«الشرق
الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي (7): متنافسو مهرجان برلين يرقصون مع
«الدببة» الليلة
ختام لدورة غير لامعة ونهاية مرحلة
برلين: محمد رُضـا
مساء اليوم، السادس عشر من هذا الشهر، يشهد العرض الأخير
لمهرجان برلين السينمائي… عرض لرجال ونساء يصعدون المنصة ويرقصون مع
«الدببة»، وهي الجوائز التي سيتم توزيعها على الرابحين.
لم تكن دورة فذّة بين دورات «برلين»، لكنها لم تكن كذلك من
تلك التي كسرت ظهر المهرجان بأسره. حضوره ما زال قوياً… فقط لم تلمع دورته
هذه كما لمعت دوراته السابقة وتلألأت.
من حسنات مهرجان برلين الخفية، أنه كثيراً ما يوفر لنقاد
السينما فرصة الاشتراك في لجان تحكيمه: الناقد البريطاني ورئيس تحرير مجلة
«سايت آند ساود» (إحدى المجلات السينمائية القليلة الباقية باللغة
الإنجليزية)، نك جيمس كان عضو لجنة التحكيم الدولية سنة 2016، تلك التي
ترأستها ميريل ستريب ومنحت دبها الذهبي آنذاك للفيلم التسجيلي الإيطالي
«نار في البحر».
وفي العام التالي تربعت الناقدة المكسيكية دنييلا مايكل بين
أعضاء لجنة التحكيم الرسمية للفيلم التسجيلي، وهذه اللجنة منحت جائزتها
الأولى لفيلم «اصطياد أشباح» للفلسطيني رعد أنضوني.
في العام الماضي انضمت الأميركية ستيفاني زاكارك للجنة
الرئيسية (تحت إدارة المخرج الألماني توم تيكوَر) وهي ناقدة مجلة «تايم».
أما هذا العام شغل المنصب ناقد صحيفة «ذا لوس أنجيليس
تايمز» جوستين تشانغ الذي كان ناقداً لمجلة «فارايتي» لبضع سنوات لمع فيها
قبل التحوّل إلى تلك الصحيفة ذائعة الانتشار. هو تحت إدارة الرئيس الممثلة
الفرنسية جولييت بينوش، الغنية عن التعريف، في مقابل باقي فريقها مثل تشانغ
والممثلة الألمانية ساندرا هولر والمخرج التشيلي تشيليان ليليو والمنشط
ومسؤول «متحف مودرن آرت» في نيويورك راجندرا روي. والعضو السادس هو الممثلة
البريطانية ترودي ستايلر التي انقلبت منتجة أيضاً في عام 1990.
ما يحسب هنا أن النقاد والمخرجين لا يتفقون كثيراً على
اختياراتهم. لكن الخلاف المتوقع (ولو نظرياً) بين تشانغ وليليو (إن وقع)
سيواجهه خلاف محتمل على رقعة أخرى. فالممثلة ساندرا هولر قد تؤيد جولييت
بينوش في قراراتها وقد تخرج عنها. وراجندرا روي قد يتفق مع مواطنه تشانغ أو
قد يعارضه.
في كل الأحوال، وفي نهاية دورة حفلت بأفلام مقبولة ومتوسطة
(وبعض الضحل) النتيجة ستكون نوعاً من الاختيارات التي ترقص على حبال واهنة.
وهي أيضاً ستكون نهاية مرحلة امتدت 18 سنة تحت رئاسة دييتر
كوزليك، التي نهضت بالمهرجان ومنحته مكانته أكثر مما فعل بعض من سبقه في
هذا المنصب.
وهو ظهر في هذه الدورة على المنصة، في أكثر من مناسبة،
كعادته في كل عام، وإحدى أهم المناسبات كانت منح الممثلة شارلوت رامبلينغ
جائزة المهرجان التكريمية الخاصة. هناك وقفت الممثلة التي لها باع يمتد من
أواخر الستينيات، التي مثلت في أفلام عبر القارات. ورفعت «دبها» المذهب وسط
تصفيق وتحية ألوف الحاضرين.
في شبر من الماء
خلف انسحاب فيلم زانغ ييمو «ثانية واحدة» فراغاً ملموساً.
ليس فقط أن عدد الأفلام المتسابقة قد قل عما كان عليه (وكان قليلاً في
الأساس) بل ترك رواد أمس الجمعة، مثل سراب نحل فقد خليته.
والفيلمان الصينيان الآخران في المسابقة «أوندوغ» و«وداعاً،
ولدي» شهدا انقساماً بين النقاد يوحي بتكراره بين لجنة التحكيم.
