مهرجان برلين السينمائي في دورته التاسعة والخمسين ينطلق هذا
المساء
ساحة بوتزدامر معقل المواهب ما دون الأربعين من البيرو الى
ايران
أنغلوبولس في عواصف التاريخ وفريرز يصوّر علاقات باريسية خطرة
برلين ـــ من هوفيك حبشيان
الـ"برليناليه"
يفتتح هذا المساء دورة جديدة. انه،
بلا شك، المهرجان الذي وحّد الألمان حول مسلّمات العصر الحديث وقيمه. في
مدينة
تاريخية عظيمة الشأن، هي برلين، تحوي كل الغرائبيات، هذا المهرجان هو
الموعد السنوي
الأكثر رمزية: ليس من تظاهرة لعبت الى هذا الحد دوراً تاريخياً
في مصالحة شعب
والخروج من غياهب التاريخ منتصراً على الخراب وفخوراً بإنجازاته. اليوم،
ومع حلول
الذكرى الـ20 لسقوط جدار برلين، أمسى بعيداً زمن كان فيه الأوروبيون يلجأون
الى لغة
العنف لمخاطبة بعضهم البعض. وهل غير الفنون الجميلة والأدب
والسينما الأكثر قدرة
على مراقبة سلوك البشر وتغيراتهم؟
المُسافر
من وسط فرنسا (كليرمون فيران) الى
برلين، للمشاركة في الدورة التـاسعة والخمسين لـلـ"برليناليه"، لا بد أن
يعبر طبيعة
أوروبية صافية تغمرها الثلوج في أماكن، فيما الشمس تطل بأشعتها
الخجولة في أماكن
أخرى. رحلات طويلة في القطار تعبر التلال والوديان والبراري، تحت سماء شبه
غائبة
لشدة البياض، في حين يلوح في الافق فجر يوم مثمر بلقاءات كثيرة. فالسفر
والسينما
مصير واحد ومسارهما متلازمان. انهما اشبه بذهاب واياب بين
الواقع والمتخيل. من بلد
الى آخر يعرّفنا السفر الى أماكن وشعوب تصمد في الذاكرة الى الأبد. وما هي
السينما
غير هذا؟ تاريخ الشعوب والأمكنة مطبوع على مادة لاصقة...
لسنوات
خلت، كانت ساحة
بوتزدامر حيث تُعقد معظم تظاهرات المهرجان، خط التماس الذي فصل المانيا
الشرقية عن
الغربية. لكن، الآن تغيرت الأمور وصار هذا المكان يحتضن ثالث اكبر مهرجان
سينمائي
في العالم بعد كانّ والبندقية: الـ"برليناليه". الاسم مشتق من
مدينة لم يبق منها
شيء في سنوات الحرب العالمية الثانية سوى الخراب والدمار والبؤس. اياً يكن،
فبعد
عقود طويلة من العزلة، تحولت هذه المدينة "الرمزية" الى نموذج للهندسة
العصرية
يزورها 70 ألف سائح في اليوم. في مطلع شباط من كل عام، يجتاحها
عشاق السينما من
انحاء ألمانيا وأوروبا والعالم للاحتفاء بفن كبير كان له فضل كبير في لمّ
شمل "العائلة"
الألمانية.
ليس ثمة
ما هو أكثر بداهة من أن تحمل مدينة كوزموبوليتية
كبرلين راية السينما القائمة أصلاً على فكرة الاختلاف. فنحو من 40 صالة
موجودة في
هذه المدينة، لكن هذا العدد يكاد لا يكفي لسد جوع الألمان الى
المعرفة والاتصال
بالقرية الكونية بعد سنوات من الانغلاق والتقوقع! واذا كانت للألمان رغبة
في قلب
صفحة الماضي، فكل شيء في برلين يحضهم على تذكر أشباح التاريخ، بدءاً مما
يُعرض على
الشاشة من حين الى آخر، وعلى علاقة مباشرة بالتاريخ الألماني،
وصولاً الى هذا
الجدار، الذي لا يسع المهرجان هذه السنة أن يُعقد من دون الالتفات اليه،
وخصوصاً في
مناسبة مرور عقدين على انهياره.
