سينما مغايرة وقليلة الانتشار من شاشات العالم إلى
دبي
هوفيك حبشيان - دبي
المصدر: "النهار"
في كلّ عام، يعرض مهرجان دبي السينمائي (٦ - ١٣
الجاري) مجموعة أفلام تنافست على أرفع الجوائز في التظاهرات
السينمائية الدولية. الإتيان بهذه الأعمال إلى عاصمة الإمارات
يشكّل فسحة للمشاهدين. فدبي كغيرها من المدن العربية، يحتل الإنتاج
الأميركي الـ"مينستريم" فيها معظم الصالات. طوال ثمانية أيام،
يتحوّل المهرجان منصّة لمعاينة أحدث الإتجاهات في السينما المستقلة
أو الأوروبية، بعيداً عمّا يُعرَض في الصالات التجارية. في الآتي،
بعض الأفلام التي صنعت عام ٢٠١٧ في كانّ والبندقية فدبي.
"داونسايزينغ"
يعيد المخرج الأميركي ألكسندر باين إلى الواجهة السينمائية بعد
أربع سنوات من "نبراسكا". الفيلم من نوع الكوميديا السوداء
المطعّمة بالخيال العلمي. انه سابع فيلم لباين الذي استطاع فرض
رؤية سينمائية ناضجة على هامش هوليوود من خلال أفلام مثل "مستر
شميدت".
الإبهار هو هاجس باين الأول هنا. لا نقصد الإبهار
الرخيص، بل ذلك الذي يجد جذوره في الفكر والنقاش والتزام قضية
انسانية. الفيلم يقتفي اثر الكثير من الأعمال التي يتولى فيها
"البطولة"، ذاك الأميركي العادي الذي يجد نفسه فجأة في ظروف
استثنائية لم يكن مستعداً لها، فتصبح تلك الظروف بمثابة إمتحان له
ولقدراته ولجوهره الآدمي. الفيلم يراقب كيفية تعاطيه معها. سواء
أخرج منها منتصراً أم خاسراً، ففي الحالتين، سيجعله التغيير الذي
سيطرأ عليه يعيد النظر في مسلّماته واقتناعاته ومواقفه.
مات دايمون يجسد هنا نموذجاً للمواطن الأميركي الذي
لا يتميز بأي شيء. فهو لا يعدو كونه مستهلكاً. وعندما تنعدم الفرص
أمامه، يقرر هو وزوجته اللجوء إلى عملية ليصبحا أصغر حجماً! نعم.
فالعالم الذي يعيش فيه بول بات يتيح لمن يرغب الانتقال من شخص طوله
متر وثمانون سنتيمتراً إلى ١٢ سنتيمتراً فقط لا غير، وهذه ثمرة
اختراع نروجي - كما سنرى في مطلع الفيلم - للحد من الكثافة
السكّانية وحماية البيئة. فهؤلاء "الأقزام"لديهم قراهم الخاصة بهم،
يعيشون فيها كأنهم يعيشون في "ديزني لاند".
خطاب سياسي وإجتماعي واقتصادي وبيئي مهم يعبر
الفيلم برمته، وإن كان مبطناً في الكثير من الأحيان.
أراد باين استعارة عن الإنسان ومكانه في العالم
المعاصر. هذه المرة يذهب بعيداً في جنونه المتفلت والعبثية التي
يصوّر بها ناساً يعرفهم جيداً، منتهياً إلى فكرة ان الطبيعة
البشرية تبقى هي هي مهما تعددت سبل "إصلاح" الإنسان.
لمحمد رسول آف عُرض في دبي "رجل نزيه" الفائز
بالجائزة الكبرى لقسم "نظرة ما" في مهرجان كانّ الأخير. فيلمه هذا
عن الفساد في بلاده إيران. رسول آف هو "برسونا نون غراتا" (شخص غير
مرغوب فيه) في إيران منذ المشكلات التي واجهها في العام ٢٠١٢، بحيث
مُنع من مزاولة العمل، بل كان مطلوباً للعدالة، بعد القرار الصادر
في حقه والقاضي بسجنه ومنعه من مغادرة البلاد، شأنه شأن زميله جعفر
بناهي. أخيراً، استقر رسول آف في برلين، ويعود إلى طهران بين حين
وآخر. "إلى الآن، لا أزال محظوراً"، يصرّ رسول آف، بلا أي تردد.
"ولكن، لا أنتظر اذناً من أحد كي أصوّر. طبعاً، في البداية أتبع
السبل التقليدية عبر طلب اذن تصوير، ولكن حتى لو رُفض طلبي، لا
يمنعني هذا عن التصوير".
