فيلم من أفلام "الرسالة الاجتماعية" التي تكثر فيها الخطابة
والمحاضرة المباشرة.
المخرج الفرنسي فرانسوا أوزون مخرج سعيد الحظ، فأفلامه ترحب
بها المهرجانات الكبرى مثل كان وبرلين، وكثيرا ما يوصف أوزون بأنه من مخرجي
الموجة الجديدة الثانية، أي التي تحاول تجديد السينما الفرنسية، ورغم تنوع
مواضيع أفلامه وميله للتصوير الحسي، يظل طموحها الفني محدودا رغم ما تحققه
من صدمات أحيانا.
برلين
– “بفضل
العناية الإلهية” هو الفيلم الخامس للمخرج الفرنسي فرانسوا أوزون الذي
يشارك في مسابقةمهرجان
برلين السينمائي الـ69
التي تنتهي فعالياتها اليوم الجمعة، وقد استقبل الفيلم بحفاوة بسبب موضوعه
المثير الذي يسير على هدى عمل آخر أثار عند عرضه في مهرجان فينيسيا قبل
ثلاث سنوات، اهتماما كبيرا، وهو الفيلم الأميركي “ضوء كاشف”
Spotlight
للمخرج تيم ماكارثي، وكان يصوّر شجاعة وإقدام عدد من صحافيي “بوسطون غلوب”
في تصديهم للكشف عن الاعتداءات الجنسية التي مارسها قس كاثوليكي على 80
طفلا.
يصوّر فيلم فرانسوا أوزون موضوعا لا تزال أصداؤه تتردد بقوة
في الساحة الفرنسية، فبعد أسابيع معدودة (وتحديدا في 7 مارس)، يبدأ القضاء
الفرنسي في النظر في قضية الكاردينال بارباران المتهم بالكذب والتستر على
الاعتداءات الجنسية التي وقعت طوال 30 عاما داخل الكنيسة الكاثوليكية في
ليون، على عدد كبير من الأطفال كانوا ضمن فرق “الكشافة الكنسية” ولم يتخذ
بارباران قرارا حاسما ضد القس الرئيسي المتهم فيها، برنار برينات، كما
يحاكم مع الكاردينال خمسة من أعضاء الكنيسة من بينهم سيدة.
في خضم الأحداث المتعاقبة في الفيلم، يضطر الكاردينال
بارباران
Barbarin
إلى عقد مؤتمر صحافي للإجابة عن الكثير من التساؤلات المطروحة أمام الرأي
العام بشأن قضية برينات الذي بدأت الشرطة التحقيق في الاتهامات المنسوبة
إليه بالاعتداء الجنسي على 80 طفلا في الفترة من 1986 إلى 1991.
وفي هذا المشهد الرئيسي الكاشف في الفيلم، يوجه أحد
الصحافيين لبارباران سؤالا حول سبب عدم وصول قضية برينات إلى القضاء، فيجيب
بشكل عفوي “لقد حدث هذا بفضل العناية الإلهية”، وهي العبارة التي أثارت
استنكار الصحافيين وأصبحت عنوانا للفيلم، وبدا أيضا أنها حملت في طياتها
إدانة للكاردينال نفسه رغم تراجعه عنها.
قضية ساخنة
ولأن الفيلم يوجه إدانة قاسية لبرينات الذي يقر ويعترف بأنه
من “البيدوفيليين” وأنه اكتشف في نفسه منذ وقت مبكر ميولا جنسية تجاه
الأطفال واعتبر نفسه مريضا، لكنه فشل في علاج حالته والتغلب عليها، ولأن من
المقرر أن تبدأ العروض العامة للفيلم في فرنسا نهاية الشهر الحالي، تقدم
محامو برينات إلى المحكمة بطلب لوقف عرض الفيلم بدعوى أنه من الممكن أن
يؤثر على مسار القضية.
الموضوع إذن ساخن ويهم الرأي العام الفرنسي، كما يمكن أن
يصنع مشكلة أخرى إضافية أمام الفاتيكان تضاف إلى ملف الاعتداءات الجنسية
الطويل داخل الكنيسة الكاثوليكية عبر عقود، وهو ملف يبدو أنه سيظل مفتوحا
لفترة طويلة، ولكن ماذا عن الفيلم نفسه من الناحية الفنية؟
يمكن القول إن أوزون لجأ إلى الطريقة الأكثر سهولة في سرد
الأحداث من خلال السيناريو الذي كتبه بنفسه، وهي طريقة تقوم على ما يمكن أن
نطلق عليه “تسميع الرسائل” أو “الحكي الشفوي”، فخلال الساعة الأولى من
الفيلم ومن دون أي توقف، يصوّر الفيلم كيف يلجأ ألكسندر، وهو موظف مصرفي
محترم ينتمي إلى الطبقة الثرية، ورب أسرة لديه خمسة أبناء، وكاثوليكي
ملتزم، إلى إثارة موضوع التحرش الجنسي في كنيسة ليون الذي تعرض له قبل أكثر
من 30 عاما على يدي القس برينات، وذلك بعد أن طالع في الصحف ما يفيد أن
برينات لا يزال يمارس العمل بين الأطفال حتى اليوم.
