في العام 1951 نشرت مجلة "إيماج" الفرنسية صورة الفتاة
الجميلة "مريم محمد فخر الدين"، التي فازت في مسابقة اختيار "فتاة الغلاف"،
بعدما شاركت بالصدفة، بسبب مرافقتها والدتها إلى المصوّر الذي عرض عليها أن
يلتقط صورة لابنتها، على أن يمنحها مقابل ذلك ستّ صور مجّانية.
قبلت الأم العرض، وهي والمصوّر الذي قدّم الصورة إلى المسابقة، لم يمرّ
ببالهما إطلاقاً لحظتها أنّ الصورة لن تفوز فقط، بل ستكون مفتاحاً يفتح باب
الشهرة والفنّ على مصراعيه أمام تلك الفتاة ذات الملامح الناعمة.
ولدت مريم في صيف العام 1933 بالفيوم. كان والدها مهندسا
وكانت والدتها سيّدة مجرية خاضعة لزوجها، وقد درست في المدرسة الألمانية
حتّى نالت الباكالوريا. ربّما كانت ترغب مريم في مواصلة دراستها، قبل أن
يكتشف والدها في صندوق بريد المنزل شيكا بمبلغ 250 جنيها من مؤسسة "دار
الهلال"، كان يمثّل قيمة جائزة مسابقة الصور. وهذا أغضب الوالد كثيرا،
فوجّه صفعة لأمّها وطرد كلّ من حاول الاقتراب من منزلها؟.
إذ توافدت قوافل الصحافيين بحثاً عن حوار مع "الحسناء
الجميلة"، وتوافد المنتجون والممثلون أيضاً في محاولة لإدخالها عالم
التمثيل، فكان الطرد من نصيب أنور وجدي، وحسين صدقي.
ولم يوافق الأب إلا على عملها مع أحمد بدرخان الذي كان
صديقاً له واستطاع اقناعه بأنّه سيكون أميناً عليها وسيقدّمها في فيلم يحمل
رسالة اجتماعية راقية وبمنظر لائق غير مبتذل.
واستكمالا لهذا المنظر اشترط والد مريم أن يحتوي الفيلم على
مشهد تجلس خلاله ابنته على سجّادة الصلاة، كإجراء احترازي لتثبيت وقارها في
أذهان الجمهور.
وهكذا ظهرت مريم للمرّة الأولى على الشاشة في فيلم "ليلة
غرام" العام 1951، ثم قدّمت بعده " السماء لا تنام" و"المساكين. لكنّ دور
"سعدية" في "الأرض الطيبة" شكّل انعطافا مهمّا في مسيرتها، وكان من إخراج
زوجها الأوّل محمود ذو الفقار، الذي تُعتَبَر فترة زواجها منه جزءًا من
جحيم حياتها. فقد كان يستأثر بأجرها، ويغار عليها غيرة شديدة بسبب فارق
السنّ الكبير بينهما، الذي فاق العشرين عاماً.
تروي أنّها هربت منه إثر شجار بينهما، حافية وبقميص النوم،
وظلّت تركض في الشارع حتّى وصلت إلى بيت والدتها. ولم تستطع أن تتطلّق منه
إلا بعد جمعت مبلغاً كبيراً من المال خفية عنه، كانت تضعه في جواربها، على
حدّ قولها، حتّى لا يأخذه منها. واشترت شقّة في البناية نفسها، واغتنمت
فرصة سفره لتنتقل إليها. كما انتقمت منه ووزعت أثاث البيت على العاملين
البسطاء في استوديو مصر، في إهانة واضحة له، فطلّقها العام 1960 بعد زواج
دام ثمانية أعوام.
لا يعرف كثيرون أنّ هذا الزواج جعلها ترتبط بصلة قرابة مع
اثنتين من أشهر الفنانات في تاريخ السينما المصرية، كنّ زوجات لشقيقي
زوجها، وهما شادية، التي كانت آنذاك زوجة الممثل صلاح ذو الفقار، وفاتن
حمامة التي كانت زوجة المخرج عزّ الدين ذو الفقار. وقد ربطتها بالأولى
علاقة صداقة طويلة، في حين كانت مريم تفتح النار دائما على فاتن بطرق
مختلفة، مرّة من خلال الحديث عن علاقتها مع زوجها عزّ الذين الذي تروي مريم
أنّها كانت تقرضه المال مقابل أن يوّقع لها شيكات بالمبالغ، ومرّة أخرى من
خلال الحديث عن لقب "سيّدة الشاشة" الذي تعتبره "إهانة" لكلّ زميلاتها،
وترفض استئثار فاتن به. فقد صرّحت مرّة: "إذا كانت هي سيّدة الشاشة، فهل
نحن جرابيع الشاشة؟".