بعد دورة
لم تخلّف ذكريات كبيرة، ها هي الطبعة
ما
قبل الستين (رئاسة لجنة التحكيم للممثلة البريطانية تيلدا سوينتون) تقترح
برنامجاً شائقاً، اقلّه في ظاهره وخطوطه العريضة، وفي
الانطباعات الأولى التي
يتركها هذا البرنامج لدى متابع الشأن السينمائي. فقائمة الأعمال المعروضة
تمنح
الاحساس بأنها اختيرت بعناية ودقة من جانب المدير الفني ديتر كوسليك، الذي
كان موضع
انتقاد شديد في الدورات الماضية. في انتظار أن ننفي هذه
الأحاسيس السابقة لأوانها،
أو
نؤكدها، نستطيع أن نؤكد شيئاً واحداً على الأقل، هو أن الأسماء الكبيرة،
الضرورية في كل مهرجان من الفئة "أ"، ستكون حاضرة على مدار الأيام العشرة
للمهرجان.
في المسابقة مثلاً، التي تضم 19 فيلماً، نجد الانكليزي ستيفن فريرز؛
اليوناني -
الفرنسي
قسطنطين كوستا - غافراس؛ الصيني تشن كاييغ؛ الفرنسيين برتران تافيرنييه
وفرنسوا أوزون؛ البولوني أندره فايدا... في حين أننا نعثر خارج المسابقة،
لكن
دائماً في الاختيار الرسمي، على كل من المعلم اليوناني تيو
أنغلوبولس والأميركي
الخارج على القانون بول شرايدر وجهابذة من مثل الايطالي السبعيني أيرمانو
أولمي
والبرتغالي مانويل دو أوليفيرا الذي تجاوز المئة من العمر، وهو أكبر معمر
سينمائي
لا يزال ناشطاً على الاطلاق.
التجربة
الأولى أو الثانية
هذه
الأسماء المكرسة تتجاور مع مَن هم اقل شأناً منها على مستوى
التاريخ والتجربة،
ويقارب عددهم نحو ربع المسابقة. هؤلاء الذين يبلغون منتصف الثلاثينات من
العمر،
يشاركون في المسابقة إما بفيلمهم الأول وإما بالثاني. ومَن يعرف؟! فقد تكون
جائزة
"الدب الذهبي" التي ستُمنح في ختام المهرجان، أي في الخامس عشر
من الجاري، من نصيب
واحد منهم، كما كانت الحال مع الفيلم البرازيلي "الفرقة النخبة" العام
الماضي. من
هؤلاء الوافدين حديثاً الى السينما، الألمانية الشابة مارين
أديه التي تنجز مع "كل
الآخرين" فيلمها الثاني وهي لا تزال في الثانية والثلاثين من عمرها. دراما
نفسية عن
ثنائي ألماني سيعيد النظر في علاقته بالعيش تحت سقف واحد غداة
تعرفه الى ثنائي آخر.
أيضاً في
المسابقة، شاب آخر من ايران هذه المرة هو أصغر فرحادي (1972) الذي يأتينا
بـ"في خصوص ايلي"، المتمحور على أحمد، الايراني الذي يعيش في المانيا منذ
زمن بعيد،
والذي يقرر زيارة وطنه الأم. علاقات متأزمة وحوادث غامضة في
هذا الشريط الذي هو
الثاني لمخرج ولد في اصفهان.
دائماً في
خانة المواهب الفتية، نجد مخرجاً
أرجنتينياً يدعى أدريان بينييز يدخل المسابقة البرلينالية بباكورته "جيغانته"،
بعدما عمل موسيقياً ومغنياً وكاتب سيناريو لمسلسل تلفزيوني اسمه "نهاية
العالم".
انها قصة عزلة في ضواحي مونتيفيديو. شاب في الخامسة والثلاثين
(العمر الذي يبلغه
المخرج) يعمل حارساً ليلياً في سوبرماركت. ذات يوم، سيتعرف الى خادمة، عبر
شاشة
المراقبة، ويهتم بمصيرها. مخرج آخر، في الخامسة والثلاثين، هو البريطاني
بيتر
ستريكلاند، يشارك شريطه "كاتالين فارغا" في المسابقة، وهو
الطويل الأول له ايضاً،
بعد سلسلة أفلام قصيرة، سبق أن عرض منها "بابلغام" هنا في الـ"برليناليه"
عام 1997.
