فيلم
«First Man»:
انعكاسات حقيقية على أقمار بشرية
حسام فهمي
خطوات وحيدة لكنها على القمر، أم خطواتك برفقة من تحب على
الأرض، أيهما تفضل؟ غذاء ودواء للبشر، أم صورايخ ومحركات لغزو الفضاء،
أيهما تفضل؟
شغفك وأحلامك في مقابل من تحب، أحلام أمة في مقابل حياتك
وحياة كل من يشاركك الطريق.
مرة أخرى يقدم لنا المخرج الأمريكي «داميان تشازيل» حكاية
عن بشر يعانون في مجتمع إنساني يطمح لما هو أكبر من قدرات البشر، حينها
يصبح التضرر الذي يصيب الأسرة، علاقات الحب، الصداقة، والنفس البشرية
ذاتها، دمارًا جانبيًا لا مفر منه.
اليوم نتحدث معكم عن فيلم
«First Man»
الذي تدور أحداثه عن القصة الحقيقية لرائد الفضاء الأمريكي وأول رجل يمشي
على سطح القمر، «نيل أرمسترونج».
لا حرق للأحداث في هذه القصة فكلنا نعرف أن أرمسترونج سيصل
للقمر في نهاية الفيلم، ولمن فاتته المعلومة فعنوان الفيلم يكفي لتذكيره،
لكن الجديد هو المعالجة الواقعية الإنسانية التي تجعلنا نرى من افترضناه
رجلًا خارقًا وهو يعاني.
يتجمع مراسلون صحفيون قرب نهاية الفيلم لسؤال جانيت
أرمسترونج – التي تقوم بدورها كلير فوي بتميز- عن مشاعرها عقب خطوات زوجها
الأولى على القمر، يسألها أحدهم هل تتمنى أن يصبح أبناؤهما رواد فضاء
أيضًا، تبتسم جانيت بشكل محايد مناسب لصور الصحافة، تصمت وتتخطى السؤال،
ولكننا كمشاهدين نعلم يقينًا ما هي إجابتها.
عالم تشازيل السينمائي: عن البشر لا العلم
عقب بداية عرض الفيلم في دور العرض الأمريكية خرج الرئيس
الأمريكي «دونالد ترامب» ليهاجم الفيلم كونه لم يركز على لحظة وضع العلم
الأمريكي على سطح القمر أثناء مهمة «أبوللو 11». على الأغلب لم يشاهد ترامب
الفيلم، ولكن في حقيقة الأمر فإن العلم تواجد على سطح القمر داخل الفيلم،
ولكننا كمشاهدين لم نشعر به، لأن داميان شازيل قرر أن يركز على لحظة
إنسانية وشخصية جدًا لنيل أرمسترونج بدلًا من هذا.
هذه اللحظة تبلور بشكل كلي ماهية هذا الفيلم، نحن أمام
معالجة سينمائية مبنية على كتاب سيرة ذاتية شخصية للغاية، تصور نيل
أرمسترونج بشكل أقرب لصفات البطل المخالف للعرف
Anti-hero. أرمسترونج
ليس لبقًا في الحديث، ليس صورة فضائية لجيمس بوند، كما أنه لا يملك حس
دعابة كأيرون مان. أرمسترونج ليس بطلًا خارقًا، هو ليس حتى رجلًا سعيدًا.
أصدر تشازيل خطابًا مشتركًا مع ابني أرمسترونج للرد على
أزمة العلم، أكد فيه أن الفيلم لم يقصد أن يعادي حس الوطنية الأمريكي، لكن
الأهم في رأيي هو كلمات ابني شازيل التالية: «هذه حكاية عن رجل عادي قام
بتضحيات كبيرة وعانى من فقد هائل، في سبيل تحقيق المستحيل».
إذن أرمسترونج هنا ما هو إلا حلقة جديدة في عالم داميان
تشازيل السينمائي للحالمين في واقع ما بعد حداثي، ينضم رائد الفضاء الذي
يعاني من فقد شخصي ووحدة إجبارية في سبيل غزو الفضاء، إلى الموسيقي الذي
عانى من الإيذاء والإهانة وفقد الحياة الشخصية في سبيل الكمال في فيلم
«Whiplash»،
والحبيبان اللذان فضلا مطاردة حلم مهني على علاقة حب تستمر في فيلم
«La La Land».
الصورة: اختلاط الواقع مع الذكريات مع الأحلام
للصورة السينمائية عناصر عدة تتضافر لتخدم الغرض الدرامي
للقصة، نحن هنا أمام معالجة واقعية للحكاية الشخصية لأول رجل يصعد إلى سطح
القمر.
للقصة بصريًا ثلاثة جوانب، الأول، هو واقع رجل يعاني شخصيًا
كما يعاني في تحضيرات غزو الفضاء، والثاني، هو ذكريات شخصية عن أيام جميلة
يتجسد فيها الحب والأسرة والأصدقاء في زمن ما قبل المعاناة، والثالث، هو
حلم القمر، عالم لم يصل له البشر من قبل.
