وفقا لتوقعات كثير من النقاد نال فيلم «بيردمان» جائزة أفضل فيلم في حفل
جوائز الأوسكار، الذي نظم الأحد الماضي، وفاز مخرجه أليخاندرو غونزاليز
إيناريتو بجائزة أفضل مخرج.
ويعترف إيناريتو في حوار مع «الشرق الأوسط» أن فيلمه هذا يلمس جانبا شخصيا،
كما كشف عن أن الممثل مايكل كيتون، بطل الفيلم، رفض الدور حين عرض عليه أول
مرة.
وفيلم «بيردمان»، الذي يصور حالة شخص يده على الحافة خوفا من السقوط، بدأ
بخاطرة في بال المخرج، ويقول إيناريتو: «وضعت الفكرة على الورق لكنني عانيت
كثيرا في مرحلة تحويلها إلى فيلم. مع ذلك كلما كتبتها منتقلا في مراحل
الكتابة المختلفة زدت اقتناعا بها».
وينفي إيناريتو أن تكون أفلامه متشابهة، لكنه يقر بأنه يمنح موضوع «الموت»
اهتماما خاصا، ويوضح «ثيمة الموت شغلتني.. الموت ليس نهاية الأشياء كما
نتوقع. هو استكمال لها.. والموت حاضر في بيردمان».
·
قرأت لك أنك تأثرت كثيرا بفيلم «إكيرو» لكوريساوا.. لكن هل هو نوع من
التأثير الذي يبقى في طي الإعجاب أو أنه تسلل بالفعل إلى أعمالك؟
ـــ كيف ترى؟
·
هذا هو سؤالي تحديدا. أعمالك معقّدة في أسلوب سردها وأسلوب تنفيذها
كميزانين.
*
لكن فيلم «إكيرو» معقد أيضا. بسيط الظاهر لكنه معقد. إذا ما كنت تذكر يموت
بطل ذلك الفيلم بعد ساعة ونصف من الفيلم، لكن المخرج لا ينهي فيلمه هنا. ما
زال لديه أكثر من نصف ساعة من الحكاية ليرويها تتعامل ورفاقه في المكتب
وتصوغ لنا صورة إضافية للرجل الراحل. هذا، تطبيقيا، ليس سهلا على المخرج أن
يحققه وأن يحققه من دون أن يخسر الفيلم أي شيء من قيمته.
·
ذلك الفيلم هو عن الموت أيضا وأفلامك السابقة لـ«بيردمان» هي أيضا عن الموت.
-
هذه «ثيمة» أخرى شغلتني ليس بالضرورة من ذلك الفيلم وحده، لكن ذلك الفيلم
هو أحد أهم الأعمال التي تعاملت مع الموت بالمناسبة. الموت ليس نهاية
الأشياء كما نتوقع. هو استكمال لها. في ظرف معيّن قد تقع حادثة تربط بين
مصائر ناس لم تكن تعرف بعضها البعض. أكثر من ذلك، قد لا تكوّن الحادثة
معرفة لكنها ستؤثر في كل منهم. هذه الناحية شغلتني، كما لا بد تعلم، في
أفلامي الأولى وأردت التعبير عنها في سيناريوهات مختلفة. كان الفيلم الأول
محليا والثاني انتقلت به إلى أميركا والثالث كوكبيا. لكن دعني أضيف، أن
الموت حاضر أيضا في «بيردمان»..
·
تقصد حين يستخدم بطل الفيلم مسدّسا محشوا ويسقط صريعا.
-
نعم. لكن بالطبع الموت مجازي بدوره. تستطيع أن تقرأ أن موت ريغان بدأ وهو
لا يزال حيّا.
·
تقصد كممثل سابق يحاول العودة إلى مجده.
-
تماما.
·
هل أفلامك السابقة متشابهة في بنائها وأسلوب سردها دراميا؟ أم أن هناك ما
لا نعرفه عن كيفية صياغة كل منها؟
-
هذا سؤال مهم لأنه في بال الكثيرين أن أفلامي متشابهة في الطريقة التي تكتب
بها والطريقة التي تصوّر بها. لكن هذا ليس صحيحا. دائما ما أناشد السائل أن
يتذكر أن «حب كلبي» عن حادثة سيارة و3 قصص تتفرع منها. «21 غراما» عن حادثة
سيارة لكن ما يخرج منها قصّة واحدة متعددة الشخصيات.
·
ماذا عن «بابل» إذن؟
-
هناك تلك الحادثة، لكن الفواصل بين من تعرّض لها وبين الشخصيات الأخرى
شاسعة.
