فيلم يقدم درسا خصوصيا فى قبول الاختلاف وحب الحياة..
يوم الدين.. آخر أمل للمظلومين فى الأرض!
جيهان الغرباوي;
حتى فى كومة كبيرة للنفايات قد تجد شيئا مبهجا يبعث على
السرور.. هذا إن بحثت وكانت لديك عيون مفتوحة وقلب غير مغلق ولا مسكون
بالخوف أو الكراهية.
فى أول مشاهد الفيلم يعثر فراز القمامة المقيم فى مستعمرة
مصابى الجزام؛ على جهاز كاسيت صغير قديم به شريط أغاني؛ تخلص منه صاحبه بعد
أن عفى عليه الزمن من سنوات طويلة؛ على الشرائط من هذا النوع وكادت تنقرض.
يجد الرجل المجزوم أيضا سماعات للأذن يضعها فوق رأسه ويضحك
و يتخيل أنه طيار يستعد للانطلاق بطيارته.
يجد مجلة أجنبية ملونة لها غلاف جذاب ظريف.. يسأل صديقه
الطفل الذى يعرف القراءة والكتابة عن المكتوب فيها؛ صديقه طالب ابتدائى
ذكى؛ يتسلل من دار الايتام والمدرسة و يحب أن يلازمه معظم ساعات اليوم.
يجيب الطفل أن المجلة مكتوبة بالإنجليزية وهو لا يعرف منها
غير كلمات قليلة عامة يسأله الرجل عن اسم المرأة الشقراء فوق الغلاف الأحمر
يقول الطفل إنه لا يعرفها..
يرد عليه الرجل المجزوم بعفوية (لو كنت مركز فى المدرسة
كويس كنت عرفتها)!
منذ رأيت هذا الفيلم؛ سكنت مشاهده الانسانية الرائعة ذاكرتى
وإحساسى.
بشوى بطل الفيلم المسيحي؛ الذى يفرز الزبالة ويجمع ما يلزم
منها لباعة الروبابيكيا؛ و الذى حين سأله المتطرفون أصحاب الذقون عن اسمه
قال (محمد)
و الطفل اليتيم محمد عبد الرزاق نوبى أسمر؛ و حين دخل يأكل
بجوار أطفال من سنه فى بيت مسيحى بالصعيد وسألوه عن اسمه قال لهم: (اوباما)
على اسم الرئيس الذى يظهر فى التليفزيون. كلاهما كانا يخافان الكراهية
والحرمان؛ بسبب الاختلاف عن الآخر؛ فى مجتمع يضطهد المختلفين فى الشكل. أو
الدين أو الأفكار أو حتى المستوى الاقتصادى والوضع الصحي!
حين حضرت عرض الفيلم فى حفلة السابعة مساء فى سينما
الزمالك؛ لفت نظرى بشدة أن تسعين بالمائة من المشاهدين فى مقاعد الصالة
حولى أجانب من جنسيات مختلفة شعرت كما لو كنت دخلت سفارة أو حفلا دبلوماسيا
و ليس لمشاهدة فيلم فى السنيما وكأنه فيلم مقرر على الجاليات الأجنبية
المقيمة فى مصر بعد وقت قصير من بداية الفيلم انشغلت به عن كل من حولى.
الفيلم بالفعل يبشر بالفوز فى مسابقة الأوسكار القادمة كما
قرأت بالصحف وكما أتمنى و كما أظنه يستحق عن جدارة. كل مشهد و جملة حوار
وموقف فى هذا الفيلم مثل القطن المصرى الخالص طويل التيلة.
شئ لا يحدث أبدا إلا فى مصر؛ ولا يخرج إلا من هذه الأرض؛ و
من هؤلاء الناس الذين تعرفهم جيدا وبعضهم تراه كل يوم.. صحيح ان بعضهم قد
لا تلتفت إليهم ولا تفكر بهم إن صادفوك؛ لكنهم ايضا موجودون و مصريون معك
على نفس المساحة من الخريطة.
المخرج (أبو بكر شوقي) وهو نفسه صاحب الفكرة والقصة؛ اختار
أبطال فيلمه من أؤلئك الذين لا نطيل النظر إليهم أو لا نحب التركيز معهم..
يسميهم الكتاب وتسميهم الصحف والكتب (المهمشون) أولئك البسطاء جدا أو
الفقراء جدا أو المرضى و اللقطاء و المختلفين (صحيا واجتماعيا).
لكن الفيلم بكل حب وشجاعة واقتناع يعطيهم البطولة المطلقة
وتكتشف بفضل السنيما الجميلة أنك تستطيع أن تحبهم كما هم..
بل وتحبهم جدا وتتوحد معهم فى بعض المواقف وربما فى كثير! إنهم بشر ضعفاء
مثلك حينما تكون ضعيفا..
عالقون فى قسوة الحياة اليومية؛ لكن قلوبهم طيبة؛ تتألم
لكنها على قيد الحياة ولم تمت.
