بعد
الإعلان عن الأفلام التسجيلية، والروائية القصيرة المُشاركة فى
المُسابقة العربية لمهرجان دبيّ السينمائى الدولى 2006، وخلال فترة
انعقاد المهرجان نفسه، وجّه لى بعض الأصدقاء السينمائييّن انتقادات
مُستغربة عن اختيار الأفلام المصرية الروائية القصيرة، ومنها "قطط
بلدي" لمخرجه تامر البستاني.
وفى
الوقت الذى يمتلك كلّ واحد منّا ذوقاً شخصياً، وأسباباً خاصةً تجعله
يميل إلى هذا الفيلم، أو ذاك، لم أستطع فى وقتها الدفاع عن موقفي، فقد
شاهدتُ الفيلم مرةً خلال اختيارات الدورة الثامنة لبينالى السينما
العربية فى العام نفسه، ولم يحظ على أصوات الأغلبية، ومن ثم مرةً ثانية
خلال اختيارات الدورة الثالثة لمهرجان دبيّ السينمائي، وتمّ اختياره.
وعلى
الرغم من نسيان الكثير من تفاصيله، فقد بقيت أجواءه عالقةً فى ذهني،
ومع التحضير لتظاهرة "سينما الطريق"، والتى انعقدت فى إطار الدورة
السادسة لمُسابقة أفلام من الإمارات فى "أبو ظبي" خلال الفترة من 7
وحتى 13 مارس- آذار الماضي، شاهدتُ الفيلم للمرة الثالثة، ولم يعدّ
لديّ أدنى شكّ فى إعجابي، ورغبتى بالدفاع عنه.
بدايةً، بررت ذلك بمطابقة الكثير من أحداثه، وشخصياته الرئيسية مع ما
حدث لى بالضبط فى القاهرة، وأيامى الأخيرة فيها : دراستى للسينما، حبّ
مجهضّ، قطةً منزلية، سيارة فولكس حمراء،.... وحتى سفرى إلى إيطاليا،
ومن ثمّ فرنسا، ومع كلّ هذا التشابه، فإننى لم أكن وحدى فى لجنة اختيار
الأفلام التسجيلية، والقصيرة لمهرجان دبيّ، فقد ضمّت فى عضويتها أيضاً
كلّ من:
قيس
الزبيدى من العراق "مخرج، مونتير، وباحث سينمائي"، محمد رضا عباسيّان
من إيران "مخرج سينمائي"، كاتارينا بيترز من ألمانيا الاتحادية "مخرجة
سينمائية"، أيمن صالح من البحرين "ناقد سينمائي، مؤلف، ومترجم".
فهل
وجد هؤلاء الأربعة أنفسهم فى أحداث الفيلم، وشخصياته؟، لا أعتقد ذلك،
مما يؤكد بأنه يمتلك جاذبيةً خاصّة بالمُقارنة مع غيره من الأفلام
القصيرة المُرشحة للمُسابقة، وهنا، سوف أحاول الكشف عنها، بدون ادعاء
ذائقة سينمائية"مطلقة" لا تحتمل النقاش، والجدل.
فى
"قطط بلدي"، وحالما نشاهد امرأةً ما تسير فى طريق ليلاً، تصاحب خطواتها
موسيقى تعلو تدريجياً، وتختلط بمواء قطط أليفة تلتف حول يدّ حانية تقدم
لها طعاماً، نفهم السبب الذى جعل تامر البستانى يُهدى فيلمه إلى روح
الفنان عزّ الدين ذو الفقار، وفيلمه الأشهر "امرأة فى الطريق" 1958،
بطولة: رشدى أباظة، هدى سلطان، شكرى سرحان، زكى رستم.
