فيلم "الكتاب الأخضر" للمخرج الأميركي بيتر فاريللي يلاقي
ترحيبا كبيرا بعد عرضه خلال افتتاح الدورة الـ40 من مهرجان القاهرة
السينمائي.
القاهرة
- فيلم
“الكتاب الأخضر”
(Green Book)
للمخرج الأميركي بيتر فاريللي، هو أول الأفلام التي يخرجها وحده بعد أن
اعتاد أن يعمل بالاشتراك مع شقيقه روبرت فاريلل، على غرار الأخوين كوين،
وقد كتب له السيناريو مع بريان هايس ونيكولاس فاليلونغا، وهو يستند إلى
أحداث حقيقية وقعت في أوائل الستينات، أي في زمن تصاعد الممارسات العنصرية
والاعتداءات التي شهدها الجنوب الأميركي بوجه عام ضد الأفرو- أميركيين،
وقبيل ظهور ما عرف بـ”القوة السوداء”، أو رد الفعل السياسي العنيف من جانب
السود الأميركيين رفضا للعنصرية.
من الأفلام القليلة التي حدث إجماع عليها من جانب
السينمائيين والجمهور والنقاد فيلم “الكتاب الأخضر” الذي لقي ترحيبا كبيرا
عندما انتهى عرضه في افتتاح الدورة الـ40 من مهرجان القاهرة السينمائي في
الـ20 من نوفمبر الجاري، والتي تستمر حتى الـ30 من الشهر نفسه.
الفيلم يقوم على شخصيتين رئيسيتين هما السائق الأبيض من أصل
إيطالي “توني فاليلونغا” الذي كان يعرف حسبما أطلقه عليه أصدقاؤه “توني
ليب”، أي توني الذي يثرثر كثيرا، وعازف بيانو أسود موهوب هو دونالد أو “دون
شيرلي”.
الأول، توني كان قد تسبب بمشاجراته العنيفة في إغلاق
الكازينو الذي كان يعمل فيه حارسا ليليا، وأصبح بلا عمل، لكنه يعثر على
فرصة للعمل كسائق خاص لعازف البيانو الأسود المرموق شيرلي الذي يتمتع
بموهبة خاصة جعلته يصبح على نحو ما، من أهل النخبة الأميركية، فهو يعزف مع
زميلين له في قصور الأثرياء من البيض الأميركيين، كما سبق أن قام بجولات
موسيقية في أوروبا.
مرة أخرى إذن، نحن أمام فيلم يعالج موضوع العنصرية في
الولايات المتحدة من زاوية مختلفة قليلا، ولكن على الرغم من جدية الموضوع
إلاّ أن براعة السيناريو وجاذبية الحضور التمثيلي، مع التأرجح المحكم
الدقيق بين الدراما والكوميديا الرقيقة مع لمسة رومانسية واضحة، يجعلان
الفيلم كأحد “أفلام الرسالة” يصل إلى الجمهور من دون مشقة، ويحقق متعة
المشاهدة وهي أساس العلاقة بين الفن والناس.
السيناريو يسير في اتجاه واحد، أي من خلال السرد التقليدي
المألوف، الذي يبدأ بتفجير المشكلة أو الأزمة الدرامية، ثم يعبّر على عدد
من المواقف التي تخلق اختبارا لكل من توني السائق، وشيرلي العازف، بحيث
يصبح بوسع المشاهد أن يستنتج كيف ستنتهي هذه القصة، فبعد إدراك الهوة
الواسعة القائمة بين الطرفين من البداية (وحتى منذ ما قبل البداية) يحدث
تقارب وفهم مشترك، ثم إدراك يأتي في لحظة استنارة، لكي يثبت لنا الفيلم
إمكانية التعايش بين الطرفين المختلفين أساسا في لون الجلد، ولكن أيضا في
الانتماء الطبقي والوعي الثقافي.
تشابه ظاهري
نحن أمام حبكة قريبة ولو من حيث التشابه الظاهري مع فيلم
“قيادة الآنسة ديزي” (1989) لكلينت إيستوود، ولكن بعد تبديل الأدوار، فعازف
البيانو الأسود حل محل السيدة البيضاء العجوز في الفيلم القديم وأصبح هو
“السيد”، أما السائق الأبيض فقد حل محل السائق الأسود، وأصبح “الأبيض”
بالتالي هو التابع أو البائس الذي يعمل من يفترض أنه أقل منه شأنا.
ترتفع حدة المشكلة عندما يصبح مطلوبا من توني الأبيض قيادة
سيارة الكاديلاك الحديثة الفارهة لحساب سيده الجديد الأسود “شيرلي” في رحلة
عبر مناطق مختلفة من الجنوب الأميركي المعروف بتطرفه العنصري وخاصة قبل
صدور قوانين الحقوق المدنية التي حظرت التفرقة ومنحت السود أصواتا فردية
متساوية في الانتخابات.
