في خطاب وجهه إلى الرئيس الفرنسي عام 1898 وحمل عنوان «إني أتهم»،
كرر إميل زولا جملته «إني أتهم...» مُضيفاً إليها أسماء بارزة من
قيادات الدولة الفرنسية اعتبر أصحابها متورطين في تلفيق قضية
درايفوس والحكم عليه بعشر سنوات ظلماً.
زولا الكاتب الذي لا يملك نفوذاً ولا سلاحاً وإنما قلمه فقط، لجأ
إلى كتابة «خطاب» للتنديد بالعدالة الزائفة! حيث محاكمة الضحية لا
الجاني! وما فعله يتردد صداه إلى أن يصل بنا إلى «الفلاح المصري
الفصيح» قبل أربعة آلاف عام، حين تعرض الفلاح للظلم على يد بعض
رجال الملك، لكنه بدلاً من أن يبتلع مرارة الظلم قرر أن يشكو...
يومها ولشدة إعجاب الوزير بفصاحته أتاح له فرصة أن يترافع عن قضيته
بنفسه أمام الملك، في تسع مرافعات شهيرة، ترصد معنى وقيمة العدل
للإنسان، والأوطان.
ما علاقة خطاب زولا «إني أتهم» بمرافعات الفلاح الفصيح، بما فعلته
المواطنة الأميركية «ميلدريد هيس» في ولاية ميسوري؟
إنها مثلهما شعرت بمرارة العدالة الزائفة، عندما تطبق شكليات
القانون لكن الحقيقة لا تُقام. فقررت أن تترافع عن قضيتها مثلهما
بـ «الكلام»، فهذا كل ما تملكه.
لكنه هذه المرة ليس خطاباً أدبياً، ولا مرافعات تقطر حكمة، بل ذهبت
إلى مكتب إعلانات واستأجرت ثلاث لوحات كبيرة على طريق مهجورة في
بلدة «إبيغ» بالقرب من منزلها وكتبت عليها: «اغتصبت بينما كانت
تحتضر»، و»حتى الآن لا معتقلين»، «كيف ذلك أيها الرئيس ويلوبي؟» من
هنا كان عنوان الفيلم الطويل، والغريب: «ثلاث لوحات إعلانية خارج
إبيغ، ميسوري».
جاء «عنوان» الفيلم بديعاً، وفي الوقت ذاته علامة مفتاحية للولوج
إليه، وتلخيصاً رهيف لحكايته، ارتفع بطبيعة الشريط عن أين يكون
مجرد فيلم بوليسي لحل لغز اغتصاب ومقتل المراهقة أنجيلا ابنة
«ميلدريد».
الوعي الفاتن
تُفتتح «عناوين» الفيلم بصوت أوبرالي ملائكي، مع لقطات فوتوغرافية
لفضاء ساكن، يتصدره طريق خالٍ، وثلاث لوحات شبه محطمة من زوايا
مختلفة، يمكن فيها تمييز وجه طفل وأيضاً كلمة «حياتك». ثم تبدأ
الحركة مع ظهور سيارة «ميلدريد» وانعكاس عينيها في المرآة، في شرود
وحزن قاتم.
هذا الوعي الفاتن بالتفاصيل، والحس الرمزي، لم يفارق كاتب ومخرج
ومنتج الفيلم مارتين ماكوندا... ففي غمرة الصراع وتلاحق الأحداث،
تظهر أمام البطلة «غزالة» فتدير معها حواراً من طرف واحد حول الموت
وتناسخ الأرواح، وكأنها قد تكون صبيتها القتيلة!
وهكذا كان الجو البوليسي مجرد إطار محكم ومشوق، لقول أشياء أكثر
أهمية عن الحياة والموت والعدالة... لذلك حافظ ماكوندا على تلوين
فيلمه بمجموعة منتقاة من الأغنيات والمعزوفات، وتمرير أفكار
شخصياته الفلسفية، مع لمحة كوميدية ساخرة تخفف كآبة موضوعه.
كذلك لم يتساهل في رسم الشخصيات وتعميقها، اكتفاء بالتشويق اللغزي
في تعقب الجاني. بل استفاد من خبرته المسرحية في بناء شخصياته،
كبشر لا كأنماط، فيهم البذرة الصالحة والغموض والشر والخطأ، ولكل
منهم قصة تستحق أن تُروى. كما اختار فريق عمله بالاعتماد على
ممثلين مجتهدين وليس على «نجوم» شباك التذاكر.
لدينا «ميلدريد» الأم التي بلغت الشيخوخة وأدت دورها بحساسية فائقة
الممثلة المخضرمة فرانسيس ماكدورماند، واستحقت عنه نيل جائزة الكرة
الذهبية والترشح لأوسكار أفضل ممثلة. وهي امرأة ليست طيبة ساذجة،
بل قاسية صعبة المراس، انفصلت عن زوجها الذي يعيش مع فتاة مراهقة
في عمر ابنته القتيلة، بينما تعيش هي مع ابنها الشاب المكئتب.