فيلمه هذا هو بورتريه عن امرأة معذبة ضحية عالم ذكوري بامتياز اكلها لحماً
ورماها
عظاماً. أما البيروفية كلوديا ليوسا، المشاركة في المسابقة، فهي الأخرى لا
تزال في
مطلع الثلاثينات من عمرها، وقد انجزت الى الآن فيلمين، يُعرَض
لها الثاني الجديد، "حليب
الوجع"، في برلين. طيف الماضي البيروفي يخيم على هذا الشريط. تنتقد ليوسا
الممارسات القمعية وأعمال القتل والعنف التي طالت البلاد بين عامي 1980
و2000. ومن
ضمن المبتدئين، لكن في عمر أكثر تقدماً (40)، هناك أيضاً
الاسرائيلي أورين موفرمان،
المشارك في المسابقة بـ"المرسل"، عن جندي أميركي خاض المعارك في العراق
والشرق
الأوسط، ثم يعود ليصبح ناقل رسائل النعي الى أهالي الجنود
الذين يقتلون في الجبهة.
يذكر أن موفرمان يعيش ويعمل في الولايات المتحدة، وله تجربة في كتابة
السيناريوات،
وسبق أن تعاون مع تود هاينس على نص "لستُ هناك".
أصحاب
تجربة
أسماء
أخرى لها تجربة
معينة في الإخراج، تعود هذه السنة الى برلين، في المسابقة، ومنها: الأميركي
ميتشل
ليشتنشتاين الذي يقدم "دموع سعيدة" بطولة ديمي مور، بعدما خاض التمثيل في
مسلسلات
وأيضاً في أفلام سينمائية تحت ادارة لوي مال، آنغ لي وروبرت
ألتمان. تقدم رجل في
السن يجبر شقيقتين على العودة الى المنزل العائلي، مما يشكل مناسبة للتصادم
والتأمل
في
الحياة! هناك أيضاً الدانماركية أنيت أولسن التي اعتادت المجيء الى برلين،
وفي
جعبتها هذه المرة "جندية صغيرة". قصة مؤثرة عن لوته، العائدة
من مهمة عسكرية خارج
الدانمارك والتي ترغم على العمل سائقة لدى والدها. لكن الأخير يدير
ماخوراً، وذات
يوم ستتعرف لوته الى عاهرة نيجيرية تعمل لديه، فتقرر انقاذها، على الرغم
منها.
صاحب
الفيلم الشهير "فاكينغ آمال"، الأسوجي لوكاس موديسون، يشارك في المسابقة
أيضاً بفيلم "ماموث" من بطولة غاييل غارثيا بيرنال، حول تيمة
الطفولة المعذبة التي
سبق أن تطرق اليها في أعماله. رينيه زيلويغر ستكون حاضرة هي أيضاً في
المهرجان من
خلال فيلم البريطاني ريتشارد لونكراين
My One And Only، وهو "رود موفي" شائق مستوحى
من ذكريات طفولة الممثل جورج هاملتون. الفيلم طريف ورومنطيقي
على ما يبدو. بعد
فيلمها "نعم" المعروض في الدورة السادسة والخمسين من المهرجان، تعود
البريطانية
سالي بوتر بفيلم "كورال" يشمل 14 شخصية، ويقول عنه الملف
الصحافي إنه "تراجيكوميديا
عن
تداعيات العولمة في زمن المعلومات"! أما الألماني الموهوب هانز ـــ
كريستيان
شميت، فيقترح علينا "عاصفة"، ومحوره هانا ماينارد، قاضية في
محكمة لاهاي الدولية.
جهابذة
وتحيات وكنوز
ممّا لا
شك فيه
أن عرض
الفيلم الجديد للمخرج والمؤرخ السينمائي الفرنسي برتران تافيرنييه الجديد،
"في
الضباب الكهربائي"، سيكون من أبرز محطات الدورة التاسعة والخمسين، ذلك لأنه
يشكل، أولاً، عودة تافيرنييه الى الولايات المتحدة لتصوير
فيلم، وثانياً لأنه عودة
الى اقتباس رواية بوليسية لكاتب (جيمس لي برك) سبق أن اقتبس احدى رواياته
في فيلم
ناجح جداً، وثالثاً لأن طومي لي جونز هو من يلعب بطولته. أما قسطنطين كوستا
-
غافراس، الذي أنجز ما يمكن اعتباره تنويعة جديدة لفيلم ايليا كازان "شرق
عدن"، وهو
"عدن
في الغرب"، فيشرح فيلمه بالكلمات الآتية: "لكل قصة. للشحاذ الذي يمد يده
قصة.