سيرغي لوزنيتسا، أوكراني النشأة، روسي الهمّ،
وسلافي الروح. سينمائي كبير يتنقل بسهولة بين الوثائقي والروائي.
شاهدنا له "سيدة رقيقة"، الذي شكّل "حالة" في مهرجان كانّ الأخير.
اذا تعمّقنا في سجله السينمائي، نكتشف انه لم يتوقف عن التصوير في
السنوات الأخيرة. أشهر معدودة تفصل "أوسترليتز" عن "سيدة رقيقة".
الحكاية عن سيدة تريد زيارة زوجها المحكوم بجريمة
قتل في سجنه، بعدما أعيد إليها الطرد الذي كانت أرسلته إليه. إلا
أنّ جملة إجراءات وظروف تعترض طريقها وتؤخر اللقاء، فتجد نفسها
تتنقل من مكان إلى آخر، ليكون المخرج بذلك أمام واقعية تصوير
حكايات هذه الأمكنة. سيدتنا الرقيقة الناعمة هي العين الخارجية على
روسيا، ناسها، بؤسها، طغاتها، وأولئك الذين يثرثرون كثيراً، أو
الذين يصمتون ويتلقون الضربات تلو الضربات. ثم هناك ذلك المشهد
الفيلّليني الذي يدوم ويدوم، قبل أن نعلم أنّه لم يكن سوى ثانية.
نعم، الأحلام ثوانٍ. الكوابيس أيضاً.
"شكل
المياه" لغييرمو دل تورو، جاء إلى دبي من البندقية، بعدما فاز فيها
بـ"الأسد الذهب". عمل فانتازي باركه النقّاد منذ اللحظة الأولى
لعرضه. المخرج المكسيكي قدّم فيلماً عن علاقة غرائبية تربط كائناً
برمائياً بموظفة بكماء (سالي هوكينز). تجري الأحداث في أميركا خلال
الحرب الباردة. يكمن جمال الفيلم في رشاقته الإخراجية وإتقان
الممثلين لأدوارهم، يُضاف اليهما نصّ أوريجينال ومونتاج متداخل لا
يترك مساحة لبرهة تائهة. القصة تأتي بجرعة انفعالات غير قليلة
تتضمن إحالات سينيفيلية. هناك مقاربة لتيمة التوحش في السينما، مع
شيء من الفيتيشية الجنسية المحببة التي تجعل فتاة طيبة القلب تقع
في حب مخلوق برمائي. على الرغم من حرفته الكبيرة وجرأته، لا يناقش
الفيلم قضية ملحّة، الا ان اسناد جائزة إليه في فينيسيا، يُعتبر
لفتة جميلة لسينما الـ"جانر" الذكية، التي تقع أحياناً ضحية سطوة
"سينما المؤلف". ما نتابعه على الشاشة هو حكاية بالمفهوم التقليدي.
يقول الخلاّق الكبير دل تورو انه يتصدى للسينيكية من خلالها.
حياة كاتيا (ديان كروغر) تتعقّد بعد مقتل زوجها
وابنها في تفجير إرهابي. هذا هو الخط الرئيسي لأحدث أفلام المخرج
الألماني فاتي أكين، "من العدم"، الذي نالت عنه كروغر جائزة أفضل
تمثيل في مهرجان كانّ الأخير، وها هو دخل السباق على "أوسكار" أفضل
فيلم أجنبي. بعد التفجير، يرمينا الفيلم في جلسات قضائية طويلة،
ستكون مجحفة في حق الضحايا، ما سيدفع بكاتيا إلى انتزاع حقها
بيدها. زوج كاتيا مسلم من أصول كردية، وهذا ليس تفصيلاً، لأن
المعتدين المفترضين ينتمون الى خلية تتألف من نازيين جدد.
عندما تبدأ المحاكمة، يعتبر القضاء أنّ التفجير
خلفيته تصفية حسابات بين مافيات ترويج المخدرات، بناءً على ماضي
الزوج (كان محكوماً بتهمة الاتجار بالمخدرات). إلا أنّ كاتيا
مقتنعة بأنّ الجريمة جاءت بتوقيع تنظيم نيونازي.
