الفيلم يقدم صورة غير سياحية عن بيروت الأخرى، ونادين لبكي
اختارت نهاية تتناقض مع قوة فيلمها.
يعرض مهرجان روتردام السينمائي الدولي مجموعة كبيرة من
الأفلام من حوالي 80 دولة، وتشهد عروض المهرجان إقبالا كبيرا من جانب جمهور
المدينة الهولندية رغم برودة الطقس، فالمهرجان حدث ينتظره عشاق السينما
سنويا في هذا التوقيت.
روتردام (هولندا)
– يعرض
مهرجان روتردام السينمائي الدولي في دورته الـ48 عددا لا بأس به من الأفلام
الجديدة التي تعرض للمرة الأولى عالميا، كما يعرض مختارات من أهم ما عرض من
أفلام خلال العام السابق، ويتميز المهرجان باهتمامه بالتجارب الجديدة
وأفلام المخرجين الشباب، وبذلك يتيح الفرصة لاكتشاف المواهب السينمائية
الجديدة.
في الوقت الحالي ومنذ أيام، يتصدر الفيلم اللبناني “كفر
ناحوم” للمخرجة نادين لبكي، قائمة الأفلام العشرة الأولى في استطلاعات آراء
جمهور المهرجان أو نتائج التصويت الذي يجري على الأفلام وتمنح بموجبه جائزة
الجمهور، وليس مستبعدا أن يصبح هو الفيلم الذي يفوز بهذه الجائزة.
شاهدت هذا الفيلم للمرة الأولى عند عرضه في مسابقة مهرجان
كان، لم يكن انطباعي عنه جيدا، لم أخصص له مقالا منفردا، كتبت وقتها بضعة
أسطر وقلت إنه يتفرع إلى مواضيع متعددة، منها مشكلة الأطفال المشرّدين،
وغياب بطاقات الهوية بسبب غلاء سعر استخراجها بالنسبة للأسر الفقيرة،
ومشكلة اللاجئين غير الشرعيين الذين يتم استغلالهم، وموضوع تجارة الأطفال،
والتدهور العام في المجتمع اللبناني، وغياب ضمانات حماية الأطفال.. وغير
ذلك.
وقد فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان كان،
وضمن بالتالي شراء حقوق توزيعه من قبل شركة “سوني” العالمية، وتوزيعه على
مستوى أوروبا وأميركا.
المخرجة - المؤلفة أثرت فيلمها بالكثير من التفاصيل التي
يجدها الجمهور الغربي بوجه خاص، مثيرة ومؤثرة عاطفيا
ومضى الفيلم بعد ذلك لكي يترشح لجائزة أفضل فيلم أجنبي في
مسابقة “غولدن غلوب” الأميركية، ثم لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي (ضمن
5 أفلام)، رغم أن القائمة الأولية التي ضمت 8 أفلام تضمنت أفلاما تفوقه
كثيرا في مستواها الفني، منها على سبيل المثال الفيلم الكولومبي “الطيور
العابرة”، والدنماركي “المذنب”، والألماني “أبدا لا تنظر بعيدا”، (وقد سبق
أن تناولتها جميعا بالنقد والتحليل على هذه الصفحة من “العرب”).
وكان من المدهش ألاّ يصل فيلم من بين هذه الأفلام الثلاثة
إلى قائمة الترشيحات النهائية، التي أراها أيضا أفضل من الفيلم الياباني
“سارقو المتاجر” الذي ضمته قائمة الأوسكار ولم يكن ضمن قائمة الغولدن غلوب،
وهو يعالج موضوعا إنسانيا مؤثرا يتشابه في بعض جوانبه مع “كفر ناحوم”.
المشاهدة الثانية
عدت لمشاهدة “كفر ناحوم” مرة ثانية عند عرضه في مهرجان
روتردام السينمائي المقام حاليا والذي يختتم في الثالث من فبراير الحالي،
لكي أعرف لماذا لم يكن هذا الفيلم من بين أفلامي المفضلة في مهرجان كان،
ولماذا اعتبرته أقل شأنا من الفيلمين السابقين لمخرجته، وكنت أريد أيضا أن
أعرف لماذا يثير هذا الفيلم كل هذه الأصداء الإيجابية لدى جمهور المهرجانات
في أوروبا ويصل إلى الترشيح للأوسكار، وربما ينال الجائزة، بل لقد أصبح
موضوع فوزه بها شبه محسوم.
