'ويسترن' أردني يستلهم 'لورنس العرب' في مهرجان فنيسيا
العرب/ البندقية - أمير العمري
الفيلم الأردني 'ذيب'، الذي يتناول مغامرة مثيرة لطفل في الصحراء،
يفوز بجائزة أحسن إخراج في مسابقة قسم 'آفاق' في مهرجان فنيسيا
الدولي.
ضمن قسم “آفاق” في مهرجان فنيسيا الـ71 عرض فيلم “ذيب” للمخرج
الأردني ناجي أبو نوار الذي أنتج بدعم مالي من صندوق سند مهرجان
أبوظبي السينمائي، ولكنه فيلم أردني تماما. موفد "العرب" إلى
المهرجان الناقد أمير العمري شاهد الفيلم الفائز، وقدم القراءة
التالية.
وتدور أحداث الفيلم في الصحراء الأردنية، وسط البدو، والبدو هم
أبطاله الحقيقيون، وحياة البدو وتقاليدهم هي أصل موضوع الفيلم الذي
يستلهم “مغامرته” بلا شك، من مغامرة “لورنس العرب” الشهيرة، كما
شاهدها العالم في فيلم ديفيد لين منذ أكثر من خمسين عاما ولا يزال
يحن إلى مشاهدتها، بل إن في الفيلم أيضا ضابطا بريطانيا يأتي إلى
الصحراء، ويصحبه البدو لإيصاله إلى هدفه غير المحدد تماما ولكن
يمكن استنتاجه.
فاز فيلم “ذيب” -ومعناها باللهجة الدارجة ذئب- بجائزة أحسن إخراج
في مسابقة قسم “آفاق” لمهرجان فنيسيا، وهو فوز مستحق للفيلم، بل
ويعدّ أيضا أول فوز لفيلم عربي منذ سنوات بعيدة في هذا المهرجان
الدولي المرموق.
تدور أحداث الفيلم في عام 1916، أي إبان ما يعرف تاريخيا بـ”الثورة
العربية” ضد العثمانيين التي دعمها البريطانيون، حتى يتخلصوا من
سيطرة الأتراك على البلاد العربية، ليحل الانتداب البريطاني
بالتقاسم مع فرنسا كما هو معروف.
لكن فيلم “ذيب” لا يتعمق كثيرا في الجانب السياسي، بل تبقى الثورة
وتداعياتها على هامشه، فموضوعه يرتكز حول تلك المغامرة المثيرة في
الصحراء التي يكتشف فيها طفلا بدويا يدعى “ذيب”، وكيفية التعامل مع
طبيعة الصحراء، كما يكتشف الكثير من الأشياء الأخرى، حول الصراع
والجشع وحب البقاء.
ويبدو الفيلم متأثرا كثيرا بأفلام المخرج الإيطالي الراحل سيرجيو
ليوني، في طابعه التجريدي وشخصياته التي صحيح أنها تنتمي إلى
المنطقة، ومعظمها من البدو، وتتمسك بتقاليد البدو التي تفرض مثلا
ضرورة استقبال الضيف ومساعدته، وضرورة منح الأمان لمن يلجأ إليك
طواعية.
إلاّ أن فكرة “النجاة” الفردية تسيطر أيضا على معظم الشخصيات،
وخصوصا الطفل “ذيب” الذي يجد نفسه فجأة وحيدا في مواجهة المخاطر
وسط الصحراء المكشوفة.