يقدم أكين فيلماً ديناميكياً متوتراً يذهب مباشرة
إلى الهدف. فهو يجتهد في اتمام فيلم ترفيهي يكون في الحين عينه
وثيقة اجتماعية مصوّرة بحساسية عالية كما كانت الحال مع "هاد أون"
أو "في الجانب الآخر". العلة تكمن في أننا لا نملك الوقت المطلوب
لنتعرف إلى الزوج والابن للبكاء على مصيرهما، أو على الأقل
للاهتمام بهما. المشكلة الأخرى هي أنّ العلاقة بين كاتيا
والضحيتين، مقطوعة الأوصال. لن نعرف عنها الكثير، تُختزل المسألة
بأكملها برفض عائلتها كما عائلة الزوج لعلاقة ما بين الأعراق. لا
يبذل أكين جهداً كبيراً للتعمّق فيها. لذلك، يبدو فيلمه تبسيطياً
يقع في الخيارات السهلة. لحسن حظنا، هناك ديان كروغر التي تعطي
شرعية معينة للفيلم، وتنتشل بعض المَشاهد من رتابتها. بسببها نصدّق
بعضاً مما نصدّقه.
التنكيل بالبورجوازية الغربية المعزولة في أبراجها
وخلف ستار النجاح والتفوّق هو الشغل الشاغل ليورغوس لانثيموس في
"قتل الغزال المقدس"، هو الذي خرج قوياً من نجاح "سرطان البحر"،حد
انه استطاع الحصول على نيكول كيدمان، الوجه الذي رسم عليه كل أشكال
الريبة والالتباس. لانثيموس يعري هذا المجتمع المختزَل في شخصين،
بأحطّ الأساليب وأكثرها غرابة. فهو، علاوة على جرأته يمتلك الصنعة
والحرفة، يعرف ماذا يريد، والأغرب أنّ لديه قدرة عالية على الإقناع.
يحملنا الفيلم، ضمن أجواء مشحونة ومتوتّرة ومناخات
ضاغطة وأماكن توحي بأننا في عالم موازٍ، إلى عائلة تتألف من
زوجوزوجته وولديهما. كل شيء يبدو طبيعياً، الا أنّ خلف جدران
الفيللا والمظاهر الأنيقة والسيارة الفارهة وكل هذا "البرستيج"
الاجتماعي، ثمة الكثير من الأسرار التي سيكشفها لانثيموس تباعاً،
ليس من دون خضّات مريعة وانهيارات تهزّ الفيلم برمّته.
####
"طعم
الإسمنت" الفائز بأفضل وثائقي في "دبي":
فيلم البناء والدمار في سوريا ولبنان
هوفيك حبشيان - دبي
- المصدر: "النهار"
لا يحتاج المخرج السوري زياد كلثوم إلى الكثير من
الكلمات لتحقيق "طعم الإسمنت"، الفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في
مهرجان دبي السينمائي (٦ - ١٣ الجاري). توضيح هنا. محاولة ربط فكرة
بلقطة هناك. هذا يكفي. فاللقطة عنده، على مشهديتها، تنطوي على كمّ
من المعلومات، وهذا وحده يعيدنا إلى فجر السينما. ثم ان صمت سينماه
البليغ يلتقي صمت العمّال الذي يعكّر صفوه بعض الضجيج الصادر من
احتكاك الحديد بالحديد. يذهب بفيلمه المرهف إلى أبعد من ذلك: فهو
ليس عاجزاً عن القول والتعبير، بل عن تأكيد الأسى والاحتقان، لذا
يختار الأجساد حقيقة لكشف ما في النفوس.
المشاهد العريضة في "طعم الإسمنت" تصوّر رجالاً
معلّقين بين السماء والأرض. انهم عمّال بناء سوريون، ينظرون في
اتجاه الأفق، أحدهم يتذكّر والده عامل البناء في بيروت، ويستعيد
ذكريات الطفولة التي لم تفارفه. العمّال هنا "ناجون" وجدوا حالهم
في مواجهة آلات ومعدات بناء ثقيلة تسحقهم ولا تكترث. يجعلهم المخرج
حرفياً في الوضعية التي هم فيها، يعني بين فضاءين، لحظتين
مصيريتين. رؤوسهم لم تنطح الغيوم بعد، لكن أقدامهم لا تتجرأ ان
تدوس الأرض. ليس عليها ما يستحق ذلك.
"بس
تبلّش الحرب، المعمرجية بروحوا على بلد تاني، وبينطروا الحرب
ببلدهم لتخلص، ويرجعوا يعمروه"، يقول البنّاء، مُحدثاً شرخاً
كبيراً في قلب الفيلم. فكيف لهؤلاء الذين تتسرب أحلامهم من بين
أصابعهم التي أتلفتها المواد الصلبة والخشنة، ان يبنوا أحلام
الآخرين طابقاً فوق طابق؟ مفارقة البناء/ التدمير - الصعود/ النزول
التي يوحي بها هؤلاء هي في صلب "طعم الإسمنت". الا ان الفيلم على
قدر معين من الذكاء كي لا يقول الأشياء بطريقة مباشرة، أو ان يضعنا
في قلب ثنائية شغلتنا بعد انتهاء الحرب وإعادة إعمار البلد، ونعني
بها ثنائية الحجر والبشر.