التعاطف لا يكفي
أصبح هدفها الوحيد في الحياة العثور على مغتصب ابنتها، ولا شك في
أن «الانتقام» قالب حكائي شديد الجاذبية على شاشة السينما، يتطلب
شخصية بطولية خارقة، وعادة ما يقوم به رجل.
المفارقة هنا أن النص أسند دور «البطولة» إلى المرأة، فالأم هي
الأشد حزناً على ابنتها والأكثر حرصاً على القصاص، في حين أن الأب
قرر أن يتناسى ويعيش ملذاته.
وفي بيئة صغيرة مثل خشبة مسرح محكم، يعيش مجتمع البلدة الصغير
المتعاطف تماماً مع مأساتها، لكن التعاطف وحده لن يحقق العدالة ولن
يعيد إليها ابنتها، بل كلما مرت الشهور أصبح الجاني في مأمن من
الملاحقة، خصوصاً أن الشرطة التي يقودها الضابط «ويلوبي» أو وودي
هارلسون، تكاد أن تنتهي تحقيقاتها الشكلية إلى حفظ القضية.
والمؤسف أن المجتمع المتعاطف معها، يرفض في الوقت ذاته الإساءة ولو
كانت مواربة إلى الضابط «ويلوبي» عبر تلك اللوحات والسؤال الموجه
إليه وكأنه لوم على تقصيره، وما يزيد تعاطف الناس معه أنه مصاب
بالسرطان ويعيش أيامه الأخيرة.
قانوناً، ليس هناك ما يُسيء في تلك اللوحات، لكنها أعادت النقاش
العالم في البلدة بشأن الجريمة، ودفعت الشرطة للعمل عليها مرة
أخرى، بل أثارت فضول قنوات التلفزة لمتابعة قصة تلك المرأة سليطة
اللسان، التي ابتكرت تلك اللوحات كي لا تموت قضية ابنتها.
«ويلوبي» المريض، يدرك أنه سيفارق الحياة قريباً تاركاً زوجته
وطفلتين، لذلك أبدى تفهماً لتصرفاتها، على رغم انزعاجه من لوحاتها
حيث حاول إقناعها بإزالتها.
أما مساعده «ديكسون» أو سام روكويل، المرشح لأوسكار أفضل ممثل دور
ثان، فهو ضابط شاب أبيض، يتباهى علناً بعنصريته ضد السود، ولا
يتوقف عن معاقرة الخمر، ويكاد لا يفصل بين وظيفة الشرطي ورجل
العصابة، ولا يتورع في تلفيق التهم لكل من يساند «ميلدريد»، وحين
يفشل في الضغط على مدير مكتب الإعلانات لإلغاء تعاقده معها، يقوم
بضربه وإلقائه من النافذة ما يتسبب في طرده من الخدمة.
من أهم نقاط القوة في السيناريو وقوف شخصيتي «ميلدريد» و «ديكسون»
على طرفي نقيض، هي امرأة مكتهلة، تؤمن بقضية عادلة، وهو شاب مندفع
يؤمن بالقوة. هي تبحث عمن ارتكب ذلك الخطأ الفظيع بحق ابنتها، وهو
لا يتوقف عن ارتكاب الأخطاء والحماقات. لكنهما يشتركان في القسوة
والعناد.
ثم في الجزء الأخير، يحدث التحول بتقارب الاثنين، حين يقرران
الانتقام من أحد الأشخاص لديهما شكوك قوية أنه هو المغتصب، أو على
الأقل هما على يقين بأنه قام بجريمة اغتصاب لفتاة ما.
ووفقاً لفلسفة «ميلدريد» في العدالة، أنه طالما قررت الصمت على ما
تفعله العصابة أو انضممت إليها، فأنت تستحق العقاب عن أي جريمة تقع
حتى لو لم تكن من ارتكبها.
من هنا، يقرر الاثنان أخيراً أن يتحدا للقصاص من مجرم طليق، حتى لو
كانا لا يعرفان على وجه اليقين تفاصيل جريمته، يكفي أنه اعترف
متباهياً في البار أنه اغتصب فتاة ما... كان لها حياة واعدة مثل
ابنتها «أنجيلا».
وكأن العدالة المطلقة حلم لا يمكن تحقيقه، على رغم كل القوانين
ومؤسسات الشرطة والقضاء، ولا بد للشخص نفسه أحياناً أن يقوم
بإنفاذها بنفسه... حتى لو ساورته الشكوك... المهم هنا شرف
المحاولة، وعدم السكوت، فلولا زولا لمات درايفوس مجهولاً مظلوماً.
