يفتتحُ المخرج السعوديّ
ممدوح
سالم فيلمه التسجيليّ (ليلة البدر) بمشهد (تمثيليّ)، حيث يجلس خلف
مكتبه في
غرفة مظلمة، يُضيء شمعةً، ويتفحصّ أغلفة كتب مبعثرة أمامه،
نقرأ عناوين بعضها :
الأمم
والقومية، سقوط الحضارة، العولمة...
وبتضخيم المؤثرات الصوتية المُصاحبة
(علبة
الكبريت، إشعال العود، وضع الكتب جانباً، وحسرة تأففّ، وعدم رضي..)
يُجهز
المتفرج نفسه لمتابعة أحداث روائية، ولكن، عندما يجد المخرج كتاباً
يلفت انتباهه
(لم نقرأ عنوانه، ولكننا سوف نفهم لاحقاً محتواه، وأسباب اختياره)، تُشاركه
الموسيقي فرحته، فينقلنا مباشرةً إلي حيّ شعبيّ، ليتضح بأننا
سوف نتابع فيلماً
تسجيلياً عن العادات، والتقاليد في المجتمع السعوديّ .
هنا، يثير الفيلم
إشكاليةً حقيقيةً في فهم مبررات اللجوء إلي الصياغة التسجيلية،
والروائية، ونعرف
مسبقاً بأن السينما ـ وعلي طول تاريخها ـ لم تضع أيّ عائق يحول
دون التداخل،
والتعشيق بينهما، ولم ترفض استخدام التمثيل لإعادة تجسيد أحداث حقيقية
(وهو ما يحدث
عادةً في أفلام التاريخ، أو تلك التي ترتكز علي تحقيقات عن
جريمة ما)، ولكن، أن
يبدأ
(ليلة البدر) بمشهد يُضخم حيرة المخرج أمام مواضيع ملتهبة، واختياره
لكتاب
بعينه
سوف ينساه تماماً فيما بعد، وهو يسترسل في بحثه عن الذكريات القديمة،
والجديدة لمظاهر الفرح في المجتمع السعودي، سوف يجعل ذلك
المشهد التمثيليّ (مُصطنعاً)،
و(دخيلا)ً علي فيلم تسجيليّ يحتاج بدوره إلي دعامات متينة لإنقاذ
صياغته السينمائية، والدرامية الهشة من الانهيار.
وسوف يسأل المتفرج المُتدرب
نفسه:
ما هي الإضافات الحقيقية لمشهد تمثيليّ كهذا ؟ ولماذا لم يتوجه المخرج
مباشرة
نحو موضوعه بدون اختطاف، والتفاف؟
ومن وجهة نظر تطبيقية، أدعو المخرج أن يتخيل
فيلمه بدون ذلك المشهد التمثيليّ (درامياً: يعني حذفه من
السيناريو تماماً،
وسينمائياً: يعني حذفه بالكامل في مرحلة المونتاج)، كي يتأكد بنفسه من
النتيجة، ومن
ثم
الإجابة عن سؤال بديهيّ : هل تتحطم بنية الفيلم، أم تصبح أكثر تماسكاً؟
دعونا
ننسَ
(أو نتناسَ) ذلك المشهد التمثيليّ، ونتابع الجانب التسجيليّ بدخول
الكاميرا
منطقةً شعبيةً تنضح زخماً، وحياة (حيّ البلد 2، زقاق هزازي 7)، تصاحبها
الموسيقي
(وهي عادةً تُضعف من تسجيلية الصورة).
هنا، يُسجل الفيلم نقاطاً إيجابية لصالحه،
لأن فكرة رصد العادات، والتقاليد في مناطق شعبية هي في حدّ
ذاتها مثيرة، بعيداً عن
الصور
المُتداولة تلفزيونياً، والتي تدور عادةً في فلك: الجانب الدينيّ،
الثراء،
الحجاب الفكري، والمظهري .
ويأتي (ليلة البدر) ليقدم لنا صورةً لا نعرفها عن
المجتمع السعودي، قريبة الشبه من الأحياء الشعبية في أيّ مدينة
عربية، ويوثق لأماكن
مألوفة، ويمنح الكلمة للأهالي.
