الفيلم المصري «يوم الدين»:
نيتشه العائش تحت الكوبري وحكاية المصادفات الساذجة
محمد عبد الرحيم
القاهرة ـ «القدس العربي»: بعيداً عن الصخب الذي يصاحب بعض
الأعمال السينمائية، ويفرض على المتلقي نوعاً من وجهة النظر المسبقة ـ وهي
ضد العمل في الغالب ـ لأن امتهان الدعاية والمبالغة يعد آفة عربية ومصرية،
حيث الاستسهال في منح العديد من الصفات، بداية من العبقرية وصولاً إلى
اللانهائية وما بعدها، خاصة إذا كانت هذه الدعاية من قِبل رجل أعمال أو
تاجر سينما ــ مُشارك في الإنتاج ــ وبعض من الفنانين الذين يروّجون للعمل
بحثاً عن حجز دور جديد في فيلم هنا وهناك. هكذا كان الجو المحيط بفيلم «يوم
الدين» فخر الصناعة المصرية. فالتهليل لا يصنع فيلماً، والتغاضي عن الكثير
من الأخطاء الدرامية بحجة العمل الأول، أيضاً لا تصنع سينما. ولكن على
الآلة الإنتاجية والتسويقية أن تعمل، وأن يتم التكسّب من أي شيء يحدث على
الشاشة، طالما الأمر في الأول والأخير مجرد سلعة، يتوقف نجاحها على مدى
الترويج لها.
«يوم الدين» أداء، راضي جمال، أحمد عبد الحافظ، شهاب
إبراهيم، محمد عبد العظيم، أسامة عبد الله، وعادل عبد السلام. تصوير
فيديركو سيسكا، مونتاج إرين غرينويل، صوت مرسي عبد المغني، موسيقى عمر
فاضل، سيناريو وإخراج أبو بكر شوقي.
كيف يتم تأليف أو تلفيق الحكايات في غرف مكيّفة، بعيدة
تماماً عن العالم الذي يتم الحديث عنه، ليكن الحديث عن المهمشين.
مُستعمرة الله
يأتي فيلم «يوم الدين» كعمل روائي مستوحى من آخر وثائقي
للمخرج نفسه، بعنوان «المستعمرة»، والمقصود (مستعمرة الجذام) ــ وهي مكان
يضم المصابين بالجذام في منطقة الخانكة في أبي زعبل في محافظة القليوبية ــ
وبعد تجربة التوثيق للمكان وساكنيه، تأتي التجربة الروائية، عن أحد ساكني
هذا المكان، مريض سابق وقد شفي تماماً، لكن المرض ترك أثاره على ملامحه،
فلم يغادر المستعمرة منذ طفولته، ومنذ أحضره والده من جنوب مصر ــ محافظة
قنا ــ إلى هذا المكان. (بشاي/راضي جمال) القبطي الذي يفكر بعد موت زوجته ـ
مريضة أيضا في المستعمرة ـ في العودة إلى بلدته، والبحث عن أهله، عن أبيه
بشكل خاص، وهو الذي تركه طفلاً أمام باب المستعمرة. بالطبع فكرة العودة
ورحلتها وتفاصيلها كلها من نسج خيال المؤلف، وما فكرة الوثائقي الذي تحوّل
إلى روائي ــ التفرقة بين الشكلين غير منضبطة بالمرّة ــ إلا فكرة عديمة
المعنى، لأن التساؤل يدور حول ما إذا لم يكن هناك وثائقي بعنوان
«المستعمرة»، فهل سيكون هناك فيلم بعنوان «يوم الدين»، لتأتي الإجابة بنعم.
ففي «يوم الدين» لم نر المستعمرة، ولا الحياة داخلها، فقط حجرات مكاتب،
وساحة كبيرة لجمع وتصنيف القمامة، وحجرة أحد النزلاء/بطل الفيلم، ومقابر،
هذا بخلاف أن الأحداث كلها تمت كتابتها/تأليفها، على هوى ورؤية
المؤلف/المخرج، بدون أن تقود الشخصية الحكاية، خاصة أنها حكاية هذا الشخص
ورحلته. هل لنا أن نعقد مقارنة بسيطة بين هذا الفيلم وفيلم «مدينة الله»،
من حيث الشخصيات وعالمها، وكيف كانت بدايتها في فيلم وثائقي، وكيف آلت في
فيلم يتخذ من الروائي شكلاً.
رجل وصبي وحمار
لنرى كيف يتم تأليف أو تلفيق الحكايات في غرف مكيّفة، بعيدة
تماماً عن العالم الذي يتم الحديث عنه، ليكن الحديث عن المهمشين ـ مصطلح
مُستَهلَك لعين ـ لكن التهميش وحده لا يكفي، بقي موضة قديمة، يمكن إضافة
المنبوذين ــ بدون إرادتهم ــ من المجتمع، ودعنا نصل بالحالة إلى حدها
الأقصى ــ اللي برّة بيحبوا الحاجات دي ــ منبوذ وقبطي، وبكده يبقى من كله.