تكون النجاة من الموت في "الويسترن" الأميركي مرتبطة بالرغبة في
الفوز بالذهب، إلا أن النجاة هنا هدف في حد ذاته
طريق إلى زوال
نحن نرى مجموعة من الثوار العرب يظهرون في أحد المشاهد، يعرضون على
أبطالنا من البدو المساعدة، كما يعرضون عليهم الانضمام إليهم، لكن
بدو هذا الفيلم هم البدو الرحل الذين لم يكونوا يجيدون في تلك
الفترة ومن قبلها، سوى مهنة واحدة هي قيادة قوافل الحجاج إلى مكة،
كما سيأتي على لسان قاطع الطريق الذي أصبح -كما يقول- قاطعا للطريق
بعد أن أصبحت مهنته القديمة مهددة بالزوال، بسبب إنشاء خط السكك
الحديدية (سكة حديد الحجاز) الذي أصبح العدو الأساسي لديه ولدى
رفاقه من البدو الرحل، وهو يطلق عليه “الحمار الحديد”، فقد تكفل
القطار بنقل الحجاج إلى الحجاز بعد أن كانوا يذهبون على ظهور
الإبل.
في البداية يهبط ضابط بريطاني ليلا صحبة “دليل” عربي إلى موطن
إقامة القبيلة التي ينتمي إليها البطل الصغير “ذيب” (جاسر عيد)،
الذي توفي والده مؤخرا، وأصبح يعيش في كنف شقيقه الأكبر “حسين”
(حسين سلامة).
وكعادة البدو يستضيفون الرجلين ويقدمون لهما الطعام والشراب، ثم
يكلفون “حسين” بمرافقة البريطاني إلى مقصده الغامض.. لكن ذيب
مدفوعا برغبته في حب الاستطلاع، يكشف عن وجود جهاز للتفجير من
الواضح أن الضابط الأنكليزي جاء به من القاهرة. وهو الآن ربما يرغب
في نقله إلى من سيستخدمه في تفجير خط سكة حديد الحجاز وتفجير
القطارات التركية التي كانت تنقل العتاد الحربي، وقد يكون مقصده
بالتالي هو ضابط المخابرات البريطانية “لورنس” نفسه. وهذه النقطة
تحديدا كان من الممكن أن تضيف الكثير إلى الفيلم، لو تابعها
السيناريو، بحيث يجعلها تتقاطع مع المسار الأساسي للفيلم، لكن ما
يحدث هو أن المخرج ناجي أبونوار وزميله في كتابة السيناريو باسل
غندور، فضلا التركيز بشكل أساسي على نمو وعي “ذيب”، وتجسيد شعوره
بالوحدة والوحشة، وهو يواجه موقفا عسيرا وحده في الصحراء بعد أن
يقتل الأنكليزي، ثم شقيقه على أيدي عصابة من قطاع الطرق.
ويتسلح هو بالمسدس الذي سقط من الضابط الأنكليزي محتميا بالظلام،
إلى أن يجد نفسه وجها لوجه مع قاطع الطريق الذي أصيب في ساقه
برصاصة أطلقها شقيق ذيب قبل أن يموت.
يتعلم الطفل كيف ينتزع رصاصة من الجسد البشري دون أدوات طبية، بل
باستخدام سكين محماة بالنار، واستخدام النار في تهيئة الخبز الجاف،
وهو لا يولي ثقته قط بالرجل الذي يصبح ملازما له، رغم حاجته إليه
ولو إلى حين.
فهذا الرجل هو من قتل شقيقه غدرا، وإن كان يبرر ذلك بأن “حسين” رفض
الاستسلام رغم الفرصة التي أتيحت له. يواجه ذيب تساقط العالم
القديم، عالم البدو الرحل، ونهاية قطاع الطرق، بل ونهاية الوجود
العثماني في بلاد العرب، ودخول المنطقة حقبة جديدة ستولد بعد أن
ينتهي الصراع الدائر.
مغامرة الفيلم
الفيلم يسرد مغامرة ذيب بكثير من الصدق، سواء في التفاصيل أم في
اختيار مواقع التصوير -منطقة وادي رم، حيث صورت بعض مشاهد فيلم
“لورنس العرب”-، التي تكثر فيها الجبال المظلمة المخيفة ليلا،
وتنتقل المغامرة من مكان إلى آخر، حيث تنشأ المعارك بين الرجال.
