أرماندو إيانوتشي لـ"المدن": موت ستالين فيلم معاصر
محمد صبحي
في البداية تهكم على السياسة البريطانية في مسلسله "ذا ثيك
أوف إت"، ثم السياسة الأميركية في مسلسله "فيب"، ثم جاء رئيس أميركي جديد،
وتبين أنه في الواقع أكثر حماقة مما يمكن لأرماندو إيانوتشي تخيله في
مسلسله. في هذه الأثناء، ما الذي يجب عليك فعله كفنان ساخر؟ صناعة كوميديا
عن الخوف والبارانويا، عن طغاة بأسنان بيضاء مثل الثلج، أو ببساطة
"موت
ستالين"*.
لم تكن الأمور سهلة في في زمن ستالين، ولم يسهّلها هو الآخر
على نفسه. لسنوات عديدة، كان قد قتل أو نفى مجموعة من أطبائه المعالجين إلى
سيبيريا، لأنه اعتقد أن المثقفين خطرون، ثم ذهب للموت. مات ستالين، بعد
يومين من الإهمال الطبي، عقب صدمة خادمته العجوز التي وجدته ملقى على الأرض
ذات صباح. وفي فراغ السلطة نشأ صراع ذو أبعاد ملحمية حول من يخلف القائد
الأعلى ليصبح الزعيم الجديد للاتحاد السوفييتي؟
"ممل،
ومثير للاشمئزاز، ومهين". هذه بعض الأوصاف التي يمكن تخيّل خروجها من أحد
الساسة الروس الحاليين لوصف فيلم "موت ستالين"، الذي حظره الكرملين في وقت
سابق من هذا العام. أسباب الحظر متنوعة، ولكنها تتشارك في اعتبار الفيلم
مهيناً للحقبة السوفييتية التي تصدّت للخطر النازي. في أماكن أخرى من
العالم، استقبل الفيلم بطريقة أكثر إيجابية، على الرغم من أن مخرجه
والمشارك في تأليفه الإسكتلندي أرماندو يانوتشي تعرَّض لبعض الانتقادات في
الصحافة البريطانية أيضاً. التخيل السينمائي لحالة الاضطراب التالية لوفاة
جوزيف ستالين عام 1953، كما يصوّرها "موت ستالين"، ليس أقل من مبالغة
مترامية الأطراف، لكنه، في الوقت نفسه، حقيقي للغاية في تصوير دولة الرعب
الستالينية ووساوس قياداتها الأمنية والسياسية. بعيداً من ذلك الانتقاد حول
دقة الفيلم تاريخياً، طفا سؤال آخر عما إذا كان هناك ما يبرر الضحك على
سفّاح جماعي خلّف ملايين الضحايا. هل يمكننا إطلاق النكات حول الهولوكوست
مثلاً؟ وبالطبع حضر النقاش المحتد المعتاد في معظم أفلام السير التاريخية:
هل يجب الالتزام بعادة تطويب وتبجيل الرموز التاريخية، في رصف شريط سينمائي
مليء بالأيقنة والتعريض الطيب؟ وفي حالة "موت ستالين" تحديداً، هل يمكن
لبريطانيا قبول خروج فيلم روسي يسخر من موت تشرشل؟
إيانوتشي، المعروف بكوميدياته السياسية الحادة مثل "إن ذا
لووب" (2009) والسلسلة التلفزيونية الشهيرة "فيب"، يتجاوب مع نقد عمله
باقتضاب يفسّر وجهة نظره، في حواره مع "المدن". وفقاً له، يكاد يكون من
المستحيل عدم الضحك على هذه القصة: "إذا كنت تنوي تمثيل الأحداث المحيطة
بوفاة ستالين كعمل درامي جاد، ستواجهك مشكلة تتعلق بنقص إدراكي حاد في
ملاحظة السخافة والتفاهة، مهما كان السياق فظيعاً. للحفاظ على مصداقية
الفيلم إلى حد ما، أضعفنا الحقيقة في أكثر من مناسبة". يشير إيانوتشي إلى
المشهد الافتتاحي للفيلم: قبل فترة قصيرة من استسلامه لنزيف دماغي، يستمع
ستالين إلى حفلة موسيقية مذاعة على الراديو. يسأل عن التسجيل، والذي لم يتم
هذه المرة. في حالة من الهلع، يتقرر أداء الحفلة على الفور، حتى يتمكن
الضابط المكلف من تسليم تسجيله إلى ستالين. يقول إيانوتشي: "في الفيلم،
تقوم قوة من الجنود بالذهاب إلى بيت المايسترو وإيقاظه من النوم لقيادة
الأوركسترا، وتجبر مجموعة من العمال وربات البيوت على حضور الحفل المُعاد،
كي يتمكنوا من تصوير الحفلة وإرسالها إلى ستالين بأقصى سرعة. لقد حدث ذلك
بالفعل، لكن في الواقع كان المايسترو الأصلي مخموراً للغاية، ولا يقدر على
التصرف، لذا استبدلوه أيضاً. لم نفعل ذلك في الفيلم، لأننا كنا خائفين من
أن المشاهدين سيجدون من الصعب تصديق ذلك".