ربما يكون من أول أسباب التحمس الكبير للفيلم أنه من إخراج
مخرجة-امرأة، أي سيدة عصرية لبنانية ونموذج للعصرنة الأوروبية في أحد
مجتمعات “الشرق الأوسط” التي تمتلئ بالمتناقضات الطائفية المشحونة، وهي
شديدة الانفتاح على الثقافة الأوروبية، تجيد الفرنسية، ولديها علاقات جيدة
مع “قواعد” الإنتاج السينمائي الفرنسي.
ويجب أن أضيف أن سر الاهتمام بنادين لبكي وفيلمها ربما يعود
في جانب آخر منه إلى كوننا نعيش الآن عصر ما بعد حملة “أنا أيضا”
Me Too
التي أقامت الدنيا ولم تقعدها بعد، كما أعادت هذه الحملة وغيرها إلى
الصدارة، مبدأ ضرورة مساواة المخرجات بالمخرجين، وهو ما انعكس بوضوح على
سبيل المثال، في اختيارات دورة مهرجان لندن السينمائي الأخيرة (أكتوبر
2018) الذي جعل منظموه نصف عدد أفلام المهرجان لمخرجات-نساء، بغض النظر عن
مستواها.
إلاّ أن السبب الذي لا شك فيه أن الفيلم يصور موضوعا
إنسانيا حول الطفولة المشردة، وهي قضية تشغل مساحة اهتمام كبيرة في وسائل
الإعلام، خاصة وأنها قد تكون مفرخة أولية للإرهاب.
ولا شك أن وجود طفل في الدور الرئيسي في هذا الفيلم، ونجاحه
في الأداء بشكل تلقائي كبير، والصمود في أكثر المشاهد عنفا وفوضى، التي
صوّرت في الشارع على غرار أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة، ترك تأثيرا
كبيرا على جمهور الفيلم.
ولا شك أن تفوق الأداء والعمل مع ممثلين معظمهم من غير
المحترفين، يحسب أساسا لصالح المخرجة التي نجحت في تدريب الممثل الطفل
والسيطرة على أدائه وإدارته مع غيره من الممثلين، في مواقع التصوير
الحقيقية.
وهذه التلقائية في الأداء، وانسجام أداء الممثلين جميعا،
محترفين وغير محترفين، مع أرضية الواقع لا شك أنهما من عوامل التأثير
الإيجابي للفيلم ووصوله إلى قطاعات كبيرة من الجمهور، وربما كان الفيلم من
هذه الناحية تحديدا، يذكرنا
بأفلام المخرج الإيطالي جياني إيميليو الذي يسير على نهج
الواقعية الجديدة، خاصة فيلمه الشهير “سارقو الأطفال” الحائز على الجائزة
الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان كان 1992، شأنه في هذا شأن “كفر ناحوم”.
صورة عن الواقع
نجحت نادين لبكي بمساعدة فريق الإنتاج، في الحصول على ما
أرادته، أي على صورة لذلك الحي أو تلك المنطقة العشوائية المكدسة بالفقر
والفقراء التي يطلق عليها “كفر ناحوم”، والتي توحي بأننا أمام “نهاية
العالم” وتتناقض تماما مع صورة بيروت “السياحية”، هناك أصبح “كل شيء مباح”،
بيع الأطفال مقابل بضع دجاجات لأسرته الفقيرة، توالي إنتاج الأطفال
والقمامة، الاحتيال الذي يمارسه الجميع على الجميع، تدهور فكرة ومعنى
الأسرة مما جعل الأب-الزوح المسكين في الفيلم (والد البطل الصغير زين) الذي
أنجب ستة من الأطفال لا يتمكن من إعالتهم، ولا يمتلكون أصلا أوراق تسجيل أو
هوية، ويصرخ أمام المحكمة لاعنا الزواج والساعة التي تزوج فيها.