هناك ثلاثة خيوط يتتبعها الفيلم وينجح المخرج في ضبط
إيقاعها بحيث يصبح الانتقال في ما بينها سلسا وواضحا ومفهوما، بل ويمكن
أيضا الاستمتاع بهذه الانتقالات.
ويبدأ الفيلم بتقديم الشخصية الأولى، أي توني الذي يقوم
بدوره الممثل الأميركي من أصل إيطالي فيغو مورتنسن، فهو متزوج من امرأة
جميلة هي “دولورس” (تقوم بالدور ليندا كارديليني)، التي تحبه ولديها منه
ثلاثة أبناء، غير أنها تخشى أن يتغيّب عنها أو أن يتعرض للمتاعب بعد قبوله
العمل في قيادة سيارة شيرلي، الذي يظل يدعوه طوال الفيلم بالدكتور منذ أن
كان يعتقد في البداية أنه أحد كبار الأطباء الأثرياء إلى أن فوجئ بأنه مجرد
عازف بيانو، بل وأسود أيضا.
اشترك في كتابة السيناريو كما أشرت نيكولاس فاليلونغا، وهو
الابن الحقيقي لتوني فاليلونغا (أو توني ليب)، كما أنه أيضا ممثل شارك في
العديد من الأفلام وخاصة أفلام المافيا منذ أن لعب دورا في فيلم “العراب”
(1972)، لذلك جاءت شخصية مورتنسن متميّزة بكل هذه الدقة في التفاصيل
والملامح.
"الكتاب
الأخضر" هو الدليل الذي كان يوزع على السائقين السود في الجنوب كإرشادات
للأماكن التي يتعين عليهم تفاديها
وقد اقتضى الأمر من مورتنسن أن يزيد وزنه أكثر من عشرة
كيلوغرامات حتى أصبح بإمكانه القيام بالدور، مع ملاحظة أنه لا يكاد يكف عن
تناول الطعام بشراهة طوال الفيلم، بل والاشتراك في مسابقات حول تناول شطائر
“هوت دوغ” التي يلتهم منها في إحدى المسابقات مع رفاقه في الحانة 26 شطيرة،
فهو شخص مقبل كثيرا على الحياة، يتمتع بجسد مفتول قوي ضخم، ورغم طيبة قلبه
إلاّ أنه يمكن أن يتحول عند اللزوم، إلى وحش كاسر يفتك بخصومه. لذلك يجد
فيه شيرلي الرفيق المثالي الذي يمكنه حمايته أيضا، رغم أنه يعتبر نقيضه
تماما سواء على الصعيد الطبقي، حيث ينتمي شيرلي إلى الأرستقراطية السوداء،
يتمتع بالثراء، ويلمّ بالتاريخ والمعرفة الواسعة بالعالم، كما يجيد لغات
عدة، وهو لا يكف بالتالي عن الاعتراض على سلوكيات سائقه المتدنية التي يرى
أنها يمكن أن تسبب له الحرج أمام مضيفيه من الأثرياء البيض، ولا يتوقف عن
محاولة تلقينه قواعد السلوك القويم وإقناعه بالتخلي عن تناول الطعام السريع
الذي يراه “غير صحي” ويرفض تناوله تماما، لكن توني سينجح في ما بعد في دفع
شيرلي إلى تناول شرائح دجاج كنتاكي المقدد، بل ورمي العظم الذي يتبقى منه
من نافذة السيارة أيضا خلافا لقواعد السلوك “المحترم”!
العلاقة الأساسية
الخيط الأول والأساسي يتعلق إذن بالعلاقة بين توني وشيرلي،
أما الخيط الثاني فيرتبط بالعلاقة بين توني وزوجته دولورس، وهنا يتنقل
الفيلم في فلاشات سريعة بين الثنائي شيرلي وتوني من ناحية، ودولورس من
ناحية أخرى. فدولورس أكدت على زوجها منذ البداية، عندما أصر على السفر لكي
يحصل على المبلغ الجيّد الذي وعده به شيرلي، خاصة أنه في أمس الحاجة إليه
بعد فقدانه عمله القديم، ضرورة أن يكتب لها رسالة يوميا ولا يبدّد المال
على مكالمات الهاتف من ولايات الجنوب.
لكن توني شبه جاهل، لا يجيد الكتابة، ولا يعرف كيف يعبر عن
المشاعر الرومانسية، لذلك فهو يلجأ إلى شيرلي الذي يكتب له رسائل تفيض
بالعاطفة والغزل.