تفوح
من تلك اللقطة الافتتاحية استعارةً أدبيةً واضحةً تربط ما بين القطط
الشاردة فى شوارع القاهرة "والمعهود بأنها وسخة، وشرسة"، وامرأة هائمة
ليلاً تبحث عن رزقها، ولكن، ما هو مُفاجئٌ، تلك الألفة التى منحها
البستانى لقططه، والعاهرة على السواء، هذه الصفة التى سوف ينضح بها
الفيلم لاحقاً بكلّ ما يتضمّنه من شخصيات، وحيوانات، وأشياء، وديكورات
طبيعية، واصطناعية، وهنا، فإننى أميل إلى تحديد زمن الفيلم فى الماضي،
مع أن أحداثه تجرى فى الحاضر، القاهرة اليوم، وأتخيّل بأنّ البستانى
تردّد كثيراً قبل تصويره بالألوان، وكان يرغب صورةً بالأبيض، والأسود.
ومع
ذلك، تهيم روح الماضى فى أجواء الفيلم، وتمنحه جاذبية، وسحر الأفلام
الرومانسية التى ظهرت فى تاريخ السينما المصرية فترة الخمسينيّات،
والستينيّات من القرن المنصرم، بدون أن تفقده معاصرته.
وفى
اللقطة العامة البانورامية التالية من الفيلم، تسترخى القاهرة على
ضفتيّ النيل، فتزداد حلاوةً، وهكذا، فإنها لا تبدو كما هى حالياً،
ولكن، كما يريدها المخرج أن تكون، وهو بالضبط ما يعبر عنه "أمير" فى
مونولوج داخلى يصاحب لقطات أخرى للسماء، والمياه، والنخيل،...
ـ
القاهرة، ليه محلوّة فى عينيّ؟ يا ترى كل الناس شايفاها حلوة كده، ولاّ
أنا بسّ عشان ح أسيبها بعد بكرة.
ها هو
السيناريو يُعلن على لسانه عن رحلة مُرتقبة، تتأكد عندما يقود سيارته
الفولكس الحمراء فى شوارع القاهرة، ويتحدث تلفونياً مع والده، يخبره عن
عدم رغبته اللحاق به فى دبيّ، ونيته الأكيدة بالسفر إلى روما ليدرس
السينما هناك، وفى الوقت الذى نستشعر من صوت الأب بعض الخيبة،
والمرارة، تعلو الموسيقى مبتهجةً.
لقطات
رومانسية للشوارع، هادئة، ساكنة، أليفة، ووديعة، إنها قاهرةٌ جميلةٌ
فعلاً كما يشعر بها "أمير" قبل أن يغادرها، هو يراها هكذا، تصاحبها
موسيقى حانية، تنضح بالشجن، وتثير الذكريات، هى الأحاسيس التى ترتسم
على وجهه، وفى عينيه الحزينتين، وملامح ابتسامته الهاربة.
وليسَ
من قبيل الصدفة أن تطول المدة الزمنية لهذه اللقطات، وتتداخل مونتاجياً
بصحبة الموسيقى حتى تنتهى لتُصاحب عناوين الفيلم.
يغادر
"أمير" سيارته الحمراء، ويمشى قليلاً كى تلتقى عيناه بملصق فيلم
"امرأةٌ فى الطريق"، وفيه "رشدى أباظة" عارى الصدر، تستعدّ شفتاه
لالتقاط شفتيّ "هدى سلطان".
"أمير" مغرمٌ إذاً بشاعر السينما المصرية عزّ الدين ذو الفقار،
وأبطاله، والسينما بشكلّ عام، لا يتردّد بمشاهدة الفيلم فى إحدى
الصالات "ولكن، أيّ واحدة فى القاهرة تعرض هذا الفيلم اليوم؟".
تلك
الأجواء الحلميّة ـ إن صحّ التعبيرـ تجعلنى أتغاضى عن هذا التساؤل،
ولكنها، تؤكد فكرتى عن ميل المخرج لأن تكون أحداث فيلمه فى الماضي.