للمرأة السكيرة التي تنام على مدخل المترو قصة. وللرجل الذي يقدم على
الهرب، على
غرار تشارلي شابلن، بمجرد رؤية الشرطة، قصة ايضاً...". يُذكر ان لغافراس
سيرة طويلة
مع مهرجان برلين. فهو نال فيه "الدب الذهبي" عام 1990 عن فيلمه
"علبة الموسيقى"، ثم
شارك في المسابقة مع فيلمه "آمين"، قبل أن يترأس لجنة التحكيم العام الماضي.
مع
"شيري"، يعود السينمائي القدير ستيفن فريرز الى دراما الحقبة أو
"الفيلم بالأزياء"،
بعد سنوات على رائعته "علاقات خطرة". النقطة المشتركة في الفيلم هي ميشيل
بفايفر.
أما الأجواء فهي أجواء باريس في بداية القرن الفائت: الفن، الموضة، المسرح،
الموسيقى،
السينما، والنساء اللواتي يتطلب الحصول عليهن الكثير من البذخ والثراء.
علاقات خطرة اذاً في برنامج المخرج الانكليزي. أما الفرنسي - الجزائري رشيد
بوشارب
فيختار برلين دون "مهرجان كانّ" (13 - 24 أيار المقبل) الذي
كان أعاد اليه الاعتبار
عام 2006، ليطلق عبر منصته فيلمه الجديد "نهر لندن". يتطرق الفيلم الى
الهجمات
الإرهابية التي تعرضت لها لندن في تموز 2005 ونتج منها 56
قتيلاً وأكثر من 700
جريح. اب مسلم وأم مسيحية يختفي ولداهما جراء هذه الانفجارات، وعلى رغم
فوارقهما
العقائدية سيتحدان في الفاجعة والمأساة خلال بحثهما عن المفقودين.
في مسابقة
لا
تتضمن الا
القليل من الأفلام الآسيوية، يأتي الصيني تشن كاييغ بملحمة تاريخية عن
حياة الممثل والمغني الصيني الكبير ماي لانفانغ (1894 ــ 1961)، ولا شك أن
الفيلم
هو احدى اللحظات القوية لهذه الدورة، شأنه شأن الفيلم الجديد
للجهبذ اندره فايدا (1926)،
"تاتاراك"، الذي يعود الى برلين بعد سنة بالتمام والكمال على
عرض فيلمه
الأخير هنا. النصّ مستوحى من قصة قصيرة لياروسلاف ايفاتسكيفيتش، لكن المعلم
البولوني لا يكتفي بنقلة سينمائية حرفية. هناك اخيراً، في اطار المسابقة،
الفيلم
الجديد للفرنسي فرنسوا أوزون، "ريكي"، عن قصة للكاتبة
البريطانية روز ترايمان. كاتي
وباكو يتزوجان. انهما ثنائي عادي، غير انهما سيرزقان بطفل يسميانه ريكي
سيكون
استثنائياً بكل المقاييس...
أما خارج
المسابقة، فالدورة الحالية تشهد عودة
المعلم اليوناني تيو أنغلوبولس الى الاخراج، بعد انقطاع 11 عاماً، أي منذ
"الأبدية
ويوم" الذي اقتنص سعفة كانّ الذهبية عام 1998. ويقال إن "غبار
الزمن" هو ثاني جزء
من
ثلاثيته السينمائية الجديدة، بعد "ثلاثية الحدود" و"ثلاثية الصمت". أربعة
بلدان
شاركت في انتاج هذا الفيلم: ألمانيا، روسيا، ايطاليا واليونان.
ووزعت الأدوار على
ممثلين كبار: ميشال بيكولي، برونو غانز، ويليم دافو، ايرين جاكوب. انه قصة
مخرج
يقرر تصوير فيلم عن والديه، مهاجران يونانيان، تتحكم بمصيرهما الحوادث
التاريخية
التي تحصل في زمنهما. ختاماً، يلقي المهرجان تحيتين: الأولى
موجهة الى المخرج
الفرنسي الكبير كلود شابرول، من خلال عرض آخر أفلامه، "بيلامي" (تمثيل
جيرار
دوبارديو)، والثانية محورها الموسيقي موريس جار، الى جانب
استعادات كثيرة لكنوز
سينمائية في نسخ مرممة، اهمها "2001، أوديسيا الفضاء" لستانلي كوبريك.