لتصبح حكاية (بشاي). ومن هنا كان يجب البحث عن رفاق للرحلة، وبشاي أصبح
يعمل في جمع القمامة، ومعه عربة كارو يجرّها رفيقه (حربي)، ودونما سبب
يتعلق أحد الصبية ببشاي، وكأن الأخير أبوه الروحي، حلو يبقى نخلي الواد ده
مُسلم، نوبي وأسمر اللون (أوباما/أحمد عبد الحافظ) ــ لتكتمل سيمفونية
المضطهدين ــ لتبدأ الرحلة بعون الله إلى قنا. ومن هذه اللحظة تبدأ لعبة
المصادفات ــ بخلاف «الووكمان» الذي وجده بشاي بين القمامة في البداية
وسيرافقه بعد ذلك ــ عجلة العربة الكارو يجب تغييرها، يصاب (أوباما) جرّاء
ذلك بجرح في رأسه، هما بجوار نهر النيل، يهرول بشاي لمستشفى القرية، بطاقتك
مش بطاقتك، يخرج مسرعاً إلى النهر ليحضر البطاقة، وقد ادّعى أنه والد
الصبي، يصطدم بعربة شرطة، يذهبون به إلى القسم، يوضع مع أحد المتأسلمين،
الذي ينفر منه خوفاً من العدوى، وعند نقلهما، يقول له السيد المتأسلم ــ
صاحب الجلباب الأبيض الرقراق وكأنه عمر عبد الرحمن مثلاً ــ إجري، فتفلح
الحيلة، ويعود بشاي بعدها ليجد أوباما عند النهر بجوار الكارو مربوط الرأس،
هو كمان طلع يجري من المستشفى، وتستمر الرحلة على هذا المنوال من فقرة إلى
أخرى من المصادفات.
ممم وماذا نفعل؟ وقت الفيلم مش هيستحمل وصول قنا من خلال
(حربي). خلاص نخلص من حربي، وكده يبقوا الاتنين خفيف خفيف، ومشهد موت حربي
ده نعيش فيه بقى، الأجانب بيموتوا في الحاجات دي، أما هنا فالناس هتضحك،
ومش هياكل معاهم، دول حتى مش طايلين موتة حربي. قبل وفاة المرحوم حربي، وفي
وقتنا هذا يسير قطار بضائع أو ما شابه من قطارات فيها مكان للحيوانات،
لنصبح فجأة في فيلم من أفلام الغرب الأمريكي.
الأزمة في مثل هذه الأفلام، أن أصحابها لا يعرفون الشخصيات
التي يتحدثون عنها، بل يمارسون سلطتهم وفرض رؤيتهم من خلالها.
نيتشه تحت الكوبري
«إحنا منبوذين»… «إحنا ضحايا أشكالنا»… «أنت مش مريض، أنت
عندك جرح ما بيتعالجش»… «يوم الدين كلنا هنبقى متساوين، ومحدش هيبص
لشكلنا». هذه الكلمات والعبارات الجليلة قالها رجل آخر يعاني من اختلافه ــ
حالة نبذ أخرى ــ وهو يجلس أسفل أحد الكباري بين رفاقه الذين على شاكلته،
شحاذ فقد ساقيه في حادث، وآخر من الضحايا، وبينهم بشاي، وقد نزل إليهم
ترانزيت رغماً عنه، حتى يستأنف مسيرته إلى قنا. من الجيد أن يصبح هؤلاء
أبطالاً ولو على الشاشة، فبدون ادعاءات سيتم التفاعل معهم في الحال، أما أن
تقول الشخصيات ما يريده المؤلف أن تقوله، فيصبح يتقوّل عليها، ونرى أنفسنا
أمام (نيتشه) يرتل علينا ما يوحى إليه من حكمة، وهو جالس تحت أحد الكباري،
غارق في دخان الحشيش، فهذا أمر لعمري عجيب!
لكن الصوت الفلسفي والمتحشرج ليصبح أكثر حكمة لا يتوقف ــ
أشبه بصوت والد اللنبي عندما كان يوصيه قائلاً: الكبدة بـ50 والسجق بـ75 ــ
ككلمات الأب التي تشرح وتبرر موقفــــه، وكيف تـــرك الطفل بشاي وقتها أمام
باب المستعمرة، ذلك حتى يجعله يعيش بين أشباهه، أما هنا فسيظل منبوذاً، ولن
يستطيع العيش. وفي الأخير يسامح بشاي والده، ويعود حيثما كان، يعيش في عالم
يعرفه، بعيداً عن كل هؤلاء القساة. ملحوظة.. قبل عودة بشاي وأوباما نرى حفل
عُرس من حفلات الصعيد. وليس من الضروري إطلاقاً التساؤل عن السبب، تماماً
كما حدث خلال هذه الرحلة.
عالم الملائكة السعيد
الأزمة في مثل هذه الأعمال، أن أصحابها لا يعرفون الشخصيات
التي يتحدثون عنها، بل يمارسون سلطتهم وفرض رؤيتهم من خلالها، حتى إن ظهر
الأمر على خلاف ذلك، من الانتصار لها، وجعلها تمارس البطولة، وتمتلك صوتاً
ولو على شاشة السينما.
هذه الفئة سيتعاطف معها أكثر مَن هم على شاكلتها، فيرون في
عالم المستعمرة ورفاق تحت الكوبري بأنه عالم الملائكة السعيد، فقط كقصة
خيالية يتأسون لأصحابها، كالوحش وجميلته، أو الأقزام السبعة. عالم يؤكد
دوماً لضميرهم الحي أن هناك مخلوقات أخرى تستحق التعاطف، ويا ليتنا ــ فئة
الضمير الحي ــ نمتلك ولو القليل من نقاء أرواحهم. لكن في الأخير نجد أن
العدالة ــ بعدما عرفنا معنى اسم الفيلم ــ وإن لم تتحقق على الأرض، حتماً
ستتحقق في يوم آخر، يوم آخر سوف تطلع فيه شمس الحق.. يوم طلوع الدين. |