كلّ مادة من مواد البناء تكتسي أمام كاميرا مدير
التصوير طلال خوري ذورة تعبيرية. سواء أكانت خشبة تُقطع بالمنشار،
أمحبالاً من الحديد تلتوي، أم باطوناً يتم صبه، يتشكل المعنى وهي
غير مكتسبة. أما جمالية الصورة فتجعل من محتوى علبة سردين يفرغها
العامل على رغيف خبز، الحقيقة الوحيدة التي يستحق الأخير أن يعمل
من أجلها، في ظل إنهيار كلّ شيء من حوله. ثمة شاعرية يستخرجها
الفيلم من الأشياء التي لا نلتفت اليها في أي مدينة، فما بالك اذا
كانت بيروت، الورشة التي لا تنتهي. لو لم يكن الفيلم سوى هذا، لكان
ليكون جميلاً ومؤثراً، لكنه سرعان ما يتخطاه ليلامس أوجاعاً أخرى.
فيرينا هؤلاء الذين لا نعرفهم الا بقدر ما تتيحه الجغرافيا. كأن
العامل السوري غير المرغوب به أينما حلّ في بلد الجميع يبغض
الجميع، يصبح مرئياً…
يطلّ الكادر على لبنان بصفته بقعة يصعب اختراقها،
فهمها، والانتماء إليها. تبقى الكاميرا على مسافة منها. انها مسافة
"طبيعية" اذا أخدنا في الاعتبار المسافة بين العامل والبيئة التي
يعيش فيها. زحمة السير التي تخنق اللبنانيين، يصوّرها الفيلم كسحبة
ملونة تكسر كآبتها. الفيلم يلفظ المدينة، بقدر ما تلفظ المدينة مَن
يبنيها. والمدينة ليست أفضل حالاً من بنّائيها: بشعة، ملوثة،
فوضوية. المخرج يطرح نفسه هنا مراقباً لديه موقف ووظيفة ومكلف
أمراً ما، ولكن سرعان ما تسقط كلّ التكليفات أمام إغراء السينما.
الا ان اصراره على إدخال مادة إخبارية (لافتة تذم السوريين) إلى
فيلم يصنع نفسه بنفسه ويستغني عن التعليق، يُعدّ اقتداراً.
ثمة مشهد بديع تم التقاطه من فوق، يظهر العمّال وهم
يسلكون السلالم، الا ان تشكيل الصورة يجعلهم يبدون كأنهم ينزلون
إلى جبّ في الأرض، أو في حفرة حيث ظلام دامس. كالسجناء، دائماً
كالسجناء، تحاصرهم الجدران وأسياخ الحديد والأقفاص، لتنعكس ظلالها
على وجوههم الحزينة والمهمومة. المباني الشاهقة التي يشيدونها تصبح
هي نفسها في الأخير قبوراً ينامون فيها. نراهم يقلبون صور الدمار
على شاشات هواتفهم المحمولة. وما أصوات مذيعي نشرات الأخبار سوى
أصداء لما هم فيه، ولا يدركون ذلك الا عندما يعودون إلى الجبّ، بعد
أن تدفشهم المدينة إلى هذا الحيّز اللا إنساني
الإسمنت هو ما يربط ماضي عامل بحاضره. رائحة تلك
المادة التي ما إن فارقته في سوريا حتى عادت لتزكم أنفه في لبنان.
من حفرة تم انتشاله منها بعد تدمير مبنى، إلى حفرة عاد اليها
ليبني. البناء والتدمير لم يكونا يوماً متواطئين إلى هذا الحد.
بحنكة لافتة، يهدم الفيلم الفاصل بين ماضي لبنان القريب وحاضر
سوريا. غريب كيف ان فيلماً عن سوريين يصبح أيضاً فيلماً عن لبنان!
"طعم
الإسمنت" فيلم عن الضجيج، ضجيج آلات الدمار ومعدّات البناء الذي
يصبح واحداً في رأس عمّال البناء. مشتغلاً بموارد سينمائية محدودة،
يختار نص كلثوم زاوية محددة لقول أهوال الحرب والسلم على أشخاص
يتلقون ضربة تلو ضربة، مدركاً انه "كلما إتسعت الرؤية، ضاقت
العبارة". |