أما المدخل أو الحيلة “الدرامية” إلى الموضوع فهو أن هذا
الطفل الذي لا يتجاوز 12 عاما، رفع قضية ضد والديه، بينما هو يقضي عقوبة
لخمس سنوات في السجن على قيامه بقتل الرجل الذي اشترى شقيقته الطفلة
المسكينة سحر التي لا تتجاوز 11 سنة، وتزوجها ونتج عن معاشرته لها نزيفا
أفضى إلى موتها على عتبة مستشفى رفضت إدخالها بسبب عدم وجود أوراق تثبت
هويتها، فهو يطالب المحكمة بمعاقبة والديه على “جريمة” إنجابه.
فكرة القضية نفسها فكرة “سينمائية” لا تقنع أحدا، كما أن
الأريحية التي تصل إلى حد الكرم واللطف والدماثة وخفة الروح التي يظهرها
القاضي خلال النظر في القضية وفي تعامله مع الأطراف المختلفة ومنها محامية
الطفل زين (وهي ليست أقل من المخرجة نادين لبكي نفسها)، كلها جوانب مبالغ
فيها كثيرا وغير مقنعة، وكانت تصلح كمدخل كوميدي لفيلم هزلي، أما أن تصبح
محورا لفيلم جاد يحاكي الواقع الحقيقي، فهذا ما يقلل كثيرا من جدية الطرح،
خاصة وأن نادين لبكي تقطع الحدث وتعود بين وقت وآخر إلى قاعة المحكمة وإلى
الكثير من التفاصيل الزائدة العبثية تماما، وهو ما يفقد الفيلم الكثير من
حرارته المطلوبة وسلاسة متابعته.
وفي مشاهد المحكمة بدا كما لو أن المخرجة-المؤلفة تطرح من
خلالها رأيها، وتصرخ باحتجاجها الشخصي، متجاوزة كثيرا وعي شخصيات فيلمها
البسيطة التي ربما لا تدرك أصلا آلية عمل القضاء، ناهيك عن فكرة مقاضاة طفل
يعيش على الهامش داخل إصلاحية للأطفال، والديه بسبب إنجابهما له.
مشاكل الفيلم
من الناحية السينمائية تعاني مشاهد المحكمة من الطابع
الخطابي المباشر والمبالغة في الأداء، بحيث تتناقض في طابعها “المسرحي”
المصنوع مع باقي أجزاء الفيلم وأسلوبه الحر الذي يقوم على التصوير في
المواقع الطبيعية باستخدام الكاميرا المحمولة الحرة واللقطات المأخوذة من
زوايا بعيدة وعلوية ساقطة، بحيث تضع باستمرار الشخصيات الرئيسية في قلب
المكان، لا يعيبها سوى التكرار في المعنى والتكرار في التكوينات البصرية
ومن نفس الزوايا.
ورغم براعة تصويره الحي وسط المجاميع الحقيقية من البشر في
الشوارع، يمتد الفيلم ويطول زمنه، فهو على نقيض “سارقو الأطفال” الإيطالي،
ينحرف عن موضوعه الرئيسي، لينتقل من موضوع إلى آخر.
ففي خضم رحلة البطل الصغير الهائم على وجهه في الشوارع،
يلتقي بامرأة إثيوبية شابة، هي راحيل المهاجرة التي تقيم في لبنان بشكل غير
مشروع وتعمل خادمة في أحد المطاعم، وقد أنجبت طفلا صغيرا تقيه من العيون،
وتقبل بمساعدة زين واستضافته في الغرفة الحقيرة التي تقيم فيها، مقابل أن
يرعى طفلها يانيس أثناء غيابها في العمل.