غير أنّ هذا الخلاف لم يمنع ظهورهما معاً على الشاشة، في
فيلم "لا أنام" العام 1957 ، وهو العمل الذي يُعدّ علامة فارقة في تاريخ
السينما، إذ مكّن مريم من نيل جائزة "وزارة الثقافة" عن أدائها اللافت.
ومع أنّ جمالها كان جواز مرورها إلى عالم الفنّ، إلا أنّه
كان أيضاً سبباً في حصرها داخل نطاق ضيّق من الأدوار لا يتعدّى دائرة
الفتاة الرومانسية الرقيقة الطيبة، حتّى أصبحت رمزاً لهذه الشخصية،
ولُقِّبَت بـ"حسناء الشاشة" و"برنسيسة الأحلام" و"ملاك السينما" و"المرأة
الحالمة". وهي قدّمت عدداً كبيراً من الأفلام في هذا الإطار، نذكر منها:
"عهد الهوى"، "الغائبة"، "رنة خلخال"، "طاهرة"، "القصر الملعون"، "الأيدي
الناعمة" و"ردّ قلبي" الذي مثّلت فيه دور الأميرة أنجي وكان أحبّ أدوارها
إلى قلبها.
لم تخرج مريم من هذا الحصار إلا في السبعينيّات، حين تقدّمت
في السنّ، فتنوّعت أدوارها وبدأت في تقديم أدوار الأم في بعض الأعمال،
منها: "بئر الحرمان"، حيث مثّلت دور والدة سعاد حسني العام 1969، و"دقّة
قلب" و"وداعا إلى الأبد". إلى أن حتى وصل رصيدها إلى أكثر من 230 عملاً بين
فيلم ومسلسل، وكان آخر ظهور لها في العام 2009 خلال مسلسل "الوتر المشدود".
لم تكن حياة مريم فخر الدين هانئة دائماً، فلم تستقرّ في
زواجاتها. بعد طلاقها من محمود ذو الفقار ارتبطت مباشرة بالدكتور محمود
الطويل، وتطلّقت بعد أربعة أعوام، لتتزوّج من المطرب السوري الشهير فهد
بلّان، زواجاً خاطفاً. ثم ارتبطت بشريف فضالي وتطلّقت منه أيضاً، وكانت
تقول إنّ طلاقها كان دائما بسبب بحثها عن "الحبّ". لكن عن أيّ حبّ؟ هل هو
الحبّ الذي يحتاج إلى صبر داخل البيت من أجل الحفاظ على استقراره؟ أم ذلك
الذي يكتفي بتبادل الرسائل الغرامية والمشاعر الملتهبة أمام الكاميرات؟
وربّما كان جمالها سرّ نجاحها، وسر تعاستها أيضاً.
عانت مريم إذن مع أزواجها، وربما كان غياب شقيقها جزءاً من
مأساتها. فهي الأخت الكبرى للفنان يوسف فخر الدين، الذي هاجر إلى اليونان
وتزوّج من امرأة يونانية تكبره بأكثر من 10 أعوام. ولم تستطع مريم أبداً
مسامحتها على حرمانها من شقيقها حتّى بعد وفاته، فلم تقبل مطلقاً أن تتواصل
معها. وربما خفّفت صداقاتها وحدتها، فكانت صديقة مقرّبة جدا من فريد الأطرش
وأحمد مظهر، الذي كانت زوجته تمازحها قائلة "متى ستتزوجان؟".
قد لا يعرف كثيرون أنّ مريم كانت مصابة بمرض وراثي في الأذن
كاد يفقدها سمعها تماما، وأنّها كانت تحتاج أحياناً إلى إشارات يدوية من
المخرج لأنّها لم تكن تسمع، وأنّها ألقت بنفسها في الماء رغم تحذير
الأطباء، وذلك لأداء مشهد في فيلم "إرحم حبّي"، وأنّ فيلما آخر عطّل علاجها
هو "البنات والصيف"، لأنّها كانت متمسّكة بدور البطولة أمام عبد الحليم
حافظ، ما جعلها تؤجّل السفر للعلاج.
كانت مريم فخر الدين بلا شكّ امرأة جميلة. كان جمالها مفتاح
دخولها إلى عالم السينما، إلا أنّه لم يكن سلاحها الوحيد الذي اعتمدت عليه
لأكثر من 58 عاما، بل كان هناك سلاح أقوى هو موهبتها التي ستجعل العالم
يتذكّرها طويلا كواحدة من أجمل الممثلات "صورةً" و"أداءً". |