عجلات العربة التى ينتقلون بها تغرس فى وحل الطريق والرحلة
طويلة وشاقة واحيانا تسوء الأمور أكثر لكنهم مخلوقات لديها غريزة البقاء
قوية؛ تكافح كى تحيا وتجد فيما تقدمه الأيام ما يسعدها و يكفيها؛ مهما كان
قليلا. أبطال الفيلم شخصيات ليس لديها ما تخسره وليس لديها مكاسب ولا
مقتنيات ولا إنجاز كبير تخاف عليه
لذا
فهى حرة الحركة حرة التفكير كريمة العطاء.. لا مجال عندها للانتهازية أو
المادية التى تأكل الروح!
أحداث تدور حول رجل وطفل كلاهما قرر ان يرحلا من المكان
الذى يقيم فيه ولا يعرف غيره (مستعمرة الجذام و بيت الأيتام), بشوى الذى
ماتت زوجته وصار وحيدا دون أهل أو أولاد و أحس أنه إن مات لن يجد من يصلى
من أجله أو يزور مدفنه؛ فيقرر أن يركب عربته الكارو؛ ويأخذ معه على ظهرها
ممتلكاته الفقيرة جدا؛ وما يلزمه من طعام وماء و مبلغ 150 جنيها هى كل ما
يحتكم عليه من ظهر الدنيا؛ ويقرر ان يسافر نحو قريته فى قنا؛مازال يذكر
اسمها و يذكر أن له أبا أحضره وهو طفل للعلاج فى مستعمرة الجذام ثم تركه
وربما نساه أو كره أن يراه مرة أخرى. ويهرب الطفل أوباما من بيت الأيتام
الذى لا يحبه؛ ويتسرب الى ظهر العربة الكارو ليخرج مع صديقه بشوى فى نفس
الرحلة، ربما يصل الى سوهاج (مقر دار الأيتام الأولى فى حياته) وربما يعرف
منها أى معلومات عن اسم أمه وأبيه وأصله وسبب اختفاء عائلته يظن كلاهما أنه
سينجو إن عرف ماضيه ووصل لأصله وعاش مع جذوره فى مجتمع أفضل مما هو فيه
الآن.
وتبدأ رحلة السفر الشاقة المثيرة المفعمة بالمفاجآت والحركة
والتى ينجو بها الفيلم من روح العرض الوثائقى إلى حبكة الفيلم الروائى
الشيق بل والكوميدى فى بعض مفارقاته!
الحس الإنسانى العميق الممتد إلى نهاية الفيلم لا يجعلك
تستشعر قلقا أو انزعاجا من القهر و الفقر وقسوة الحياة التى قتلت حمار
العربة الكارو؛ من شدة الجوع والإجهاد
الحمار (حربى) الحمول المسالم؛ وقع قتيل السفر الطويل؛
بينما صمد بشوى وأوباما.
لكنهما حتى بعد أن وصلا وعرفا الحقيقة التى كانا يبحثان
عنها ويفران إليها من بداية الرحلة؛ اكتشفا انهما لا يريدان البقاء فى ذلك
العالم الجديد؛ بعيدا عمن هم مثلهم فى هامش العالم.. وبعيدا عن مستعمرة
الجذام حيث عاش بشوى معظم عمره و المدرسة ودار الأيتام القريبة لها حيث
يعيش أوباما! لكن الطفل أوباما يسأل بشوي: إذا كنا سنعود.. فلما كانت كل
هذه الرحلة الطويلة والسفر الصعب؟ ويجيب بشوى ببساطة وعفوية كعادته (شفنا
الدنيا)!
روايات عالمية شهيرة طالما قالت إن الرحلة أهم من نقطة
الوصول الأخيرة
لكن ابطال فيلم (يوم الدين) لا فلاسفة ولا رحالة ولا
مكتشفين.. هم فقط اختاروا أن يعيشوا مع أناس تشبههم؛ ولا تخاف منهم أو
تتجنب عشرتهم لأنهم مختلفون.
الفيلم استعرض بلطف وذكاء؛ عددا كبيرا من الشخصيات
الهامشية؛ التى دهستها عجلات الحياة و ظلمها الفقر و الروتين المصرى
العقيم؛ ثم قالها ببساطة على لسان أحدهم (لا يوجد أمل لنا إلا فى يوم
الدين.. هناك فقط الكل يتساوون)!
وينتهى الفيلم نهاية تبدو مقبولة جدا لأبطاله وللمشاهدين..
فنترك دار العرض ونخرج إلى الشارع فى حالة رضا واستمتاع وتفكير..
لكنى قبل أن أعبر رصيف سنيما الزمالك؛ وجدت أمامى مباشرة فى
نهر الطريق المزدحم بالسيارات؛ شحات شاب على كرسى متحرك يلاحق سيارة سوداء
فارهة ويطلب منها (حسنة لله) فتتجاهله السيارة و تعبر مسرعة بمجرد أن تنفتح
اشارة المرور.
يدير الشحات كرسيه المتحرك و يقول بصوت عال غاضب وكأنه يقود
تمردا:
أنا عارف.. من زمان.. ماليش حظ فى الدنيا.. حظى عند ربنا فى
السما.. سامعين.. فوق بس عند ربنا.
للحظة شعرت أنه مشهد اضافى لنفس الفيلم.. هل كان ذلك محض
(صدفة)؟. |