في المعهد العالي للسينما، كان الكاتب والناقد الراحل رفيق الصبان
يدرس لنا مادة حرفية السيناريو، وكانت أفلام المخرج المبدع سعيد
مرزوق واحدة من أيقونات السينما المصرية والعربية، التى نشاهدها
لنتعلم، وقتها عرفنا معانى كثيرة عن أسلوبية المخرج، عن سينما فلان
والتى تتميز منذ أول لقطة تشاهدها، وكان من المدهش بالنسبة لنا أن
نعرف ان سعيد الذي ولد عام 1940، لم يدرس السينما في أحد المعاهد
المتخصصة، بل إنه تربي في أسرة فقيرة حيث تحمل عبء المسئولية وهو
صغير السن، وذلك لإعاشة والدته وإخوته الأربعة بعد وفاة والده.
ومن الطبيعي أن يجعله هذا العبء الثقيل عرضة للعديد من المشكلات
والأزمات، والتي فجرت في داخله أحاسيس إنسانية، انعكست بالتالي على
اهتماماته وهواياته، حيث كانت هي المنفذ الوحيد له للتعبير عن هذه
المعاناة، إضافة إلى أن سعيد مرزوق قد تفتحت عيناه على عالم
السينما وهو في سن الثانية عشرة، حيث كان منزله ملاصقاً لأستوديو
مصر، وكان لذلك تأثيره المباشر على حياة مخرجنا، حيث أبهره هذا
العالم الغريب، بكل مواصفاته.. من ديكورات وممثلين وكاميرات.. وأخذ
يراقب كل هذا بحب واهتمام وإعجاب إلى أن شاهد يوماً ما المخرج
الكبير «سيسيل
دي ميل»وهو
يصور فيلم (الوصايا
العشر) في
صحراء الهرم.. فكانت هذه هي نقطة البداية الحقيقية عندما أحس مرزوق
بعظمة دور المخرج وأهميته بالنسبة للسينما.
يقول سعيد مرزوق: في
العاشرة من عمري بدأت أتذوق الفن.. شاهدت (الوصايا
العشر) للمخرج
سيسيل دي ميل وعشقت هذا المخرج الجاد والفنان، بل وإتخذته مثلاً
أعلى لي.. تمنيت أن أجلس على هذا الكرسي الذي يتحرك عالياً، والذي
يجلس عليه المخرج.. وقتها بدأ حب الفن ينمو بداخلي بشكل غريب.. كنت
أمارسه بشكل آخر في الرسم والنحت.. وبدأ مشواري الفني، وبدأته
بالقراءة فقط.
هذا هو سعيد مرزوق صاحب زوجتى والكلب ، وحكاية وراء كل باب، والذي
يملك حسا تشكيليا، يميز سينماه، يظل مرزوق في منطقة خاصة من
الإبداع والتحليق في أفق مغامر دائماً، لذلك وبعد مرور سنوات من
انتهاء دراستى، صادفت المخرج الكبير في إحدى دورات مهرجان
الاسكندرية السينمائى، وقتها استوقفني المخرج المبدع ليسألنى عن
فيلم بالمهرجان، وكان يمسك في يده ورقة وقلما، يضع خطوطه عليها
ليرسم شيئا ما في خياله هو ، وزاد ذلك من ارتباكى فأنا لم أصدق
للحظة أننى أقف أمام قامة بحجم سعيد مرزوق، وزاد من ارتباكى
تلقائيته في الحوار وبساطته، كان هذا هو اللقاء الاول، وبعدها
صادفته أكثر من مرة عند الكاتب وحيد حامد، وهى الفترة التى كان
سعيد قد بدأ يصاب فيها بالاكتئاب وذلك لعزوف المنتجين عنه، وهي
الحالة التى زادته ضعفا ووهنا، وأصبح سعيد ضحية للاكتئاب، والسوق
وموازناتها، وتربيطات النجوم، مثله مثل الكثير من المبدعين
المخلصين، والذين تأكلهم مهنتهم.
يرقد حاليا سعيد مرزوق المخرج المهم والمبدع في مستشفى القوات
المسلحة بالمعادي، بعد انتقاله اليها مؤخرا، حيث كان يعالج منذ عدة
سنوات بمستشفى دار المنى، بعد تعرضه لأكثر من جلطة أثرت على حالته
الصحي، .ذلك المخرج الذى قضى حياته خلف الكاميرا يصور ويقدم أفضل
الأفلام فى تاريخ السينما المصرية خلال الـ40 سنة الأخيرة، بدءا من «زوجتى
والكلب» مع
محمود مرسى وسعاد حسنى، و«مكان
للحب» لنور
الشريف، مرورا بـ»أريد
حلا» لسيدة
الشاشة العربية فاتن حمامة والنجم رشدى أباظة، و«حكاية
وراء كل باب» بطولة
فاتن حمامة والنجم أحمد رمزى، وحتى «هدى
ومعالى الوزير» و«المرأة
والساطور» للنجمة
نبيلة عبيد، و«المغتصبون» لليلى
علوى، و«جنون
الحياة» لالهام
شاهين، وغيرها،
السيدة ريموندا زوجة المخرج الكبير تقول :«حالته
الصحية الآن أكثر صعوبة من الماضى، خصوصا بعد إصابته بجلطة أثرت
على حالة السمع لديه، وأصبح قليل الكلام، بعدما كان يملأ الدنيا
حيوية وقوة، مما ساهم فى خفض معنوياته»،
وتضيف:«سعيد
أصبح يرفض فكرة الجلوس بالمستشفى، ويريد أن يذهب إلى المنزل، وطوال
الوقت يقول لى أريد أن أتمشى بالكرسى المتحرك، وأحيانا يفضل الجلوس
على السرير، وبعض الوقت يحبذ الرجوع لمستشفى دار المنى لممارسة
العلاج الطبيعى الذى اعتاد عليه».