(
hauvick.habechian@annahar.com.lb)
توم تيكفر العالمي
في افتتاح الـ"برليناليه"
المخرج
الألماني (ذو الانشغالات العالمية) توم تيكفر، صاحب "لولا
أركضي" و"العطر"، هو، بلا
أدنى شك، احد نجوم هذه الدورة. فهو الذي سيفتتح المهرجان هذا المساء بفيلمه
"العالمي" (تمثيل كلايف أون، ناومي واتس). محور الفيلم عميل
انتربول يسعى الى وضع
اليد على مصرف يموّل عمليات ارهابية في اماكن مختلفة من العالم. من أجل
بلوغ الهدف،
سيتعاون هذا العميل مع قاضية في محكمة نيويورك، لكن الطريق
ستكون محفوفة بالأخطار
اذ
ان الإرهابيين لا يتوانون عن استخدام أعنف الاساليب! أما الفيلم الآخر الذي
يشارك فيه تيكفر فهو العمل الجماعي "المانيا 09 - 13 فيلماً قصيراً عن حال
الأمة"،
وهو مجموعة أفلام قصيرة أنجزها سينمائيون ألمان لا يزالون في
مقتبل تجربتهم أو هم
من
المكرسين، بينهم: فاتح أكين، ولفغانغ بيكر وتوم تيكفر. المخرجون المشاركون
في
الفيلم، يرمون نظرة خاصة على "ألمانياهم"، بلا قيد أو شرط، وذلك بعد 20
عاماً على
سقوط
الجدار.
المقر
"الجديد" ينبض بالحياة والسوق امتلأت بالأفلام حتى آخر
ركن فيها !
في أواخر
الثمانينات من القرن الفائت، وتحديداً
قبل انهيار الجدار بسنوات، لم يكن أحد يتجرأ على الحلم بأن الـ"برليناليه"
سينتقل
في يوم من الأيام الى ساحة بوتزدامر، التي كانت في يوم من
الأيام تعج بالحياة
وأصبحت مع الوقت منطقة خالية مهجورة حزينة. لكن المهرجان الذي كان يُعقد في
مدينة
الجدار استفاد من الذكرى الخمسين لتأسيسه، عام 2000، للانتقال الى مقره
الجديد في
ساحة بوتزدامر. وكان المهرجان يعتبر نفسه منذ تأسيسه عام 1951،
نافذة يعرض العالم
نفسه من خلالها، ونقطة تقاطع بين الشرق والغرب. دفعة واحدة أصبح للمهرجان
مركز
حقيقي بكل ما في الكلمة من معنى ومبنى فخم مخصص للاحتفالات. المدينة
الموحدة هدف
جذاب لعشاق الفيلم وصنّاعه، وأيضاً لنجومه، كجورج كلوني الذي
بات من الضيوف
الدائمين. وكانت دعوة مادونا العام الماضي لعرض باكورتها فكرة جذبت آلاف
الناس الى
الـ"برليناليه".
هنا، وجدت
الأفلام كلها موطناً جديداً. وفي أوساط الزوار، كان
الـ"برليناليه" يوصف دوماً بأنه مهرجان للعمل مع برنامج واسع جداً من
الأفلام
والنشاطات. وعندما تولى ديتر كوسليك، عام 2002، منصب مدير
المهرجان وتالياً ادارته
لمهرجان سينمائي كبير، تغيرت على نحو محسوس. كان كوسليك، المولود في
بفورتسهايم،
معروفاً في المحافل السينمائية الألمانية بأنه رجل موهوب في مجال الاتصالات
والعلاقات. بدأ حياته المهنية في قطاع الإعلانات التجارية،
وكان مدير مكتب عمدة
هامبورغ للشؤون الثقافية والعامة ثم محرراً ثقافياً. وساهم، عندما تولى
رئاسة قسم
تشجيع صناعة الفيلم ودعمها، مساهمة جوهرية في جعل ولاية شمال الراين موقعاً
جذاباً
للانتاج السينمائي. عندما تولى ادارة المهرجان أثبت انه موهوب
في القاء الخطب
والاستعراض. فهو يدير الاجتماعات والمناقشات ببساطة بارعة وبروح مرحة
تتخللها
فكاهات عفوية. اما عراكه المزمن مع اللغة الانكليزية، فيغطيه بقدر مناسب من
التهكم
على نفسه. غير أن كوسليك أثبت أيضاً انه استراتيجي كفوء، اذ
أدخل الاصلاح الى قلب
المهرجان. وكونه من المؤيدين للفيلم الألماني، ويهتم على نحو خاص بالجيل
الناشئ،
فقد صنع له وبمنتهى الاصرار منصة مهمة للبروز.