«أوندوغ»،
كما مرّ معنا، دراما توظف سهوب مانغوليا لما تطرحه من أحداث وهي شحيحة
كالمكان التي تقع تلك الأحداث فوقه: جثة امرأة عارية في وسط اللامكان. شرطي
توكل إليه حراسة المكان ليوم وليلة. امرأة وحيدة تتقرب منه. ثم يعود
البوليس مع سيارة الجهاز الطبي للإشراف على نقل الجثة.
الفيلم الصيني الآخر: «وداعاً، ابني» تقع أحداثه في الصين
ذاتها ومخرجه هو وانغ سياوشياو الذي يتم تعريفه بأنه في حين توجه معظم
المخرجين الصينيين من جيله لتحقيق أفلام تدر أرباحاً، حافظ سياوشياو على
جدية أفلامه وطروحاتها التي ترصد متغيرات المجتمع الصيني.
في «وداعاً، ولدي» يطرح سياوشياو حكاية زوجين عانا الكثير
في حياتهما المشتركة. في البدء جاء موت ابنهما الصبي زينغزنغ بداية لسلسلة
من العذابات النفسية والعاطفية. يفتح الفيلم بمشهد صبي يرقب أولاداً آخرين
يلعبون في ماء البحر عند الساحل. إنه هاوهاو الذي يستدير صوب زينغزنغ ويحثه
على النزول إلى البحر. زينغزنغ يتمنع لأنه لا يجيد السباحة. يرد عليه صديقه
بأن الساحل ليس عميقاً. وما نراه هو كذلك بالفعل. مستوى الماء بالكاد يرتفع
عن الكاحل. «سأحميك» يقول هاوهاو لزينغزنغ.
سيعود المخرج إلى الحادثة أكثر من مرّة (من دون تفسير كيف
يمكن لصبي أن يغرق في شبر من الماء، خصوصاً أن أحد المشاهد يرينا نقله من
تلك البقعة غير العميقة) فالمصاب، بالنسبة للعائلة الصغيرة، جسيم. لذلك
يتبنى الزوجان صبياً سمّياه أيضاً زينغزنغ علّه يملأ الفراغ العاطفي ويحل
مكان الفقيد. لكن هذا الصبي يخيب الآمال. يحتفظ بسلوكه المعادي ويغيب (وقبل
نهاية الفيلم بنصف ساعة أو نحوها يعود ليغيب بعد ذلك تماماً).
موت الابن سيظلل الفيلم كون أثره على الأبوين سيمتد لعقود
متوالية. لكن المعاناة لها جانب آخر سياسي. فالأحداث تبدأ في موقع ما من
فترة «الثورة الثقافية» وتنتقل لما بعد تلك الفترة مع صدور قرار إلزامي
يجبر العائلات على تحديد الإنجاب بولد واحد. هنا يصبح لزاماً على الزوجة
القبول بعملية إجهاض لئلا تنتهي هي أو زوجها أو كلاهما إلى السجن. والكثير
من المشاهد تدور في تلك الفترة لكنها تتقاطع دوماً ومشاهد استرجاعية من
الفترة السابقة. فالفيلم ليس سرداً يتبع الفترات الزمنية على نحو متوال
وطبيعي، بل ينتقل من فترة لأخرى، حسب ما ارتأى المخرج حتى ولو أدى ذلك
لتفكيك بعض أوصاله درامياً.
«وداعاً،
ولدي» دراما عائلية مليئة بالألم الداخلي والإحباطات العاطفية التي لا
تتبدى إلا لمن لا يعمل لصالح السُلطة الشيوعية. بعد ذلك يدخل الفيلم بداية
الفترة الحالية حيث تحولت الصين إلى نظام رأسمالي (ولو أن الحزب الشيوعي ما
زال يحكم). في طيات كل ذلك، يصيب الثراء عائلات لكنه لا يصيب أخرى مثل
العائلة التي تابعنا معاناتها طوال الوقت. الفيلم لا يتعرض فقط لمعاناة
العائلة، بل يصدرها لمشاهديه الذين، في أحسن الأحوال، عليهم مشاهدة عمل
عادي المواصفات فناً.
تصوير كيم - هيون - سيوك شاحب في معظم مشاهده، خصوصاً
الخارجية، حيث طبيعة المكان لا تغري باعتماد مصادر الضوء الطبيعية.
السيناريو (من أ. ماي) مليء بالمنغصات. هذا فيلم ميلودرامي
يعكس مشاعر الألم والذنب والحزن طوال مدة عرضه. على ذلك، هناك جهد واضح من
المخرج لإنجاز عمل شبه ملحمي وبالتأكيد واقعي اللون والمعالجة والنبرة. في
كل ذلك يمنحنا الفيلم الكثير من أسباب متابعته، لكن ساعاته الثلاث مليئة
بالانتقالات ما بين الأمس البعيد والأمس القريب والحاضر ما يترك المرء
بارداً حيال الواقع المعروض.