وكان ماكوندا واعياً في نسج خيوط فيلمه ومشاهده، ليكون بمثابة
عريضة اتهام على طريقة إميل زولا، ضد فساد وعنصرية مؤسسات الشرطة
والكنيسة والمجتمع الذكوري كله... أي ضد الرجل نفسه... إني أتهم:
الشرطي، القس، الأب، المغتصب... منتصراً للأم وحدها حارسة العدالة-
على الأرض- بحدسها الذي لا يخطئ.
####
«الإهانة»: دعوة إلى الخروج من منطق الحروب العبثية
مونتريال - «الحياة»
بتنا نعرف الآن أن «الإهانة» فيلم لم يتوقف عن إثارة الجدل منذ
ظهوره على الشاشات اللبنانية والعربية والعالمية. هو الذي للمرة
الأولى في تاريخ الأوسكار أوصل عملاً لبنانياً روائياً طويلاً (112
دقيقة) للمخرج «المثلت الهويات»، الأميركي- الفرنسي- اللبناني،
زياد دويري، الى الترشيحات النهائية لينافس خمسة أفلام عامية أخرى
في فئة أفضل فيلم أجنبي. وينضم صاحبه بالتالي الى قائمة مشاهير
الفن السابع.
يشار الى أن شركة التوزيع السينمائي (آي زي فيلم –
AZ Films)
لصاحبها السينمائي الكندي اللبناني أنطوان زند قد اشترت حقوق توزيع
الفيلم في كندا، وبدأت عروضه تظهر تباعاً على شاشات مونتريال وكيبك
وتورنتو. وهو يحظى اليوم بتغطية واسعة في الصحف الكندية نظراً
لكثرة وجود أبناء الجالية اللبنانية المقيمين في المجال الحيوي
لصالات العرض.
ويرى زند أن الإقبال الواسع على الفيلم في مونتريال خلال الأيام
القليلة الماضية، يعتبر مؤشراً كبيراً الى استمرار عروضه في
الصالات السينمائية الكندية. ويأمل بأن يتجاوز منافسة الأفلام التي
توجت سابقاً بجوائز عالمية مرموقة، وأن يتكلل بالفوز يوم حفل
الأوسكار في الرابع من شهر آذار(مارس) المقبل.
مقاربة كندية
لم يقتصر اهتمام الصحافة الكندية على تقديم معلومات عامة عن مضامين
الفيلم ومكان عرضه وزمانه وحسب، وانما تطرق الى دقائق وملخصات
حوادث «الإهانة» التي جرت في أحد أحياء العاصمة اللبنانية بين طوني
المسيحي اللبناني (عادل كرم) وياسر اللاجئ المسلم الفلسطيني (كامل
الباشا) وتضخيمها الإعلامي وتطوراتها الدرامية داخل المحاكم
وخارجها. وتابعت بعض الأقلام الكندية مواكبة هذه التداعيات
المأسوية، التي وضعت لبنان على شفير انفجار داخلي، وترجمته على صدر
الصحف المونتريالية بعناوين صادمة مستوحاة من «ارشيف» وذاكرة
الصراعات الدموية مثال «نكء جروح الحرب» و «دوامة لبنان الجهنمية»
و «ثقل الكلمات وأوزارها» و «المواطنة المستحيلة».
في هذا السياق، وصف مارك اندريه لوسييه الناقد الكندي في صحيفة «لا
برس»، مجمل حوادث الفيلم بقوله «من نزاع بسيط، بين ياسر الذكي
والمغلوب على أمره، وبين طوني المخادع، تحول الى معركة كبيرة، رسم
المخرج زياد دويري أدوارها وتطوراتها ومشاهدها الدراماتيكية في بلد
تعرض لحروب وصراعات لا تنتهي».
وينوه لوسيه بدور المرأة زوجة طوني على خلفية تعامله «العنصري» مع
ياسر الفلسطيني. كما يشيد بتبني المرأة الأخرى، المحامية الدفاع عن
ياسر كإنسان وعن قضيته العادلة. وهو يعقب على انتصار ديامان بوعبود
(المحامية)، في المواجهة «الدرامية القانونية»، ويصف انتصارها بأنه
«نقطة تحوّل في السينما اللبنانية، تتخطى المعايير الذكورية
والعاطفية لمصلحة الدفاع عن الحق والقانون والإنسان».
في المقابل، تلفت الناقدة في جريدة «لو دوفوار» مانون ديموا، الى
أن الأجواء التي تخللت المحاكمة الثانية لم تقتصر على خلاف بين
شخصين، وانما كان يرافقها من خلال استجواب المحامين، «أصوات تستحضر
الوضع المعقد حول الشرق الأوسط، والصراع- الإسرائيلي- الفلسطيني،
ومصير اللاجئين، والعيش المشترك». وتضيف: «من الواضح أن العديد من
هذه الأسئلة وتعقيد الرهانات الاجتماعية والسياسية لا تزال ومن دون
إجابة، وربما بانتطار أجواء أكثر ملاءمة للتخلص من حالة اللاوعي
الجماعي والتأسيس لحوار ممكن». |