مهما قيل في فيلم «اختيار صوفي» حول مسألة أنه ينتمي إلى
القيمة الدعائية حول ما حدث لليهود خلال الحقبة النازية، فهو من هذه
الزاوية قول صحيح، إلا أن الحقيقة هي أنه ليس فيلماً من تلك التي تهذي
بموضوعها في هذا الخصوص، وإذا ما تعاطى الفيلم مع هذا الجانب من موضوعه،
فإن المرء يستطيع أن يغفر لصانعيه ومخرجه ألان ج. باكولا اهتمامهم المسيّس
في مقابل ذلك الأداء المتقن الذي قامت به الممثلة ميريل ستريب في ذلك
الفيلم. إنها صوفي، الكاثوليكية البولندية التي وجدت نفسها محشورة في صفوف
المعتقلين اليهود المساقين إلى المعسكرات النازية والتي تسرد حكايتها
لجارها ستينجو (بيتر ماكنيكول) بعد عدة سنوات خلال مكوثها مع صديقها
اليهودي ناثان (كفن كلاين) في الشقة العلوية. سرد الفيلم بأسره، بما في ذلك
ما حدث لها عندما قبض عليها وأجبرت على الوقوف بين صفوف اليهود، يتم بمشاهد
استرجاعية طوال الوقت (شأنه بذلك شأن الرواية التي وضعها وليام ستايرون)
ومن بينها المشهد الحاسم عندما تقف في ذلك الصف وهي تحمل طفلتها الصغيرة
بينما يلتصق ابنها ذو الثماني سنوات بساقها.
إنه مشهد مهيب. ضابط ألماني يمر بها ويلتفت إليها ويقول لها
إنها جميلة. تنظر أرضاً في حيرة ثم تخبره بأنها ليست يهودية بل بولندية.
يسألها إذا كانت شيوعية. تقول له «لا. أنا كاثوليكية». حينها يطلب منها
اختيار أحد ولديها للتضحية به إذا ما أرادت البقاء حية هي وولداها. عينا
ستريب تتحدثان بنظرات عميقة في حيرتها وخوفها. نظرات توازي خطاباً من ألوف
الكلمات. كيف لها أن تختار من بين ولديها من تضحي به مقابل حياتها وحياة
ولدها الثاني. عندما ترفض يأمر الضابط فيتم أخذ ابنتها التي تحملها بالقوّة.
إنها جنيفر لون التي تبلغ اليوم السادسة والثلاثين من العمر
والتي توقفت عند حدود هذه التجربة الوحيدة لها في التمثيل (تعمل حالياً في
إحدى الشركات المصرفية في باريس).
لون توقفت لكن ستريب ما زالت مستمرة. اليوم وفي سن التاسعة
والستين من العمر ولديها نفس العدد تقريباً من الأفلام السينمائية (63
فيلما و 13 عملا تلفزيونيا).
لديها أيضاً 21 ترشيحاً للأوسكار خرجت منها بثلاث جوائز.
الأولى كانت عن دورها المساند في «كرامر ضد كرامر» سنة 1979. والثانية عن
دورها الأول في «اختيار صوفي» (1982) والثالثة عن دورها الأول في «المرأة
الحديدية»
(2011).
إلى ذلك، وإذا حسبنا كل الجوائز التي حصلت عليها من مؤسسات
سينمائية أو مهرجانات أو جمعيات نقدية، لديها ما مجموعه 173 جائزة.
إلى هذا الحد يحب النقاد والممثلون والمجتمع السينمائي اسم
هذه الممثلة التي ما زالت حياتها المهنية غير منتهية الصلاحية وذلك على عكس
العديد من أترابها الذين تخلوا عن طلب النجاح أو تخلى النجاح عن طلبهم.
تحليل موهبتها
وُلدت باسم ماري لويز ستريب. ميريل هو الجمع بين الكلمتين
الأولى والثانية من اسمها. وضعتها والدتها في الثاني والعشرين من شهر
يونيو/ حزيران سنة 1949 والأم كانت فنانة إعلانات ووالدها كان صيدلياً. في
العقد الثاني من عمرها التحقت بمعهد لتعليم غناء الأوبرا.
من مسرح الهواة في الكلية إلى المسرح المحترف على خشبات
برودواي وكانت لا تزال في السادسة عشر من عمرها. وبعد عامين فقط شاهدناها
في «جوليا» لفرد زنمان، ذلك الفيلم الذي تحوّل إلى أزمة سياسية عندما وقفت
فنيسا ردجريف بجرأة حال فوزها بالأوسكار عنه لتوجه أنظار العالم إلى مأساة
الشعب الفلسطيني.
فيلم ستريب الثاني منحها دوراً أكبر وهو «صائد الغزلان»
لمايكل شيمينو (1978). وبعد فيلمين آخرين (هما «مانهاتن» لوودي ألن و«إغراء
جو تينان» لجيري تشاتزبيرج) فرضت نفسها بقوّة من خلال تأدية دور المطلقة
التي على خلاف مع زوجها السابق (دستين هوفمن) في «كرامر ضد كرامر».