ومن
هضبة عالية بمحاذاة الأهرامات، يتطلع "أمير" إلى القاهرة المُنبسطة
أمامه على مدى البصر:
ـ
عمرى ماحسّيت إنى بحبّ المدينة دى قدّ اللحظات اللى أنا بعيش فيها دي.
ومن
الطبيعى بأن يتعاطف المتفرج معه، والمدينة، وهو يجول فيها، ويراها كما
يتمنى"ونتمنى" أن تكون.
تتضافر معها لقطاتٌ أخرى، وتدعمها فى نفس السياق، الشوارع، محل صغير
لبيع الفول، والطعمية، مقهى شعبي، نارجيلة، وشلة أصدقاء.
هو
يقول: ح توحشوني.
واحدٌ
منهم ينفعل: ياعم إنت رايح إيطاليا، رايح لقطط روما.
وبوحشة يردّ : ولوّ هو فى زيّ قطط بلدي.
يدٌّ
حانيةٌ تقدم قطع اللحم لقطط شاردة، وبين مواء، وغرغرة، يقتحم الصورة
ساقا امرأة، وتنخفض الموسيقى محذرةً، وكأنّ هذه الشخصية المُفاجئة/أو
المُتوقعة سوف تغيرّ من مجرى الأحداث. كانت قدما المرأة تتوجهان نحو
مقهى، وكأنها على موعد مسبق مع "أمير" لتختطفه من وحدته، بينما تختلط
الموسيقى مع إيقاعات طبلة، وضربات حذاء مدببّ فوق الأرضية الصلبة، هذه
المرأة التى قلبت أحداثاً فى أفلام مصرية كثيرة، فهل أرسلها القدر كى
تغير من مجرى حياة "أمير"؟ لحسن الحظ، لا، إنها امرأةٌ عابرة، وسوف
تشكل ذكرياته الأخيرة فى القاهرة، وتجعله قريباً جداً من القطط البلدى
التى يحبها، ويُطعمها بيديه.
عينا
"أمير" تلاحقها، وتصوبا سهام الرغبة نحو صدرها العامر بالأنوثة.
وهنا،
يستخدم البستانى استعارةً شهوانيةً "من الماضي" عندما يقدم لقطةً
كبيرةً لثدييّن يختبئان خلف فستان من الدانتيل، وكأس بيرة يمتلئ،
وتنسكب رغوته فوق الطاولة.
لقاء صدفة ينتشل "أمير" من لحظات الحنين الأخيرة، ويشدّه إلى الحاضر،
إلى قطة بلدية حقيقية من قططها الليلية، اسمها "دنيا"، ونعرف، كما يعرف
"أمير" بأنه اسمٌ مستعار.
لا
ينتظر السيناريو كثيراً، ولا "أمير" كى تعلن "دنيا" عن الـ500 دولار،
وفوراً، ثمناً لهذه المتعة.
فكرةٌ
ذكيةٌ بأن نسمع مُفاصلةً غريبةً بينهما فى مونولوج داخلي، وهما فى
طريقهما إلى بيت "أمير"، وهى لا تريد أن تقارن نفسها بـ"نفيسة، بتاعة
الفيلم إياه التى رضيت بخمسة صاغ اللى ترمى لها من شباك التاكسي".
يبدو
بأن "أمير" لا يعانى من أيّ أزمة مادية، سيارة فولكس حمراء جديدة، شقة
جميلة، أبّ يعمل فى دبيّ يستطيع الإنفاق على ابنه، وسينماه، وهو بدوره
قادرٌ على الاستمتاع بقطة بلدية بـ500 دولار.
بعد
ليلة يختصرها البستانى بمشهد مركز، وفيه تدور الكاميرا حول السرير
دورات خفيفة، ولا تفارقه، وبمزج متتالى ما بين اللقطة الواحدة، بحيث
تظهر نفس الصورة فوق بعضها مع فارق بسيط يمنحها اهتزازات طفيفة، وهو ما
أكدته الإضاءة المُستخدمة.