·
لماذا اخترت المغرب لتصوير جزء من الأحداث هناك؟
-
السيناريو تطلّب أن تقع الحادثة في المغرب وكنت سعيدا أنني عرفت ذلك البلد
وشخصياته وثقافته. في الأساس لماذا علي أن أصوّر في مكان آخر طالما أن
الظروف ملائمة للتصوير في مكان الحدث؟ ثانيا هناك التضاريس وفي اعتقادي أن
الناس تنتمي إلى تضاريس بلادها، تماما كالنباتات.
·
هذا ما أقوله دائما. لكن قد تختلف القصص وكيفية تعدد الشخصيات أو التقائها
حول كل حادثة، لكن تبقى الحادثة هي نقطة انطلاقك. هذا مختلف تماما عما يحدث
في «بيردمان».
- «بيردمان»
هو فيلم من نوع مختلف في هذا الشأن. بعد «بابل» شعرت بأني استنفدت ما أريد
التعبير عنه بتلك الوسيلة المركّبة. ليس أنني لم أؤمن بها وليس مطلقا أنني
لن أعود إليها. إنها نتيجة تفكيري أو بالأحرى فضولي حول الناس. ما يحدث
لهذا الشخص في لحظة واحدة غير متوقعة ما يختلف عما يحدث لشخص آخر في اللحظة
ذاتها. لكن كفى عن ذلك الموضوع. أعتقد أني تكلمت عنه كفاية.
·
«بيردمان»
يبدو لي فكرة رائعة وفريدة: تصوير حالة شخص يده على الحافة خوفا من السقوط.
كل هذا بسبب خاطرة في بالك ربما كتبت من سطر واحد كما فعل أكيرا كوروساوا..
- (يضحك)
نعم وضعت الفكرة على الورق لكني عانيت كثيرا في مرحلة تحويلها إلى فيلم.
لكن كلما كتبتها منتقلا في مراحل الكتابة المختلفة كلما زدت اقتناعا بها.
عندما انتهيت أدركت أنني أمام مشروع عمل يتناول حياة الممثلين وحياة
السينما والفن وربما شيئا من إحباطاتي الداخلية. أنا أيضا، مثل ريغان (اسم
الشخصية التي يؤديها مايكل كيتون) أشعر بأنني أطمح إلى الكثير مما أود
تقديمه والذي ربما ليس في قدرتي القيام به.
·
لحظة رجاء. حين تقول إحباطاتك.. متى وقعت وهل يعني ذلك أن الفيلم عنك وليس
عن بطلك؟
-
ليس تماما. الكتابة تعبّر عن وجهة نظري وقليل من إحباطاتي الشخصية كما
ذكرت، لكن القصّة ذاتها هي ملك الشخصية التي يؤديها مايكل كيتون. هذا شيء
مختلف عن ذاك.
·
متى عرضت الدور على مايكل كيتون. ولماذا مايكل كيتون؟
-
لأنه لا يخفى أنه الأنسب للدور. ممثل لعب شخصية السوبرهيرو وهي حققت له
شهرة كبيرة، لكن من بعدها وجد نفسه في لولب هابط. عرضت عليه الدور باكرا.
رفضه بأدب.. حسنا ليس بأدب لكنه رفضه. قال لي: «هل (شتيمة) تمزح معي؟».
·
سمعت عن ردّ فعله لكن كيف أقنعته؟
-
حالما عرف مقصدي. اقتنع سريعا.
·
ما مقصدك؟
-
طبعا كما تعلم هو خاض هذه الرحلة من القمّة إلى ما دونها رغم أنه بقي
ماثلا. كيتون يبقى فنانا معروفا وهذا الفيلم لا يعيد تقديمه، بل يبني على
قدراته على نحو أوسع. مقصدي كان أن هذه الشخصية تتطلب ممثلا يستطيع تقديم
الدراما ويستطيع تقديم الكوميديا على نحو متساو.
·
دور صعب.
-
بالتأكيد، لكن حال سماعه لشرحي له وافق على الفور. كان يعلم ما أقصده وكان
يعلم أنها فرصة جيّدة لتقديم شيء هو جزئيا مختلف وجزئيا متكامل مع تاريخه.
·
هناك مواعيد أخرى لك لكني أريد أن أسألك عن تلك المشاهد الصعبة التي قمت
ومدير تصويرك إيمانويل لوبيزكي بتصويرها.
-
عادة ما أنطلق بفكرة صعبة التنفيذ ثم أتعرّض بعد ذلك لوجع رأس مزمن مصدره
كيف يمكن أن أنفّذ ما أنشد تنفيذه بالطريقة التي أريد. هذا الفيلم لم يكن
مختلفا في ذلك على الإطلاق. لكن بدايته هي لقاءاتي المتعددة مع شيفو (الاسم
المتداول لمدير التصوير)..
·
(مقاطعا)
قرأت أنه عندما سمع فكرتك تمنّى ألا تطلب منه العمل عليها.