في سبيل هذا قام داميان تشازيل بالتعاون مع مدير التصوير
السويدي «لينوس ساندجرين» بالجمع بين أكثر من نمط تصويري داخل أحداث
الفيلم. واقع يسرد على طريقة الفيلم التسجيلي، صورة غير ثابتة، كما لو أنها
التقطت بكاميرا محمولة على اليد، بماذا يصيبك هذا؟ بالتوتر، هذا هو
المطلوب، وهذا ما يشعر به أبطال الفيلم، يطاردك هذا الواقع في جلسات تحضير
وكالة ناسا، كما يطاردك من زاوية رؤية رواد الفضاء لما حولهم داخل المركبات
الفضائية، اهتزاز ودوران وصخب لا يتوقف، صورة ذات سطوع ضوئي منخفض، ألوان
قاتمة ذات حواف حدة.
ذكريات صورتها ذات سطوع ضوئي مرتفع مما يجعل ألوانها فاتحة
وغير مشبعة، تفاصيل ناعمة ودافئة تشبه لوحات الباستيل للفنان الأمريكي توم
سيراك، وفضاء يشبه الحلم، قمر تم تصوير مشاهده بكاميرات ذات تقنية
IMAX،
مما يعطي تفاصيل شديدة الوضوح وصورة شديدة الإبهار.
موسيقى من القمر: لحن واحد ومشاعر عدة
يتعاون داميان شازيل مرة أخرى مع شريكه الأوسكاري «جوستين
هورويتز». اللحن الرئيسي للمقطوعة التي نسمعها طوال لحظات الموسيقى
التصويرية في
First Man
تبني في الأساس على تتابع من الخطوات أو الدقات، خطوات قدم على سطح القمر،
دقات قلب يتذكر من فقد، تسارع أنفاس وأصوات ارتطام داخل رأس لا يتوقف عن
التفكير، كل هذا من الممكن أن تعبر عنه الموسيقى هنا.
يضيف جوستين هورويتز للحن الرئيسي طبقًا لما يتطلبه الغرض
الدرامي، فيضيف صوت آلة الثيرمين النادرة والذي يشبه الهمهمات البشرية
عالية التردد ليخلق أجواء حالمة كما في مقطوعة
Quarantine.
لكن الاستخدام الأفضل كان في إضافة أصوات الطبول وغيرها من
الآلات الإيقاعية مع التدرج في صوت لحن التتابع في مقطوعة
The Landing
والتي صاحبت لحظات هبوط أبوللو 11 على القمر وترقب خطوات أرمسترونج الأولى
على سطحه. تتابع مشوق، وموسيقى تزيد من الشعور بالتجربة، تنزل القدم
البشرية الأولى ببطء لتلامس سطح القمر ونحن نراها من زاوية عين صاحبها
فنشعر وكأننا نشاركه هذه الخطوة، خطوة البشرية الأولى على القمر.
انعكاسات بشرية وأقمار عدة
من بين الخصائص العديدة ذات المغزى والتأويل في
First Man
يبقى ملمحًا بصريًا هو الأكثر ملاحظة، ألا وهو كثرة الكادرات القريبة
close-up
وكثرة استخدام تكوين الانعكاسات داخل الكادر، انعكاسات على أسطح زجاجية،
انعكاسات على أسطح الماء، انعكاسات على خوذة أرمسترونج نفسه، وانعكاسات
داخل العيون، هذا وبلا شك أكثر فيلم شاهدته به كادرات لعيون بشرية منعكس
عليها ضوء وصور.
هذا فيلم يتحدث عن رحلة بشرية للقمر، من المنطقي محاكاة هذا
في الأسلوب البصري، لكن المغزى الأهم في رأيي هو أن تشازيل يدلنا على أقمار
بشرية عديدة قد تكون أكثر قيمة وإبهارًا من القمر ذاته، أقمار لا يلزمنا
صواريخ ولا مركبات فضائية لبلوغها ولكن يلزمنا قليلًا من الحب وكثيرًا من
الرضا والتقبل.
أرمسترونج الذي يقوم بدوره وبهدوء شديد -لم يعجب البعض-
ريان جوسلنج، تنعكس صورته أكثر ما تنعكس في عين زوجته جانيت، هكذا يجد كل
منهما في الآخر قمره، وهكذا تنتهي الحكاية كما اعتدنا من تشازيل بلحظة صمت
وتأمل. وهكذا يمكننا تفهم تصريح أرمسترونج الحقيقي في إحدى مقابلاته، حينما
سأله أحد الصحفيين عما إذا كان يخرج عادة للنظر للقمر وتأمله في السماء،
أجاب أرمسترونج: «لا .. لم أفكر في هذا من قبل». |