كل يبحث عن النجاة، على طريقة رعاة البقر في أفلام “الويسترن” التي
تدور في صحراء نيفادا الأميركية. ولكن بينما تكون النجاة من الموت
في “الويسترن” الأميركي مرتبطة بالرغبة في الفوز بالذهب ولو على
جثث الجميـــع، فالنجاة هنا هدف في حد ذاته.
الفيلم متأثر كثيرا بأفلام المخرج الإيطالي الراحل سيرجيو ليوني،
في طابعه التجريدي وشخصياته التي تنتمي إلى المنطقة
وعلى حين كان “الويسترن” الأميركي يؤرخ لبداية كيانات جديدة، أي
ولايات أميركية تقوم على فكرة الاستيطان والإبادة واستخراج
الثروات، يقوم فيلم “ذيب” على تصوير بعض ملامح نهاية نمط قديم من
أنماط الحياة في الصحراء، حياة البدو الرحل الذين سيأتي وقت فيما
بعد، يحظر عليهم فيها الترحال، ويصبح مطلوبا منهم الاستقرار في
مواقع مخصصة لهم.
مغامرة ناجي أبونوار في تصوير الفيلم، لا شك أنها أثمرت فيلما
بديعا في تفاصيله البصرية، يتميز بتلقائية الأداء (جميع الممثلين
من البدو الحقيقيين، باستثناء الممثل الذي قام بدور الضابط
البريطاني)، وبمناظره المثيرة وموسيقاه التي تستلهم من البيئة،
والنجاح الكبير في تحريك مجموعة الممثلين غير المحترفين.
ويجيد المخرج التعامل مع اختيار مواقع التصوير، والتحكم في الإضاءة
بمساعدة مدير التصوير النمساوي وولفجانج ثالر، الذي سبق أن عمل مع
المخرج النمساوي أولريش سيدل في ثلاثيته الشهيرة “الفردوس”.
فوولفجانج ثالر يعود إليه الفضل في تلك الصورة البديعة التي جاء
عليها الفيلم، واهتمامه خاصة باللقطات القريبة (كلوز أب)، التي
تكشف مشاعر الخوف والقلق لدى الشخصيات، كما تعكس اهتمامه بالعلاقة
بين الشخصية والمكان.
في الفيلم كل العناصر التي تجذب المشاهد الغربي: الجمال، الصحراء
الممتدة إلى ما لانهاية، مخفر الشرطة العسكرية العثماني -يذكرنا
أيضا بـ “لورنس العرب”-، الخناجر القديمة، خبز البدو، الآبار
القديمة في الصحراء: هناك بئر مهجور يعود إلى العصر الروماني،
عندما يحاول الضابط البريطاني استخدامها للحصول على وعاء من
المـاء، يكتشف أنها مليئة بالدماء والجثث!
وفي الفيلم ما يجعله قريبا من المشاهد العربي من زاوية الاهتمام
بالمنطقة وتاريخها. الطفل ذيب يصل خلال رحلته نحو اكتساب الوعي،
إلى ضرورة قتل الرجل الذي لازمه مرغما أي قاطع الطريق (حسن مطلق)،
بعد توجه الأخير إلى القائد التركي في المنطقة ليبيع له ما سرقه من
مخلفات الضابط البريطاني بما في ذلك جهاز التفجير، مدعيا أنها
ممتلكاته الخاصة. وكأن “ذيب” قد عثر أخيرا على مبرر لقتله بتهمة
خيانته للثورة العربية.
جدير بالذكر أن المخرج ناجي أبونوار الذي ولد ونشأ في بريطانيا، ثم
عاد إلى الأردن واستقر به قبل عشر سنوات، قضى عاما كاملا صحبة
البدو، يعيش بينهم، وينتقل معهم، يتعلم منهم ويستمع إلى الكثير من
قصصهم وحكاياتهم، ويكتب موضوع فيلمه مستلهما تلك الروايات
بتفاصيلها الدقيقة. |