- (يضحك)
أصدق ذلك. اجتمعنا ودرسنا ما في بالي والخطوة الثانية كانت الانتقال إلى
الاستوديو وبناء صرح يشبه الجزء الخفي لكل مسرح نيويوركي كبير. هنا كانت
بداية المصاعب. كان علينا التأكد من المساحات الفاصلة بين الجدران أو كم
سيكون هذا السلم ضيقا أو تلك الغرفة. كيف سنصوّر وبأي كاميرا وبأي عدسة.
بعض العمل الشاق كان لأجل تصوير لقطة واحدة فقط يتم فيها استخدام جملة حوار
واحدة. كان علينا دراسة الضوء. ومرّت أسابيع كثيرة ونحن ندرس ونبني المكان
على هدى دراستنا. ثم بعد ذلك بدأنا استخدام ممثلين بدلاء
(Stand ins)
قبل أن نبدأ تمارين التصوير مع الممثلين الحقيقيين جميعا. كثير من الجهد
فعلا.
·
اللقطات الطويلة بصعوبة تنفيذها كانت تعبيرا عن..
-
تعبيرا عن رغبتي في أن أكون صادقا في عرض هذه القصّة وعرض من يقوم
بتأديتها. عليك أن تكون صادقا للمكان. في بعض الأفلام القديمة كان
الاستوديو لا يهتم للمساحات الضيّقة. كل شيء كبير وعريض خصوصا في الأفلام
الموسيقية. ربما كان لها ضروراتها، لكنها كانت خيالا أكثر منها واقعا.
محطات للمخرج
*
عندما كان المخرج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، الذي فاز قبل أيام بجائزتي
أوسكار رئيسيتين (أفضل فيلم وأفضل مخرج) في التاسعة عشر من عمره، شاهد
«إيكيرو» الفيلم الذي حققه المخرج الياباني الكبير أكيرا كوروساوا سنة
1952. على عكس الكثير من أعمال كوروساوا اللاحقة، انتمى الفيلم المذكور إلى
فئة الأفلام ذات الموضوع المحدود والتكوين البسيط. كان كوروساوا كتب سطرا
واحدا قبل السيناريو والتزم به طوال العمل. كتب «قصة حول رجل لديه 75 يوما
ليعيش». بالنسبة لإيناريتو كان الفيلم اكتشافا. قال لمجلة تصدرها «جمعية
المخرجين الأميركية» في لوس أنجليس: «تبدو القصّة بسيطة ومتوقعة في
البداية، لكن كوروساوا يقوم بحركة عبقرية: يحوّلها إلى فيلم يكسر التوقعات
ويجعل منها عملا كثيف العقدة».
إذ يعود هذا الحديث إلى البال حين أجلس إليه قبل أشهر قليلة عندما عرض
فيلمه الفائز في مهرجان فينسيا السينمائي، أحاول أن أدرك أين وجه المقارنة
بين بساطة كوروساوا المعقدة في «إكيرا» وأي من أفلام صانع «بيردمان» و4
أفلام روائية طويلة سابقة، ليس من بينها ما ينضح بالبساطة لا لذاتها ولا
للكشف عن تعقيداتها الداخلية. «بيردمان» (الذي حاز على جائزة أفضل فيلم من
«جمعية المراسلين الأجانب في هوليوود» قبل استحواذه أوسكاراته) قد يكون
أعقد فيلم لناحية تصويره أقدمت عليه السينما الأميركية في العام الماضي،
على الأقل. لكن موضوعه هو أيضا معقّد: كيف يمكن لممثل كان نجما أن يعود إلى
العناوين الكبيرة من جديد و- الأهم - لماذا. أفلام إيناريتو السابقة ليست
بدورها بسيطة، بدءا من «حب كلبي» فيلمه المكسيكي الطويل الوحيد، الذي حققه
سنة 2000. فيلم من 150 دقيقة (زائد 5 دقائق من العناوين) حول حادثة سيارة
وما يتشرب منها من مواقف كاشفة عن كل شخصية تعرضت لها أو مرّت بها.
الحكايات تبتعد في اتجاهات شتّى لكنها تتلاقى في نهاية الأمر ولكي يستطيع
مخرج أن يقنع مشاهديه أن هذه هي الطريقة الأنجع لسرد حكاية متشابكة فإن
عليه أن يكون واثقا من قدراته. إيناريتو كان منذ ذلك الفيلم الأول له واثقا
مما يقوم به.
حين انتقل إلى الولايات المتحدة استثمر نجاحه في الطريقة التي صاغ فيها «حب
كلبي» لينجز فيلما متشابكا آخر هو «21 غراما» سنة 2003: هنا حادثة أخرى
تتوزع حولها الشخصيات التي تعاني منها: شون بن، ناوومي ووتس، داني هيوستون،
بينثيو دل تورو وشارلوت غينسبورغ.