ما يُفسد تلك البهجة، ذاك الأسلوب التلفزيونيّ
الطاغيّ، والذي بدأه مع (أبي سعيد) الثمانينيّ، .. وتكرر مع
آخرين، وكان عليه ـ علي
الأقلّ ـ أن يتفادي تلك الأخطاء التقنية المُتكررة: التوافق المونتاجي
(الراكور) ما
بين
اللقطات المُتتالية، ظهور الميكروفونات معلقةً علي ملابس المُتحدثين،
وكأننا
نستمع إلي دردشة تلفزيونية، أسئلة المخرج المُوجهة للمُتحدثين،
الانتقال المُفاجئ
من
موضوع إلي آخر.
والمُفارقة الغريبة، أنّ كلّ هذه الأخطاء، وما يشبهها مقبولة
في التحقيقات التلفزيونية، ولا يهتمّ بها أحد، لا المتخصصون،
ولا الجمهور علي
السواء .
وربما كانت اللهجة المحلية عائقاً لفهمي للعلاقة ما بين ذكريات
(أبي
سعيد)، واللقطات الأرشيفية المُذيلة بالعناوين التالية:
ـ يماني الكف عام 1380
هـ
للفنان عمر عيوني.
ـ المزمار عام 1385 هـ.
ـ الصهبة عام 1380 هـ.
ولكن،
بدءاً
من تلك اللقطات، بدأت أحاول جاهداً اللحاق بمسارات الفيلم المُتعددة،
والمُتشعبة : الحاج أبو سعيد، الحاج محمد حبيب، الحاج نبيل سعيد
مهدي،.......
(لماذا
الإصرار علي معرفة أعمار هؤلاء دون غيرهم؟)، الحيّ الشعبي، المزمار،
الفنون
الشعبية، الرقص، الأهازيج، المواد الغذائية، التحضير لشهر رمضان، ماء
زمزم،
مأكولات، ومشروبات رمضان، المسحراتي، طقوس العيد، الزيارات،
ألعاب الأطفال،
الخطوبة، الزواج التقليدي، طقوس العرس، تجهيزات العرس، الحنة، الصبحية،
........يااااااه.
تجدر الإشارة الي أن كلّ المعلومات التي نسمعها محكية علي
لسان المُتحدثين رجالا،ً ونساءً، تدعمها بعض الوثائق البصرية
القديمة، والحديثة،
ولقطات تسجيلية مُبتسرة.
وما عدا بعض سكان الحيّ، من هم أولئك المتحدثين، وما هي
صفتهم الاجتماعية، أو العلمية؟
كان من البساطة أن تتابع الكاميرا، وترصد
بتلقائية، بدون الحاجة إلي تلك التعليقات، والتفسيرات، وبدون
أسئلة، وأجوبة يعرفها
المتفرج السعودي، والعربي عن ظهر قلب، ويمارسها في حياته اليومية
بفطرية.
هل كان
من
الضروري (مثلاً ) تعليق أحدهم بأن الأطفال يرتدون أجمل ملابسهم في
العيد تعبيراً
عن فرحتهم بهذه المناسبة ؟ أو شرح إحداهنّ بأن السيدة السعودية
تهيئ الطعام طوال
فترة
أيام رمضان، وتأتي في اليوم السابق للعيد، وتجهز ما لذّ وطاب لأيامه
الثلاثة
حتي
ترتاح من عناء الطبخ، ....
وفي (حارة المظلوم)، هل كان من الضروري أن نسمع
رجلاً يقول : وتكثرُ الألعاب الشعبية... وفي نفس الوقت، نشاهد
أطفالاً يلعبون،
ويلهون علي خلفية أغنية للفنان السعودي (محمد عبده)، ولقطات احتفالية
لمدينة سعودية
ليلاً
تنطلق في سمائها بعض الألعاب النارية،......
نحن أمام فيلم يشرح فيه
الكبار كيف يقضي الصغار أوقاتهم خلال أيام العيد، والمنطقي بأن يتولي
الصغار أنفسهم
هذه المهمة، والأفضل بأن نشاهدهم فقط، بدون أيّ شرح، وتفسير.
وكان من المفيد
أيضاً
أن تركز الكاميرا علي لقطات حصلت عليها، وتدع جانباً تلك التي تقدمها
القنوات
التلفزيونية الدينية في هذه المناسبات.