- مع ذلك فقد تعاملت مع الفيلم ككوميديا صرفة.
* لا. من البداية، كان من الواضح أن الفكاهة يجب أن تأتي من
غباء النظام. لم نكن نطلق النكات عن العنف والأهوال التي عاناها الناس. لم
تكن الفكرة من الفكاهة وضع الرعب في الواجهة، ولكن تعزيزه. لم أرغب في
استدعاء ابتسامة مسترخية، بل ضحك متململ وعصبي.
- هل هذا المزيج من الفكاهة والرعب موجود أيضاً في قصة
الكوميكس الفرنسية التي يرتكز عليها الفيلم؟
* نعم، النبرة الملتبسة للقصة جذبتني على الفور. لفترة من
الوقت كنت أفكر في إنجاز فيلم ساخر عن ديكتاتور خيالي، ولكن لم يكن لديّ
قصة جيدة حتى ذلك الوقت. عندما قرأت القصة المصورة، فكرت: هذا ما كنت أبحث
عنه. هذا مثالي، وفي الحقيقة الفكاهة جعلتها أقوى تأثيراً.
- هل وجدت من المهم أن تبقى دقيقاً تاريخياً؟
* سمحنا لأنفسنا بالكثير من الحرية عند الكتابة. قمنا
بتفصيل الحوارات بأنفسنا، وحذفنا أحداثاً ولخصّنا أخرى. لكني اعتقدت أنه من
المهم أن يكون الجوهر الأساسي صحيحاً. ليس فقط الخطوط الرئيسية للقصة، ولكن
أيضا الجو، جنون العظمة الذي ساد في تلك الأيام. أجرينا الكثير من الأبحاث
حول هذا الأمر، والروس الذين شاهدوا الفيلم يقولون إن هذا الشعور مصوَّر
بشكل جيد.
- هل هناك العديد من الروس الذين شاهدوا الفيلم؟
* نعم، إنه يُشاهد هناك بشكل جماعي. وفقا لدراسة استقصائية
في صحيفة "موسكو تايمز"، فإن 60 في المائة من الروس خططوا لرؤية الفيلم.
هذا الحظر لا معنى له على الإطلاق في وقتنا هذا. إذا كان بإمكانك الحصول
على الأفلام بشكل سري، ستكون روسيا نموذجاً رائداً.
- ما تعليقك على قرار الحظر؟
كنت أتوقع أن يكون هناك بعض الجلبة، ولكن في البداية الفيلم
اجتاز الفحص الرقابي. دُبلج بالروسية بالفعل، وأجرينا عروضاً للصحافيين
الروس، حتى أننا ظللنا نجري مقابلات طوال اليوم. لكن أحدهم ظلّ غاضباً
وساخطاً على الفيلم. الحقيقة أن أكثر ما أدهشني في قصة الحظر كلها هو ذلك
الخطاب السوفييتي المخزي الذي رافق إعلان حظر الفيلم. شعرت بالحزن، بشكل
خاص، أن مثل هذه الأشياء لا تزال تحدث في عام 2018.
- هل لديك فكرة أن ستالين لا يزال يعتبر بطلاً قومياً في
روسيا؟
* هناك شيء مخادع للغاية في حالة ستالين. جرائمه، على سبيل
المثال، لا تُخفى في المدارس، لكنه يصوَّر أيضاً على أنه الرجل الذي هزم
هتلر وأحدث ثورة تصنيعية في البلاد. عندما كنا في موسكو لإجراء الأبحاث،
كانت صورته معلقة على جدار غرفتنا الفندقية. هل يمكنك تخيّل أن تجد في
برلين صورة لهتلر؟
ستالين لا يزال حياً هناك. ومن هذا المنطلق، لم تفعل
السينما الغربية أي شيء مع الرجل. أعتقد أن السبب يعود إلى أننا، في الغرب،
لم نقرر بعد كيف نرى ستالين. يمكنك ببساطة أن تربض على ظهر أحدهم وتقول له
"يا رفيق"، لكن "يا نازي" مختلفة للغاية وتثير حساسية بالغة.