وأشارت إلى أن المخرج الكبير دائما ما يردد أن :«المرض
نعمة وليس نقمة، لأنه يجمعه بمن يحب، ويلتف حوله أصدقاؤه طوال
الوقت، فى صورة تدل على قيمة الوفاء والإخلاص تجاهه»،
كما أنه فى المستشفى رأي نماذج مختلفة من البشر، ويقول أشعر بأننى
أعيش فى عالم يتشابه إلى حد كبير مع الدنيا، وهذه النماذج تستحق
الكتابة عنها، ورغم شغفه بها واندماجه معها، لم يستطع الكتابة ولا
التعبير عنها، لأنه منذ دخوله المستشفى لم يكتب سيناريو واحدا، لكن
هو الآن بحاجة الى دعاء ملايين المصريين ليتغلب على ما هو فيه،
وأوضحت أن علاج المخرج الكبير يتم على نفقة وزارة الدفاع، بعد
إنهاء الإجراءات المطلوبة لذلك.
وعما يدور بخلده حول رحلة عطائه تقول دائما يذكر أنه قدم أفلاما
كثيرة راضيا عنها، وأعطي للسينما بقدر ما أخذ منها، فهى منحته
الكثير، وفى المقابل حرص على تقديم أفلامه بدمه وأعصابه، وبذل فيها
مجهودا كبيرا، لتخرج بشكل جيد، وأيضا قدم كل ما يستطيع تقديمه فى
مجال الإخراج والكتابة السينمائية، لكن لو قدر له الوقوف مرة أخرى
أمام الكاميرا فأمنيته أن يصنع فيلما عن الشخصية المصرية «بعبلها».
وتؤكد أن أحب الأفلام إلى قلبه فيلمه الأول «زوجتى
والكلب» الذى
قدمه مطلع سبعينيات القرن الماضى مع محمود مرسى وسعاد حسنى،
واستطاع من خلاله تقديم شكل جديد فى السينما المصرية، حيث استعرض
العمل الشكوك التى تحوم حول الرجل تجاه سلوك زوجته، وصنف الفيلم
كعلامة من علامات السينما المصرية، وتقول إن أفضل كاتب تعاون معه
فى أعماله السينمائية هو أديب نوبل العالمى نجيب محفوظ، الذى قدم
معه فيلمه الشهير «المذنبون» بطولة
سهير رمزى وعادل أدهم، وهو العمل الذى أثار ضجة كبيرة مع جهاز
الرقابة على المصنفات الفنية، وتم منعه من العرض، وتدخل وقتها
الرئيس الراحل أنور السادات وأجاز عرضه.
سعيد مرزوق المخرج الذى اهتم بقضايا المرأة واستطاع إلغاء بند «بيت
الطاعة» من
قانون الأحوال الشخصية بعد تقديم رائعته السينمائية «أريد
حلا» مع
سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، يرى أن المرأة مازالت مظلومة،
ويؤكد هذا بقوله: «الشعوب
العربية مازالت تتعامل مع المرأة كونها امرأة ولا شيئا آخر وهذا
قمة الظلم..
وحول رأيه فى النجوم والنجمات الذين تعاون معهم فى رحلته
السينمائية، تقول هو دائما يقول: أحببتهم
جميعا، فقد تعاون مع أجيال مختلفة تدرك معنى الفن وتأثيره فى
المجتمعات، وعلى رأسهم فاتن حمامة وسعاد حسنى ومحمود مرسى وأحمد
رمزى وكمال الشناوى ونبيلة عبيد وسهير رمزى وليلى علوى ونور الشريف
وإلهام شاهين، وكواليس العمل دائما ما تتخللها المودة والحب فيما
بينهم.
وعن خفوت نجم الفنانين فى هذه الفترة كان يرجع المخرج السبب إلى أن
الجيل القديم كان أكثر جدية فى العمل والاجتهاد من الجيل الحالى،
إضافة إلى تركيزه فى مضمون العمل لتقديمه بصورة مناسبة تليق
بجمهورهم فى الوطن العربى.
المقال دا انا نشرته من أسبوعين في الأهرام لم إنك أعلم أننى أرثيك
رحم الله سعيد مرزوق
علا |