«بابل»
(2006) شغل على المنحى ذاته، إنما على لوحة متمادية. هذه المرّة العلاقة
التي تجمع بين الشخصيات ليست ناتجة كلها عن حادثة واحدة. في واقعه الفيلم 3
أفلام في عمل واحد: الأولى عن رحلة سياحية لأميركي (براد بت) وزوجته (كايت
بلانشيت) في المغرب تتعرّض فيها الزوجة لإصابة من بندقية كان يتسلّى بها
ولد قاصر كان حصل على البندقية من دون إذن والده الذي كان ابتاعها من مغربي
آخر وهذا كان قد حصل عليها هدية من رجل أعمال ياباني ثري بعدما انتهت
زيارته في المغرب وقرر العودة إلى بلاده.
في بيته الأميركي تقرر الخادمة المكسيكية أخذ عطلة، خلال غياب سيّدها،
لزيارة ابنها في المكسيك علما بأنها لا تحمل إقامة تتيح لها العودة من
هناك. الرحلة تبدأ عفوية وفرحة، لكنها تنتهي إلى مأساة.
ثم هنالك في اليابان حكاية ثالثة هي تلك التي تقع في بيت ذلك الثري (كوجي
ياكوشو في الدور). لقد ماتت زوجته منتحرة. والآن تعيش أبنته شيكو (رينكو
كيكوشي) وحيدة على مستويين: صلتها بأبيها مقطوعة عمليا كونه دائم العمل
والسفر، وصلتها بالعالم المحيط معدومة كونها صماء وبكماء. ما زلنا نبحث عن
كيف يمكن لفيلم بسيط التكوين (وعميق المفاد) مثل «إكيرو» أن يؤثر في المخرج
المكسيكي بنى صرحه على حكايات متداخلة على رقعة اتسعت عبر أفلامه الثلاث
الأولى كما يتضح.
الفيلم الرابع كان «بيوتيفول» والكلمة تعني جميل لكنها مكتوبة إنجليزيا،
وعن قصد، خطأ
(Biutiful):
فيلم صغير الميزانية صوّره، سنة 2010. في إسبانيا وتناول فيه حدثا واحدا من
دون الخروج منه ليتابع حكايات عدّة. خافييه باردم هو إنسان طيّب في شبكة
علاقات مريبة يحدوه خطر الموت من دون أن يراه أو يدرك مصدره. هذا ما يصل
بنا إلى فيلمه الخامس (والأخير إلى الآن) الذي هو أيضا مختلف عن أعماله
الثلاثة الأولى لناحية حكايته وشخصياته ومختلف عنها جميعا في أن معظم
أحداثها يقع في الداخل والداخل ليس سوى الحجرات والسلالم والممرات الضيّقة
التي بنيت في الاستوديو لتشابه مبنى مسرحيا. هناك مشهدان أو 3 تقع خارجيا
ومشهدان للصالة ذاتها، لكن الباقي يدور بين جوانب الجزء الخلفي غير المنظور
لروّاد المسرح.
لكن السؤال ما زال محقا: كيف صاغ فيلم كوروساوا سينما إيناريتو؟
في فندق يقع فوق جزيرة صغيرة من جزر فينسيا (يحتل الفندق الجزيرة بكاملها)
جلسنا لنصف ساعة نتداول هذا الأمر. كان «بيردمان» ما زال جديدا. كل الآفاق
مفتوحة أمامه بما في ذلك خروجه من مسابقة المهرجان الإيطالي. لاحقا ما مرّت
لجنة التحكيم، التي قادها الموسيقار ألكسندر دسبلا، على الفيلم مرور كرام
غير عادي. الجائزة الأولى ذهبت للفيلم السويدي، النرويجي «حمامة جلست على
غصن شجرة تفكر في الوجود» لروي أندرسون. الثانية للفيلم الروسي «ليالي ساعي
البريد البيضاء» لأندريه كونتشالوفسكي.
كلاهما يستحق، لكن كذلك «بيردمان». الإيهام بأن السياسة تأتي قبل الفن دفع
بفيلم لا يستحق هو «نظرة صمت» لجوشوا أوبنهايمر ليستحوذ آخر جائزة كان يمكن
لفيلم إيناريتو الاستحواذ عليها وهي جائزة لجنة التحكيم الخاصّة. أما مايكل
كيتون، بطل «بيردمان» فقد خسر حيال ممثل من الصف الثاني (دراميا كما فنيا)
وهو أدام درايفر عن فيلم ركيك عنوانه «قلوب جائعة» (إخراج للإيطالي سافيريو
كوزتانزو). |