ويصور الفيلم كيف تتعرض راحيل للابتزاز حتى ترضخ وتقبل أن
تبيع طفلها مقابل بطاقة هوية مزورة ومبلغ من المال، ثم كيف يقبض عليها،
ويصبح ابنها الرضيع وحيدا مع زين الصغير الذي يصبح بمثابة الأب بالنسبة له،
يحمله ويرعاه ويتحايل لسرقة حليب الأطفال المجفف لكي يرضعه، وغير ذلك من
التفاصيل التي يجدها الجمهور الغربي بوجه خاص، مثيرة ومؤثرة عاطفيا، وهي
تفاصيل تصل حينا إلى التأثير الميلودرامي الذي يستدر الدموع على غرار
الأفلام الهندية الشهيرة.
الفيلم اللبناني يصور موضوعا إنسانيا حول الطفولة المشردة،
وهي قضية تعتبر، ربما، من أهم أسباب تفريخ الإرهاب
رغم تأثير المشاهد التي تستمر على الشاشة لأكثر من 40
دقيقة، والتي تدور بين زين ويانيس وما يلقاه زين من معوقات ومشاكل ويتعرض
بدوره للابتزاز من بائع يريد أن يبيع يانيس لأسرة ثرية، إلخ.. وكلها بلا شك
مشاهد جيدة التنفيذ، إلاّ أنها تصلح وحدها إذا ما انتزعت خارج الفيلم، كعمل
مستقل يمتلك إيقاعه الخاص.
كثرة التفاصيل والخروج عن مسار السرد، بسبب الإغراء الكامن
في تلقائية الأداء والتصوير الحي المباشر، تجعل إيقاع الفيلم يهبط في النصف
الثاني، مع كثرة الاستطرادات وتكرار المعنى والإشارات التي تصبح مألوفة وقد
أُشبعت من قبل، مما يجعل الفيلم يعاني من الترهل والبطء مع عدم تطور الفكرة
لتظل تدور حول نفسها.
ومن الجوانب الإيجابية الجيدة أن نادين لبكي تتخلص من
الديكور المغلق، وتنطلق في شكل أقرب إلى روح الفيلم التسجيلي، ولكن هذا
الانعطاف أيضا له مشاكله، فالانسحاب وراء جمال المشهدية مع تلك الموسيقى
المؤثرة التي أبدعها خالد مزنار، يغري بالخروج عن جوهر موضوع الفيلم
والوقوع كما أشرت، في التكرار والاستطراد، ليبقى الإطار العام للمشاهد
الخارجية أهم من الحدث الدرامي نفسه الذي لم يعد يدهش كثيرا في النصف
الثاني الذي كان يحتاج إلى نوع من الشد والتحكم واستبعاد الكثير من اللقطات
والحوارات المتكررة النمطية التي قصد منها الإضحاك للتخفيف من قتامة
الموضوع، وهنا كان يمكن أن يصبح الإيقاع العام أكثر انسيابية وانضباطا،
علما بأن زمن الفيلم يبلغ 130 دقيقة.
نادين لبكي قدمت في "كفر ناحوم" صورة تتناقض تماما مع صورة
بيروت السياحية
ومن بين عيوب الفيلم ضعف النهاية التي ينتهي إليها، فنادين
لبكي بدأت موضوعا قويا وقطعت فيه مسارا طويلا، وتفرعت وسردت ووصفت كثيرا،
مع بعض المعلومات الكثيرة التي أثرت الموضوع، لكنها لم تنجح في الوصول إلى
نهاية قوية تبقى في الذاكرة.
صار لدينا الآن فيلمان حديثان من لبنان يتشابهان في استخدام
قاعة المحكمة ووقوف طرفين في نزاع ما أمام القضاء اللبناني، هما فيلم
“القضية 23” و”كفر ناحوم”، لكن “القضية 23” هو الأكثر تماسكا وقوة وإحكاما
وإثارة، رغم بعض الملاحظات حول مضمونه الفكري وانحيازاته الأيديولوجية
القصدية الموجهة، وقد وصل كلاهما إلى القائمة النهائية لجائزة الفيلم
الأجنبي في “الأوسكار” فوجب أن نبارك هذا النجاح وننتظر أن يحصد الفيلم هذه
المرة، الجائزة لنحتفل بغض النظر عن أي ملاحظات نقدية.
كاتب وناقد سينمائي مصري |