بين
المهرجانات الدولية، يحتل
الـ"برليناليه" المرتبة الأولى من حيث عدد الزوار. عدد البطاقات المبيعة
يتزايد كل
عام. وبلغ مستوى حضور الحفلات درجة عالية تحسده عليها
المهرجانات المنافسة لها.
والأفلام المقدمة الى المهرجان تتزايد بصورة متواصلة. وعلى رغم ان سوق
الفيلم
الأوروبية قد انتقلت قبل عامين الى مبنى مارتن غروبيوس الكبير فإن المبنى
ضاق بها
مرة اخرى وامتلأ حتى آخر ركن فيه. على رغم هذا النجاح، فالنقد
دائماً موجه الى
ادراة المهرجان، اذ هناك من يعتبره "مخزناً لمختلف انواع البضائع". ومن أجل
اختيار
قائمة الأفلام المشاركة، يتعين على الادارة مشاهدة نحو من 5000
فيلم، وتوجد لجان
تشاهد وتختار في كل قسم من اقسام المهرجان. بعد ذلك يشاهد رؤساء الأقسام ما
تم
اختياره. ويقول كوسليك انه يختار بنفسه نحو 200 فيلم. "التحدي الحقيقي
للبرمجة يكمن
في اختيار التركيبة الصحيحة. اذ ان برنامج منافسة دولية يجب أن
يكون على سوية
درامية عالية. ولكن لا بد من مراعاة أذواق الجمهور غير المتجانس المؤلف من
صحافيين
وممثلي قطاعات سينمائية. وهذه مسألة معقدة وفي غاية الصعوبة".
خارج الكادر
عن عودة بلموندو: ماذا حل ببريق
الاستهتار؟
عماد خشان / نيويورك
(عبر
الانترنت)
"(...).
شكراً
لمقالتك عن جان بول بلموندو وفيلمه الأخير.
يقولون تلك حال الدنيا، وربما الإنسان الذكي هو الذي يعرف متى يتوقف. ويقول
الأميركيون في أمثالهم الشعبية "توقف وأنت في المقدمة".
وقال السيد ان الروح تواقة
ولكن الجسد ضعيف. وفي هذه الحال فإن الروح تواقة الى الشهرة والأضواء
ولكن الجسد
ما عاد يسعف. ومن منا كان يظن ان جسد بلموندو سيخونه. ماذا حلّ
اذاً بتلك الإبتسامة
الساخرة على شفتيه وبريق الإستهتار بالعالم الذي كان يشع من عينيه؟ وماذا
يحل بنا
في عمره؟ مَن يدري، فقد يكون فيلمه الأخير قصة رمزية لنهايته
فناناً وانساناً في
ارذل العمر. وقد تكون حكاية رمزية لما يسميه الأميركيون "أوروبا العجوز".
ففي حين
يفشل بلموندو الأوروبي الكهل، يشع كلينت ايستوود الكهل الأميركي. "الحيوان"
الذي
كانه بلموندو مع راكيل ولش روّضته الأيام، أما ايستوود الصامت
و"الصالح" فلا يزال
يعمل عملاً صالحاً وبصمت. أميركا الشابة وأوروبا العجوز: ايستوود وبلموندو.
ونحن في
الوسط لسنا شباباً كما كنا ولم نبلغ من العمر عتياً مثلهما.
ولكن من يعش يهرم
ويسأم، كما قال زهير بن ابي سلمى.
