلام حرب فيتنام.
|