بينما
تسيطر الآهات "الجريئة نسبياً فى السينما المصرية" على شريط الصوت،
وتُذكرنا بقوة بمواء القطط فى مشهد سابق.
وليس
صدفة أيضاَ بأن تظهر فى ذلك المشهد قطةٌ شعرت بوحدتها، فبدأت تموء
غيرةً من تلك الدخيلة، وهى تتجول فى غرفة النوم، فنشاهد جهاز عرض
سينمائى كجزء من الديكور، وصورةً كبيرةً لـعزّ الدين ذو الفقار، وكتاب
"أولاد حارتنا" قيّد القراءة، وعندما تسأله "دنيا": مين ده، باباك؟
يبتسم "أمير"، ويردّ : أيوه هوا.
تلك
إذاً المرجعية الأدبية، والسينمائية لـتامر البستانى نفسه، قصص،
وحكايات، نجيب محفوظ، وكل ما يمكن أن يُذكرنا بالحارة، وأهلها،
وناسها،.... والمخرج الراحل عز الدين ذو الفقار، والأفلام الرومانسية،
والسينما بشكل عام.
جهاز
العرض يُذكرنا برحلة "أمير" إلى إيطاليا، ويجعلنا نعتقد بأن الفيلم هو
نسيج خيالاته قبل السفر، وهو جزء من علاقته مع المدينة التى شاهدنا
صوراً منها فى البداية، خيالاتٌ، أو سيناريو قيّد الكتابة، أو فيلمٌ
داخل الفيلم، فهو يرجعنا إلى السينما دائماً، لقد استغرب بأن تعيد له
نقوده فهى لا تريد أن تتعامل معه كعاهرة، هى بدورها استمتعت بمذاق "المانجة"...،
لقد تخطت علاقتهما من عاهرة، وزبون، وهى تنتهج مساراً رومانسياً يتأكد
مع رغبة الطرفين بقضاء وقت ممتع فى نزهة ليلية مثل عاشقين.
والقاهرة دائماً جميلة، فى الليل، كما فى النهار، شوارعها، جسورها،
أحياءها الراقية، أزقتها الشعبية، منطقة الحسين، خان الخليلي، أكلة
فطير مشلتت، لعبة طاولة، وقبلات فى سيارة فولكس حمراء مكشوفة،..."ألا
تُذكرنا كلّ هذه اللقطات بمثيل لها من أفلام الماضي"، وعودةٌ إلى
البيت، واحتضاناً على مقربة من صورة عزّ الدين ذو الفقار ـ الأبّ
الروحى ـ، وغيرة القطة مواءً.
تتسلل
الفتاة من أحضان "أمير"، وتخرج من منزله، يودعها من الشباك، يكتشف
بأنها استعادت الـ500 دولار التى أرجعتها فى الليلة السابقة، ولم يبقَ
له غير ضحكات منتشية، تختلط مع ضربات الحذاء المُدببّ للمرأة فوق إسفلت
الطريق، ومواءٌ حادّ لقطّة، وموسيقى شجية.
*
ناقد سينمائى سورى مقيم فى باريس
قطط
بلدى:
إنتاج، وإخراج "تامر البستاني"، سيناريو: تامر البستاني، هـ. العيتاني،
عن قصة "قبيّل الرحيل" من مجموعة "بيت سيء السمعة"، 18 دقيقة، إنتاج
عام 2005.
بطولة: خالد أبو النجا، رولا محمود.
"تامر
البستاني":
ولد
فى القاهرة عام 1969 ، درس الإخراج السينمائى فى روما، وعمل مخرجاً
مساعداً فى العديد من الأفلام الطويلة بين عامى 1997 و2004، وأخرج
عدداً من
الأفلام القصيرة : لعبة الحرب/1994، أجنحة الحرية /1995، وداعاً يا حبى
/1996