كم أحببنا
أفلام بلموندو "المانيفيك" والعاشق
والأزعر والفلاّح واللص ومسبّع الكارات. قبل أشهر شاهدت صورة بلموندو
وزوجته على
غلاف "باري ماتش" في احدى مكتبات نيويورك. لم أتصفح المجلة
مثلما لم يهتم الجمهور
لفيلمه الجديد، ولكن
كل
ما كان يهمني معرفته عنوان الغلاف: بلموندو عائد. وهذا يكفي
لتعود طفولتنا على الشاشة وفي الاخيلة. لعله لن ينط ويقفز، يحب ويقبل،
ولكنه عائد
والعود احمد.
لا أعرف
إن كان الفيلم سيصل الى هذا الجانب من الأطلسي، وخصوصاً
انه قلما اهتمت دور السينما هنا بأفلام "لا تربح". ولكن
من يدري، فقد تفعلها
نيويورك وتوفر علينا رحلة الى فرنسا. رحلة بحث عن فيلم وعن انفسنا في بطله
العجوز
الذي فيه شيء من أنفسنا وشبابنا الضائع في انتظار أوطان لم تحدث (...).
الفيلم كما
وصفته نهاية مناسبة لحياة مرت هكذا. وكم يكون مناسباً ان نراه
في صالة فارغة نجلس
فيها وحدنا مع بلموندو العجوز الذي لا يتذكره أحد، ونجلس مع أنفسنا التي
اتعبها
النسيان ونتذكر أياماً خلت ولن تعود؛ نتذكر ونبكي ونضحك على
أنفسنا، ونحن نرى من
صنعوا ذكرياتنا بالكاد يذكرهم أحد (...). نرى بلموندو العجوز ونتذكر
"الحيوان" الذي
يتحايل ليقبّل راكيل ولش فيتظاهر بالغرق لتعطيه شفتاها قبلة الحياة ومعه
نقبلها حتى
نغرق ونغرق. نتذكره يلعب دور البطل والشخصية التي تؤدي اللقطات
الخطرة، ويعيد
مشهد السقوط عن الدرج مرة بعد مرة حتى يدوخ، وفي كل مرة تصرخ الممثلة في
المشهد
James!! They killed him!! (جيمس!!
لقد قتلوه!!)، لكن بلموندو كان يقفز من خلف
الشجيرات بابتسامته الساخرة ونظرة التحدي في عينيه ويقول بصوته الثخين
وبهدوء البطل
الحقيقي:
Non, j'allume ma cigarette! (لا، إنني أشعل سيجارتي). لعل بلموندو قد
أشعل سيجارته الأخيرة ولعله لا يزال لديه سيجار كوبي ينتظر أن يدخنه بهدوء
على
الشاشة أو بدونها. لكن مهما يحصل، فسنتذكر ذلك "الحيوان"
الجميل الذي يحمل ملامح
شبابنا وأيام الصبا التي وجدت في السينما متسعاً للهرب من حرب لا مزاح
فيها. كنا
ندرك ان بلموندو وأصدقاءه وأعداءه على الشاشة سيعودون الى بيوتهم حين ينتهي
التصوير حتى ولو ماتوا على الشاشة. تلك المعرفة ساعدتنا كثيراً
في تحمل حقيقة
ان اصدقاءنا
واعداءنا في تلك الحرب لن يعودوا ابداً من موتهم، وإن كانوا في
انتظارنا في مكان ليس منه عودة. على الأقل عاد بلموندو ولو
بفيلم ضعيف، وشيء قليل
خير من لا شيء (...).