- لكنك صنعت كوميديا عن
ستالين. حسناً، عن حاشيته وبطانته. أعرف أشخاصاً ذوي خلفية روسية لا يريدون
مشاهدة الفيلم لأنه، حسب رأيهم، لا يمكنك عمل فيلم كوميدي عن سفّاح.
* حين كنت في بروكسيل حاضراً أحد عروض الفيلم، أخبرتني إحدى
المشاهدات إنها لم تكن تتطلع لرؤية الفيلم لهذا السبب، ولكنها شعرت أن
الفيلم يعامل التاريخ باحترام، فهو ليس هزلياً. هو ما أسميه "كوميديا
الخوف". إنه عن الأشخاص الذين يحاولون النجاة من الفراغ الكلي للسلطة بعد
وفاة ستالين. الكوميديا تنبع من مصدر الخوف نفسه، وهذا هو السبيل الوحيد
لصنع كوميديا عن ستالين.
- هل تريد بفيلمك عمل إسقاط على الحاضر؟
*بكل تأكيد. من الواضح أنه لا يمكنك فقط مقارنة شخص مثل
بوتين مع ستالين، ولكن روح تلك الحقبة، حيث لا أحد يثق بأي أحد والسياسيين
دائماً يتصرفون بشكل مثير للشك، تكون أحياناً مشابهة جداً. ليس فقط في
روسيا، بالطبع. لقد كان اختياراً متعمداً عدم إفراط التركيز على الزمان
والمكان في الفيلم، بحيث يمكنك أيضاً، كمشاهد، تخيُّل حدوث هذا في مكان
آخر، في الوقت الحاضر. لهذا السبب، على سبيل المثال، اخترتُ ممثلين معروفين
يتحدثون اللغة الإنكليزية دون أي لهجة.
- وماذا تأمل أن يستخلصه المشاهدون عن الحاضر؟
أعتقد أن الديمقراطية غالباً ما تعتبر من المسلَّمات. إذا
لم تكن قد عرفت أي شيء آخر، يمكنك البدء بالتفكير: آه، الديمقراطية، هل هذا
النظام مثالي، ألا توجد بدائل؟ بلى، هناك بدائل بالتأكيد، فقط الق نظرة على
هذا الفيلم.
- قمت بعمل مسلسلين تلفزيونيين عن المكائد السياسية
المعاصرة. لماذا فيلم عن ديكتاتور ميت؟ لماذا ليس ترامب أو برلسكوني أو حتى
فيكتور أوربان؟
*كما أخبرتك، كانت لدي فكرة صنع فيلم روائي عن ديكتاتور
معاصر لنرى أين يمكن أن نذهب مع أمثال ترامب وبرلسكوني وأوربان، وبعد ذلك
تلقيت مكالمة هاتفية من فرنسا بأن منتجاً يريد أفلمة "موت ستالين" ووقع
عليّ الاختيار لأكون مخرجاً. لماذا نبتكر شيئاً خيالياً إذا كانت الحقائق
نفسها غريبة وعجيبة؟
أيضاً، "موت ستالين" مهتم أكثر ببيئة السلطة وكواليسها،
وهذا إرث وحكاية قديمة. يمكننا أن نفكر في "لعبة العروش"، "الأب الروحي"،
روما القديمة. السؤال هو مَن سيكون الحاكم القادم.
- هل أنت قلق بشأن هؤلاء القادة الجدد؟
* نعم، هذا هو السبب في أنني أردت صناعة كوميديا عن
الخوف. تنشأ الأجيال الجديدة وهي لا تعرف شيئاً سوى الديمقراطية، وإذا لم
تحصل على ما اعتادته مادياً، فبإمكانها في بعض الأحيان اختيار بديل غير
معروف، فقط انطلاقاً من الجهل بالأشياء الأخرى. بدائل بأسنان ثلجية بيضاء
وبزّات مصممة حسب الطلب.
-ماذا يمكن أن تفعل السخرية عندما يكون هناك جنون في
السلطة؟
* في كل الأحوال، لا تتغير تفضيلات الناس السياسية. أجد
ذلك صعباً. كل ما تخترعه حول الغرور السياسي والجهل والجنون، يتحول إلى
حقيقة في اليوم التالي. ماذا تفعل عندما يتحدث السياسيون على أعلى مستوى
بأشياء يخجل من التفوه بها أي شخص محترم؟!
(*) "موت ستالين" يُعرض حالياً في القاهرة (سينما زاوية).
فاز الفيلم مؤخراً بجائزة أفضل فيلم كوميدي ضمن "جوائز
الفيلم الأوروبي"، كما رُشّح لجائزتي بافتا (أفضل فيلم بريطاني، وأفضل
سيناريو). |