تذوب الزوجة تحت تأثير كلمات شيرلي الجميلة المفترض أنها
صادرة عن توني، لدرجة أن شقيقتها تقول إنها تريد رسائل مثلها. لكن دولورس
ستدرك بفطنتها أنه لا بد وأن يكون شيرلي وراء هذه الرسائل، وستشكره هو في
النهاية على هذه الخدمة الجليلة!
مناخ العنصرية
الخيط الثالث في الفيلم يتعلق بعنصرية الشرطة في الجنوب
الأميركي وتعاملها الفظ مع البطلين، فرجال الشرطة يوقفون البطلين أكثر من
مرة، ثم يتعرضان للاعتقال والإهانة، ويقتضي الأمر أن يجري شيرلي اتصالا
هاتفيا سيتضح أنه كان مع النائب العام الأميركي روبرت كنيدي وليس أقل، الذي
يتصل بحاكم الولاية والذي يتصل بدوره بمركز الشرطة فيتم إطلاق سراح الاثنين
على الفور. وبينما يبتهج توني، يشعر شيرلي بالغضب لاضطراره إلى هذا المسلك،
فهو لا يريد سوى احترام القانون الذي يمنحه حق التحدث إلى محاميه، وهو ما
ينكرونه عليه.
فيلم يمتلئ بالكثير من الإشارات الذكية واللمحات
ولا يقتصر الأمر عل الشرطة، بل يمتد إلى مواقف مختلفة،
تسلّط الضوء على بشاعة التقاليد العنصرية المستقرة في الجنوب التي تحظر على
السود دخول الكثير من الأماكن مثل المطاعم أو دورات المياه والحانات،
وترغمهم على التبوّل على جانب الطريق والاكتفاء بالمطاعم التي تقدم الطعام
للسود فقط. وبينما تبدو النماذج التي يعزف لها شيرلي وزميلاه نماذج محنطة،
يمكن أن ترحب حقا بالاستماع للموسيقى، إلاّ أنها لا تتفاعل معها على نحو ما
يتفاعل السود، الذين يعبّرون عن مشاعر حقيقية عندما ينطلق شيرلي في العزف
داخل أحد مطاعم الأميركيين السود، في مشهد يمكن اعتباره “الماستر سين” أو
ذروة الفيلم كله، هنا تنهض النساء والرجال، يندمج الجميع معا، يرقصون
ويتركون لمشاعرهم العنان وهم يتمايلون على إيقاعات الموسيقى التي يعزفها
شيرلي ببراعة مدهشة.
“الكتاب
الأخضر” هو الدليل الذي كان يوزع على السائقين السود في الجنوب كإرشادات
بالأماكن التي يتعيّن عليهم تجنب الدخول إليها تفاديا للمتاعب، و”الكتاب
الأخضر” الفيلم عمل بسيط، يدفع شخصياته وأحداثه في سلاسة وتدفق جميل بحيث
يخفي رسالته الإنسانية تحت جلد الصورة، كما يتمتع بشريط صوت بديع، وصورة
تحافظ على واقعية الحدث والمكان.
براعة التمثيل
إلاّ أن من أكثر عناصر نجاح الفيلم والقدرة على جعل
المشاهدين يتفاعلون معه، الأداء البديع من جانب الممثلين العملاقين، أولهما
ماهر علي شالا في دور شيرلي، وهو الذي سبق له أن برع في فيلم “ضوء القمر”
(Moonlight)
وحصل على أوسكار أفضل ممثل ثانوي عن دوره.
وهو هنا يجيد تجسيد شخصية شيرلي العازف الماهر الذي يعبر عن
غضبه لما يتعرض له أبناء جلدته، من خلال الموسيقى، ويتقمص دور “الأرقى” ولو
نظريا، الذي يخفي شعورا قائما بالاضطهاد، لكنه ينفجر أيضا معبّرا عن رفضه
أن يتلقى دروسا في الانتماء من توني.
أما فيغو مورتنسن في دور توني ليب، فهو يبدو في البداية
ساذجا فظا لا يمكنه إخفاء نظرته العنصرية إلى شيرلي رغم أصوله الإيطالية
التي تجعل الشرطي يصفه بأنه “نصف أسود”، ثم يبدأ تدريجيا في التقارب معه
وإدراك أن شيرلي فنان حقيقي موهوب صادق في مشاعره، يجب أن ينال ما يستحقه
من تقدير، فينبري للدفاع عنه، والتصدي لحمايته من العنصريين البيض.
“الكتاب
الأخضر” ليس تحفة سينمائية رفيعة، لا يخفي مفاجآت في مسار السرد ولا يخترق
السياق القصصي المعروف، لكنه يمتلئ بالكثير من الإشارات الذكية واللمحات
الإخراجية التي توحي بالكثير، وهو أمر ليس سهلا على الإطلاق في رأيي!