«الأوسكار»
في وسط برلين
هناك رتابة في هذين اليومين الأخيرين من الدورة التاسعة
والستين، لا ينقذ المتابع منها سوى ما يرد من هوليوود حول السجال القائم
بين أكاديمية العلوم والفنون السينمائية والوسط السينمائي عموماً.
فقبل أيام قليلة من قيام الأكاديمية بتوزيع جوائز
«الأوسكار» في دورته الحادية والتسعين يوم الأحد المقبل (الرابع والعشرين
من الشهر) ارتكبت الإدارة ما بدا خطأ كبيراً في حساباتها: لقد قررت توزيع
جوائز أربع مسابقات بعيداً عن أنظار المشاهدين، أي خلال قيام المحطات
التلفزيونية ببث دعاياتها بين الفقرات. هذا يعني أن جمهور الحفل سيتابع
البرنامج كاملاً، لكن الملايين خارج قاعة الاحتفال ستحرم منها. كذلك سيُحرم
الفائزون من قطف الثمار الإعلامي الواسع أسوة بزملائهم.
المسابقات المتوارية هي التصوير والمونتاج ومسابقة الأفلام
الحية القصيرة ومسابقة الماكياج وتصميم الشعر.
السبب الوحيد لذلك هي محاولة الأكاديمية الالتزام بثلاث
ساعات من البث، وبالتالي جعل الحفل يتحرك أسرع. ما فات أصحاب القرار حقيقة
أنه من الأفضل لو تم حذف بعض الفقرات الاستعراضية التي تأخذ من الوقت أكثر
مما تأخذه عملية توزيع هذه «الأوسكارات» على الفائزين.
في كل الأحوال، وُجِه القرار برفض عدد كبير من السينمائيين
الأميركيين من بينهم ألفونسو كوارون وسبايك لي وجورج كلوني وبراد بيت
ومارتن سكورسيزي وكونتين تارنتينو، التبرير المساق وراء هذا القرار. وأمس
(الجمعة) قدمت «جمعية المخرجين الأميركية» احتجاجها الرسمي على هذا القرار
واصفة إياه بأنه «مهين»، وأن مجرد تغييب فقرات تخص المسابقات الأربعة
المعلن عنها يعكس اعتبار أن هذه المسابقات والرابحين فيها «أقل شأناً من
باقي الرابحين».
لم يصدر تعليق من مهرجان برلين حول هذا الموضوع كونه يخص
المؤسسات الأميركية وسينمائييها. لكن المهرجان كان سبق له وأن عكس تبريراً
غير مقبول بدوره عندما قال إنه «فوجئ» بموعد تقديم أكاديمية الفنون والعلوم
السينمائية موعد حفلتها إلى الرابع والعشرين من الشهر. وهذا لا يمكن أن
يكون صحيحاً كون الإعلان عن موعد حفل «الأوسكار» تم قبل أشهر بعيدة.
الجمعة - 15 فبراير 2019 مـ
درس برليني
•
ترجم لي صديق ألماني بعض ما تناولته الصحافة الألمانية حول موضوع مبدأ
المساواة بين المخرجين والمخرجات؛ ما نجم عنه عرض سبعة أفلام لمخرجات
معظمها مخيب للآمال. رئيس المهرجان في عامه الأخير دييتر كوزليك، رد على
المنتقدين بالقول إن اختيار الأفلام لم يتم لسبب التنويع، بل لقيمة كل منها.
•
إنه كلام غير صائب من حيث إن المهرجان احتفى، إعلامياً، بمبدأ المساواة،
ولم يذكر حينها أن اختياراته من الأفلام النسائية تمّـت على غير هذا
المبدأ. كذلك من حيث إن معظم الأفلام النسائية السبعة لم تكن بالمستوى
المطلوب.
•
كنت أول من تنبأ بالمستوى المتواضع لأفلام هذه الدورة حتى من قبل أن أشاهد
فيلماً واحداً منها. المكتوب يُقرأ من عنوانه. وكنت كذلك أول من أشار إلى
أن إشراك أفلام تتبع نظاماً غير نظام القيمة الفنية، بل نسبة لمحاولة تحقيق
معادلة ما ليس الوسيلة لإدارة مهرجان ناجح.
•
لكن الحقيقة الإضافية هي أن الكثير من الأفلام الرجالية لم تكن أيضاً على
مستوى جيد، ناهيك عن مبهر. هذا ما يؤكد أن المشكلة كانت في الأساس واحدة من
اثنتين: سوء اختيار بين ما تم التقدم به أو سوء الأفلام التي تقدّمت لترشح
نفسها للمسابقة.
•
هذا لا يعني مطلقاً أن المهرجان لم يكن يستحق الحضور، ولا أن الضعف النسبي
للأفلام هو دومينو جر وراءه هواناً في كل نواحيه. |