نستمر إذن في متابعة خلفيات المسألة الخاصة بألكسندر من
خلال رسائل البريد الإلكتروني التي يكتبها ويرسلها تارة إلى الكاردينال
بارباران، وتارة أخرى إلى القس برينات نفسه، ثم إلى بابا الفاتيكان أيضا،
كما نستمع إلى نص ما يتلقاه من ردود من هذه الأطراف نفسها أو عبر ممثليها
ومساعديها في مشاهد متتابعة يسودها شريط الصوت المليء بالعبارات والتفاصيل
المتعددة التي يتابعها المتفرج وهو يلهث لتجميع أطرافها المختلفة، أي أن
المتفرج يتابع وقائع الموضوع من خلال فحوى تلك الرسائل التي يقرأها
بأصواتهم الممثلون الذين يقومون بأداء تلك الشخصيات.
ما يتلقاه ألكسندر من ردود لن يكون شافيا، لذلك وبمساعدة
زوجته التي تقف بجواره وتسانده بقوة (وسنعرف في ما بعد أنها كانت بدورها
ضحية اعتداء جنسي تعرضت له في طفولتها، ولكن من قبل أحد أصدقاء الأسرة)
يقرر ألكسندر أن يخرج إلى العلن، وأن يخاطب الرأي العام عن طريق الصحافة
والإعلام.
ويلتقط الخيط رجل آخر، هو فرانسوا الذي كان زميلا لألكسندر
في تلك المعسكرات الصيفية لفرق الكشافة الكنسية التي كانت تقام في البرتغال
وأيرلندا حيث تكررت الاعتداءات الجنسية.
يتحمس فرانسوا أيضا لإثارة الموضوع، بل وينشئ جمعية خاصة
لاحتضان القضية تبدأ في الاتصال بضحايا آخرين وعقد مؤتمرات صحافية
واجتماعات ومناقشة السبل الكفيلة بتقديم برينات ثم بارباران للمحاكمة، خاصة
وأن فرانسوا لا يزال يمكنه اللجوء إلى القضاء على العكس من ألكسندر الذي
انقضت المدة المسموح بها لإقامة الدعوى (يحددها القانون الفرنسي بثلاثين
عاما).
مسار السرد
يخرج ألكسندر تقريبا من الفيلم لفترة طويلة، لكي نبقى مع
فرانسوا، قبل أن يدخل طرف جديد في القضية، هو إيمانويل، وهو أكثر الثلاثة
بؤسا وفقرا، بل ودمارا من الناحية النفسية والجسدية أيضا، فهو عاطل عن
العمل، يعاني من نوبات صرع حادة تصيبه، علاقته بصديقته شديدة التوتر بسبب
انعكاس حالته النفسية على العلاقة ولجوئه إلى التعامل بخشونة وعنف معها
أحيانا، كما أن علاقته بوالده ليست على ما يرام.
هناك وصف جيد للشخصيات، وأداء تمثيلي شديد القوة والإقناع،
وانتقال سلس بين المشاهد الداخلية ومنها إلى المناظر الخارجية، في سوية
وقوة مع إبراز الديكورات وجعل الخلفية الحياتية لكل من الشخصيات الرئيسية
الثلاث، تتعمق أكثر من خلال ديكورات منازلهم وإضاءتها.
أما المشكلة الكبرى في الفيلم والتي تجعله واحدا من أفلام
“الخطاب المباشر” فتكمن أولا في أن ما نشاهده كله باعتراف المخرج نفسه في
المؤتمر الصحافي الذي عقد لمناقشة الفيلم في برلين، مطروح منذ مدة
وبالتفصيل في الصحافة الفرنسية، غير أن أوزون كان يقصد من وراء تصريحه هذا
إبداء استهجانه لطلب محامي برينات وقف عرض الفيلم بسبب الأسماء الحقيقية
التي وردت فيه للشخصيات محل الاتهام.
من الناحية الدرامية يفتقد الفيلم الحبكة القوية التي تتيح
قدرا من التعمق في التكوين الداخلي للشخصيات أكثر من تصوير أنماطهم
المختلفة وأنماط حياتهم الخارجية، ولعل السبب في هذا يرجع أيضا إلى هذا
البناء الكسول الذي ينتقل من شخصية إلى أخرى، ويحاول أن يظهر دور المرأة
كقوة مساندة، والآباء أحيانا كمتعاطفين وأحيانا كمسؤولين عن المشكلة بسبب
إهمالهم المسألة من البداية، أي منذ أن علموا بها.
“بفضل
العناية الإلهية” فيلم من أفلام “الرسالة الاجتماعية”، ومن الأفلام التي
تكثر فيها الخطابة والمحاضرة المباشرة، ولكنه رغم كل ما يمتلئ به من دفاع
عن الطفولة في مجتمع يبيح الحرية الجنسية المثلية، لكنه يحظر ممارسة الجنس
مع من هم دون السن القانونية، يتقاعس عن نقد المؤسسة التي سمحت بهذا النوع
من الانحرافات.
ومرة أخرى نحن نخرج من الفيلم دون أن نفهم السبب الذي يدفع
القساوسة إلى هذا النوع من الممارسات، هل يكمن الأمر في جوهر الفكر
الكاثوليكي نفسه الذي يلغي الجانب الحسي من حياة رجال الدين، أم في طبيعة
من يقبلون على هذا العمل، أم في طبيعة المؤسسة نفسها وعلاقتها المشوبة
بالتوجس مع العالم؟ لا أحد يدري!
كاتب وناقد سينمائي مصري |