كاتب وناقد سينمائي مصري
####
"عمرة
والعرس الثاني"
فيلم سعودي يكسر القيود الاجتماعية المتوارثة
القاهرة
– في
ثاني أفلامه الروائية الطويلة يعود المخرج السعودي محمود صباغ إلى انتقاد
السلبيات الاجتماعية في إطار يمزج بين الواقع والفانتازيا، لكنه هذه المرة
يسلط الضوء على المرأة السعودية وشؤونها.
ويتناول فيلم “عمرة والعرس الثاني”، الذي عرض الأربعاء ضمن
فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ40، قصة ربة المنزل عمرة ذات
الـ44 عاما التي تعيش راضية بحالها ولا تشغلها سوى راحة زوجها وبناتها
الثلاث، لكنها تجد نفسها في مأزق عندما تكتشف عزم زوجها الزواج من شابة
سورية انتقلت مع أسرتها للعيش في منزل مجاور.
تطرق عمرة كل الأبواب محاولة منع الزيجة المرتقبة، لكن
مواقف كل من يتدخل في الأمر تكشف أنهم جميعا يحاولون استغلال معاناتها دون
تقديم حل، فتصبح في النهاية هي الملامة على رفض أن تشاركها امرأة أخرى في
زوجها.
الفيلم من بطولة الشيماء طيب وخيرية نظمي ومحمد الحمدان،
ووضع موسيقاه التصويرية تامر كروان بينما قام بالتصوير فيكتور كريدي. وقال
مخرج الفيلم محمود صباغ في مناقشة عامة بعد عرضه الأربعاء، بمهرجان القاهرة
السينمائي الدولي “موضوع الفيلم موضوع جاد، اخترت فكرة الذكورية أو
الذكورية الاجتماعية، وناقشنا سوء التعامل مع المرأة وحقوق المرأة”.
وأضاف “حاولت أن أكشف كل من حاول خدمة عمرة أو اعتقد أنه
يحاول انتشالها من عثرتها سواء رجل الدين التقليدي أو المرأة المتحررة
المشهورة بوسائل التواصل الاجتماعي أو الرجل الليبرالي أو الناشطات
الحقوقيات، جميعهم حاول استغلالها أكثر من خدمتها”.
محمود صباغ: اخترت
طرح فكرة الذكورة في الفيلم، وسوء التعامل مع المرأة
ورغم تقديمه لنموذج المرأة المقهورة في المجتمع السعودي
والنماذج السلبية المحيطة بها، فإن مخرج الفيلم أكد حصول العمل على كافة
التصريحات الرسمية بالتصوير من السلطات المحلية.
وقال صباغ “الفيلم تمت الموافقة عليه من الرقابة السعودية،
عندنا مرحلتين للرقابة، الأولى تمنح التصريح بالتصوير بينما تمنح الثانية
التصريح بالعرض، وقد اجتزنا المرحلة الأولى وخرج الفيلم للنور أما مسألة
عرضه فربما يوضع له تصنيف عمري كبير أو حتى تقتطع بعض المشاهد.. لا أدري”.
وكان سفير السعودية بالقاهرة أسامة نقلي، من بين الحاضرين
لعرض الفيلم بالمسرح الصغير في دار الأوبرا المصرية.
وحقق الفيلم الروائي السابق لمحمود صباغ “بركة يقابل بركة”
نجاحا كبيرا وعرض في أكثر من مهرجان عربي وأجنبي، وتناول الفيلم قصة حب
تنشأ بين شاب وفتاة واستخدمها في مناقشة الحريات الشخصية والقيود
الاجتماعية المتوارثة.
وعلى المستوى السينمائي حقق فيلمه الثاني “عمرة والعرس
الثاني” إضافة جديدة بتقديم وجوه سعودية جديدة تشارك في صناعة السينما لأول
مرة من بينها بطلة العمل الشيماء طيب.
وقال صباغ “أغلب الممثلين ليسوا محترفين، خضنا تدريبات قبل
التصوير لأكثر من أربعة أو خمسة أشهر تقريبا، هذا أول عمل لشيماء”.
وأضاف “عندما بدأت في صنع الفيلم بحثت عن شخصية غير محترفة،
شخصية عفوية لا تتقمص الدور لكن تعيشه، وشيماء بذلت جهدا كبيرا.. أظن أنه
كان اختيارا موفقا”.
وعرض، الأربعاء، هو الثاني عالميا للفيلم والأول بالشرق
الأوسط وشمال أفريقيا، ويتنافس الفيلم ضمن ثمانية أفلام بمسابقة آفاق
السينما العربية في مهرجان القاهرة السينمائي الذي تستمر عروضه وأنشطته حتى
29 نوفمبر الجاري. |