أوليفر ستون وعقدة أوديب
كان
أوليفر ستون سينمائياً "خطيراً" في ثمانينات القرن الفائت
وتسعيناته. ماذا بقي منه
اليوم؟ حفنة من الأفكار الملتبسة لا تجد طريقاً الى الشاشة من دون أن تفقد
معناها
وتنهار قيمتها. هجمات 11 أيلول غيّرته الى أقصى درجات التغيير. ثم اندلعت
حرب
العراق. ثم كان بوش. لم يجد التكلم عن أي من الظواهر التي هزّت
بلاده. واذا تكلم،
إما بسّط الأشياء الى حدّ السذاجة وإما جعلها تراجيديا إغريقية. في حين أن
موضوعه
لا
يستحق لا هذه التراجيديا ولا ذاك التبسيط. "مركز التجارة العالمي" سخّف
العملية
الارهابية الكبرى في التاريخ. أما "دبليو" فما هو الاّ تعظيم
وتضخيم لا ارادي
للرئيس الذي يُقال انه لم يبدِ اهتماماً كبيراً حين وصله خبر اصطدام
الطائرتين
بالبرجين. في هذا الفيلم، لم يقع ستون في الكاريكاتور. لكنه وقع في الأسوأ
منه:
التفخيم والتضليل. الأسوأ انه اختصر حكاية بوش باعتبارها عقدة أوديبية بين
ابن (جورج
دبليو) ووالده (جورج بوش)، جاعلاً منه ضحية محيطه غير السليم وأهله الذين
لم
يروا فيه إلا خاسراً وشاباً غير نافع. انها اذاً محاكمة للمجتمع الأميركي
الذي
ينتخب الغبي رئيساً، لكن هذا المغزى لا يُقرأ الا ما بين
السطور.
ينطلق
ستون من
قاعدة
بسيكولوجية مفادها: كما تعاملوا أولادكم يعاملون أنفسهم. ولم نكن في حاجة
الى
ستون، لنعلم ذلك. كما لم نكن في حاجة اليه أيضاً، لندرك أن بوش كان
كاوبوياً أكثر
منه رئيساً، يأخذ من جون واين مثالاً أعلى. أما قوله ان بوش لم
يكن كفوءاً وان
العالم بالنسبة اليه كان مختبراً والناس فئران تجارب علمية (خدعة
الديموقراطية)،
فهذا كله لا يصنع فيلماً. الأسباب التخفيفية التي يمنحها ستون لبوش (تمثيل
متقن
لجوش برولين)، تجعلنا ننسى اننا أمام السينمائي الذي صوّر سيرة لرئيسين
أميركيين
هما جون كينيدي ونيكسون، وتجرأ قبل كوبريك وبعد كوبولا
وتشيمينو على الغوص في
مستنقع فيتنام. وكان فيلماً حربياً بارعاً اسمه "بلاتون" بعيداً من الدروس
التربوية
لنزيل البيت الأبيض التي قادته اليها "بورجوازيته" السينمائية.
الأزمنة
تتغير.
والسينما
كذلك. لكل زمن سينمائيون يفهمونه. واذا سبق لستون أن قال ما يستحق أن يقال
في
أميركا العقود الماضية، فأميركا ما بعد 11 أيلول لا تجد ضالتها فيه. كما هي
الحال مع عالم لا يجد ضالته في رئيس مدمن كحول وليس مصدر اعجاب
حتى من أقرب
المقربين اليه. شعرت بامتعاض عندما صوّر كوستوريتسا مارادونا. والآن اشعر
باستياء
حيال "تساهل" ستون مع بوش. كنت أعرف أن لكليهما ذكاء يجعلهما يقفزان فوق
أسوار
الإدانة
السهلة. اذاً لم يكن هذا ما كنت أخشاه. ما جعلني استاء هو اقدام سينمائيين
على تخصيص أفلام لمن هم أقل منهم شأناً. لمن لا يستحقون فيلماً. مثلما لا
أفهم
اصرار ستون على انجاز شريط عن شخص يعتبره ابله، وننتظر تالياً
نحو ساعتين لنرى من
بلاهته شيئاً، لكننا نخرج من الصالة بسلة فارغة. الشيء الوحيد الذي يعطل
نمطية
الفيلم هو اعتبار ان غباء بوش أكثر تدميراً وتأثيراً في السياسة الخارجية
من أي
قنبلة ذرية!
لا يعلّق
ستون على ما يريه. يكتفي بعرض وقائع. والمعطيات تتكلم عن
نفسها. هذه تقنيته. لكنها تقنية فاشلة غير فاعلة وخصوصاً عندما
تأتي من مخرج مسيّس
بات عمله، بعد 11 أيلول، رد فعل وليس فعلاً. يتذاكى ستون عبر الاعتقاد بأن
في وسعه،
كسينمائي، ان يتعالى على صغائر الأمور السياسية، اذا رمى نظرة "موضوعية"
(خدعة
أخرى) على عهد بوش. لكن بوش لم يكن تفصيلاً، والسينما ليست
نشرة أخبار...!
هـ. ح.
النهار
اللبنانية في 5
فبراير 2009
|