أهلاً بنوح!
هوفيك حبشيان
بلدان عربية عدة منعت "نوح"، أحدث أفلام دارن أرونوفسكي. انتاج
هوليوودي من شأنه أن يكسح شاشات العالم، من شرقه الى غربه.
أقل ما يمكن القول عن هذا القرار إنه غبيّ، سطحيّ، ومملّ. لم تعد
المرجعيات الرقابية البائسة في العالم العربي تسلّينا، تفاجئنا، أو
تستفزنا. هذه رقابات شاخت كثيراً كثيراً، كستها تجاعيد السنين
الطويلة. تحولت هياكل عظمية تمشي على أربع. اللعنة. لقد حان وقت
التقاعد!
نعم، في زمن الفضاء المفتوح، في زمن دمقرطة المعلومات، في زمن
الركون الى الطاقة البشرية، لا يزال هناك أوصياء على عقولنا، رقباء
على أخلاقنا، قضاة على نياتنا. لا يزال هناك موظفو جمارك على الفكر
الذي نحمله.
بلا مزاح، يحصل هذا في عصر الديجيتال والتحميل والأبعاد الثلاثة
والهواتف الذكية والخبر الأسرع من الضوء. الأهم: يحصل هذا في زمن
الثورات والانتفاضات الشعبية ضد الظلم والاستغلال والتسلط. في زمن
كهذا، هناك مَن يريدنا نسخةً طبق الأصل لصورته المتخلفة وأفكاره
البليدة واقتناعاته القديمة التي بات يلفظها لاوعي الشعوب وتكوينهم
البيولوجي الحديث، حتى قبل ان تلفظها العقول. يريدوننا بهذا الشكل،
بهذه الطاعة، بذلك البؤس، ليس في بيت أو دار أو زنقة فحسب، بل على
امتداد العالم العربي وفوق رؤوس 300 مليون نفر.
يريدوننا مكسورين، خاضعين، عبيداً لعقائد اثبتت انها ليست سوى
غبار. رياح خمسينية. ضباب. فراغٌ بفراغ، وهمٌ بوهم. عقائد لم تنتج
سوى دول أشبه بمعسكرات اعتقال، غابت كلياً عن صناعة العالم الحديث.
للحظة، يجتاحنا إحساس بأن لا شيء مفيداً بعد الآن: لا الأقلام
الغاضبة، لا التظاهرات العفوية، ولا الستاتوسات الساخرة. فالناس في
عصر والأوصياء على عقولنا في عصر آخر. الحوار مقطوع. الخط مشغول.
عاود الاتصال. توت توت توت...
فالأزهر لا يزال يصادر القرار في مصر، وعلماؤها نقاد سينما في
أوقات فراغهم الكثيرة. في الإمارات، ويا للخيبة، ترتفع المباني
الشاهقة، ويفطر قاطنوها مع السحاب، مع ذلك تبقى العقليات في
الـ"غراوند فلور". في كلّ من الأردن والبحرين والكويت، لا سلطة
تعلو فوق سلطة العمامة. هي الآمر الناهي. السعودية هي الأوفر حظاً:
لا سينما فيها من الأساس.
الشعب يعرف ان سفينة نوح سترسو في الشواطئ العربية. اذا لم يكن في
الشتاء، فسترسو في الربيع. لا تهمّها حال الطقس ولا يخيفها علوّ
الأمواج وصخبها. السلطة تعرف انه لا يمكن اعادة نوح من حيث اتى.
فهي تملك المنع ولكنها لا تملك كل وسائل المنع. التطور التكنولوجي
ضدها. التكنولوجيا ووسائط الاتصال حليفة الشعب. القمع مجرم،
والتكنولوجيا سجّانه.
أفلام مسجّلة على "يو اس بي" وصلت من سوريا وايران وأطلّت على
العالم وأدهشت الناس. هكذا العالم المعاصر: يتعشى الديكتاتور قبل
ان يتغداه.
العالم العربي ينتزع من الغرب كل ابتكاراته، وعندما تصل المسألة
الى الحرية، يقول عنها إنها اختراع غربي. الطائرة اختراع غربي؟
السيارة اختراع غربي؟ التلفون اختراع غربي؟ الانترنت اختراع غربي؟
لا، فقط الحرية اختراع غربي. عبثاً!
في تونس العاصمة، طرد سائق تاكسي سلفياً من سيارته، بعدما طلب منه
الأخير اسكات صوت الراديو. قال له هذه موسيقى من خارج تاريخنا. جاء
الرد: والسيارة كذلك، انزل منها!
ربما تكون الحكاية نكتة أو هلوسات حالم، لكنها حقيقية بمنطقها.
ومن قال إن سبب منع نوح ليس نكتة؟ لا تجسيد للأنبياء، يقولون.
حسناً. مَن قالها؟ أين؟ كيف؟ لماذا؟ انه زمن الأسئلة. لنسأل اذاً.
ولنعد النظر في الجواب. مَن يريد السيارة، عليه تحمل أخطارها: منها
أن يذهب بعيداً، ليس فقط على الطريق بل في الأفكار.
بيد ان نوح، الآن في هذا العصر المتحرك، نبيٌّ على مَن؟ على
الملحدين وعديمي الايمان وغير المكترثين واللادينيين في العالم
العربي؟ هؤلاء كثر، وإن "تستروا". مثلما هناك حقّ في الايمان، هناك
حقّ في عدم الايمان وفي نقد التعاليم، وهناك حقّ في رفض الايمان
جملةً وتفصيلاً. أينهم من هذا كله؟
العالم العربي ثار بـ"المقلوب". بدلاً من أن يحمل معاناته
التاريخية ويثور على دور العبادة، ثار منها.
الكلّ يعرف اننا سنشاهد نوح. في الصعيد سيشاهدونه. في العرائش
سيشاهدونه. في الرياض سيشاهدونه. في الزرقة سيشاهدونه. في المنامة
سيشاهدونه. سيشاهدونه في كل بقعة يوجد فيها كابل موصول بشاشة.
هكذا، ببساطة. نعم، سيشاهدونه.
عالم الغد لن يعود على ضفتيه سود وبيض، مسيحيون ومسلمون، أغنياء
وفقراء. عالم الغد سيتواجه فيه مَن يصنع ومَن يمنع. سيكون الصراع
بين عقلية تطل برأسها من جحر القرون الوسطى، وعقلية تذهب بالانسان
الى أبعد تجربة ممكنة. هذه هي المغامرة الانسانية.
فأيها الواهمون: نأسف لابلاغكم هذا الخبر العاجل: تاريخ صلاحيتكم
انتهى. هناك مكبّ في الكومبيوتر في انتظاركم. ارضوا بالنصيب.
والآن، اطفئوا الأضواء، وليبدأ الفيلم. لا تزعجونا بعد الآن.
أهلاً بنوح! |