لقطات تفيض بمعلومات تهمّ برنامجاً تبثه
القنوات التلفزيونية أيام رمضان، وقبل العيد مباشرةً، وخلال أيامه،
كجزء من الصور
اليومية التي يستهلكها المشاهد طوال ساعات النهار، والليل،
ولكنها تبعث علي
الاستياء، والملل، والضجر عندما تكون مادةً لفيلم تسجيلي يهتم برصد
الواقع
الاجتماعي (وتحليله)، أو توثيق المخزون الشعبي، الشفاهي، والصوتي،
والبصري في أفلام
متمهلة، وليس رصّها، وتجميعها في فيلم واحد يشتت المتفرج، بدل
تزويده بالمعرفة،
وفتح
آفاقه الذهنية .
وطوال المدة الزمنية للفيلم، فإنّ أكثر ما يلفت الانتباه
في شريط الصوت، تلك التداخلات الصوتية ما بين التعليقات،
والمؤثرات، والأغاني،
والموسيقي التي كانت تظهر، وتختفي، وتعلو، وتنخفض بحرية، وبدون توافق،
وهارمونية،
ولم
تسعفها عملية مزج الأصوات (الميكساج)، مما أوصلها إلي حالة من الفوضي
الصوتية
أثقلت إيقاع الفيلم المُرهق أصلاً.
الأكثر طرافةُ في الفيلم، هي الدقائق
الأخيرة منه بالتحديد، أهزوجةٌ شعبيةٌ تصاحب لقطات طفلة صغيرة مبتهجة
بمولود، أو
مولودة جديدة، وهنا يكشف (ممدوح سالم) عن أرشيفه الشخصيّ،
ويقدم (فيديو كليب) داخل
فيلمه
التسجيلي، وعلي طريقة المونتاج الذي يستخدمه مصورو الحفلات،
والمناسبات،
يُسرّع من حركة الطفلة، يُقدّم، ويُؤخر، كي تتوافق حركتها مع إيقاع
الأهزوجة،
وموسيقاها.
(وبالمناسبة،
أقترح علي المخرج أن ينجز فيلماً خاصاً عن الأهازيج في
السعودية)، هناك واحدةٌ جميلة الموسيقي، والمعني، تقول كلماتها :
ـ غربللو، يا
غربللو، خللي الصايغ يعملو قفة ذهب،...
وأختتم، كان الفيلم بحاجة فعلاً إلي (غربلة)،
وأعني بها التدقيق، والاختيار، والحذف، تماماً مثل الصائغ الذي يصنع
حليةً
ذهبيةً مدهشة.
واستيحاءً من كلمات أهزوجة أخري ليست أقل جمالا،ً وحلاوةً من
سابقتها، أقول: ـ يا رب يا رحمن، بارك بـ (ليلة البدر)،
ودعنا نستمتع لاحقاً بعمل
آخر
أكثر تماسكاً، وإتقاناً.
ويكفي بأن يُحصي (ممدوح سالم) مظاهر الفرح التي
رصدها في فيلمه، كي ينجز أفلاماً أخري متأنية بعددها.
ليلة
البدر:
تسجيلي،
ميني
دف، 31 دقيقة ملون، وأبيض، وأسود، إنتاج : رواد ميديا للإنتاج، المملكة
العربية السعودية عام 2007
سيناريو، إخراج، وتمثيل : ممدوح سالم
رؤية فنية :
خالد
ربيع
مدير التصوير : عبد الرحمن بن سهل
تصوير: حسن الكاف
مونتاج،
وتحريك : عبد العزيز سليماني
الموسيقي: ألحان من التراث الحجازي، ومقاطع من
أغاني الفنان السعودي محمد عبده
ممدوح
سالم:
بدأ العمل في المجال الفنيّ عام
1995
من
خلال مسرح جامعة الملك عبد العزيز بجدة، ثم التحق بجمعية الثقافة،
والفنون،
وحصل
علي دورة في الفنون المسرحية.
في عام 2000 قام بتأسيس فرقة مسرحية باسم
فرقة الرواد للمسرح الشامل ، اهتمت بمسرح الطفل، وشاركت في
العديد من المهرجانات
المسرحية، والسياحية، وتحوّلت الفرقة عام
2005
إلي
مؤسسة إنتاج فنية باسم رواد
ميديا
نظم من خلالها أول مهرجان سينمائي سعودي عام 2006، وعرضت فيه مجموعة من
الأفلام الخليجية.
يبلغ رصيده الفني 27 عملاً مسرحياً، و24 مشاركة تلفزيونية
(برامج، ودراما).