بعد هذا الفيلم هي في أدوار البطولة دوماً وأولها كان في
«امرأة الضابط الفرنسي» لروبرت بنتون سنة 1981 أي سنة واحدة قبل أن تبهر
المشاهدين بدورها في «اختيار صوفي».
البعض انتظر ستريب أن تفصح من أين تأتي بتلك اللحظات
المميزة التي تعكسها في أدوارها، وهي ليست لحظات قليلة أو عابرة، بل تخرج
من تعاطٍ عميق مع الشخصية التي تقوم بتمثيلها بحيث تتوقف عن الحياة وتولد
شخصيتها التي تقوم بها وتنمو.
قالت لناقد في أحد لقاءاتنا السابقة: كثيرون يسألونني عن
المنهج كما تفعل أنت ورد فعلي حيال السؤال هو واحد أنني لست ممثلة تتبع
أسلوباً محدداً. بل ما أتبعه هو التفكير في دوري المقبل كما لو كنت أضع خطة
عسكرية، كيف أحتل الشخصية التي أقوم بها وأصبح هي.
حتى هذا الوصف المقبول والمؤكد من خلال مراقبة أعمالها هناك
ما يحير: مبدئياً الكثير من الممثلين والممثلات يدرسون الشخصية بغية
«احتلالها» أو «تقمصها»، لكن ما الذي يجعل احتلال ستريب لشخصياتها أكثر
رهافة واحترافاً من العديد من سواها؟
الجواب يكمن في أنها تذهب إلى أبعد حد ممكن لتقدم الشخصية
التي تمثلها بعاطفة صادقة.
آراء المخرجين
على هذا الأساس استحقت ستريب كل ترشيح نالته للأوسكار وهي
وإن لم تفز بأكثر من ثلاث جوائز حتى الآن، إلا أن وجودها راسخ في تقاليد
هذه الجائزة على نحو غير مسبوق. كذلك فإن تقلبها بين الأدوار يكاد لا
يُحصى. هي المرأة التي تشترك في تحمّل مخاطر الإفشاء عن خطر نووي في مختبر
تعمل فيه في فيلم «سيلكوود» (1984)، ثم هي في غابات إفريقيا لتؤدي شخصية
حقيقية لامرأة خاضت حب الأدغال في «خارج إفريقيا» (1986) وبعد ذلك في فيلم
عاطفي حول رجل وامرأة مهمشين في الحياة في «أيرونويد» (1988). أمام كلينت
ايستوود لعبت بطولة واحدة من أرق أدوارها العاطفية في «جسور مقاطعة
ماديسون» (1995) ولا ننسى دخولها الكوميديا في «الشيطان يرتدي برادا»
(2006) و«جولي وجوليا»
(2009).
والغريب الآخر في هذا الوضع، وإزاء هذه الحفنة من الأمثلة
وكلها من بين الأفلام التي رُشحت ستريب عنها، أن دورها في آخر ما شاهدناه
لها، وهو فيلم «ذ بوست» لستيفن سبيلبرج لم يقل إجادة عن أي دور آخر لعبته.
هذا ما يعني أن الممثلة أمضت حتى الآن أكثر من 35 سنة في
التمثيل بذكاء، لم يجعلها أقل حرصاً على التجديد اليوم مما كانت عليه
بالأمس.
سبيلبرج قال بعد انتهائها من تصوير مشاهدها في هذا الفيلم،
حيث لعبت شخصية مالكة صحيفة «ذ واشنطن بوست»: وجعلتني أبحث في مشاريعي
المقبلة عن فيلم أستطيع إسناد بطولته إليها».
لا أحد يعلم لماذا لم يفكر سبيلبرج بالاستعانة بها في أحد
أفلامه الجادة، لكن ستريب هي من النوع الذي لا تحتاج فيه إلى معالجة خاصة
من قبل المخرج الذي تعمل معه.
كلينت ايستوود سبق وأن قال لي بعد تمثيل بطولة «جسور مقاطعة
ماديسون» الذي قام بإخراجه: كنت أسير مع شخصيتها الحقيقية وشخصيتها كممثلة
وكانت مريحة جداً بالنسبة للتعامل معها كمخرج.وهي مثلت أربعة أفلام للمخرج
مايك نيكولز هي «سيلكوود» و«حرقة قلب» و«بطاقات من الحافة» و«ملائكة في
أمريكا» ولخص تجربته عنها بالقول: في كل دور مثلته كانت تتحول إلى إنسانة
جديدة.
لكتابة هذا البحث كان لابد لي من مراجعة بعض أفلامها الأهم
مثل «اختيار صوفي» و«سيلكوود» و«سكون الليل» و«جسور مقاطعة ماديسون» و«زوجة
الضابط الفرنسي» وما خرجت به هو أن المرء لا يمكن له إلا الوقوع في حب معظم
الشخصيات التي لعبتها. لكن الاستثناءات، على قلتها، متنوعة الأسباب ففيلم
«خارج إفريقيا» أثار ضدها نقداً صارماً لأنها لعبت شخصية امرأة تهيم حباً
بقتل الأسود والفيلة. وفيلم «بطاقات من الحافة» أخف من أن يحتوي قدراتها.
أما «ريكي أند ذا فلاش» فلم يكن على المستوى الذي كان يأمله الناقد. |