مع اقتراب ساعة الحسم، وإعلان جوائز الدورة الثانية
والسبعين لمهرجان «كان»، الليلة (السبت)، تزداد التكهنات حول مَن سيفوز
بـ«السعفة» ومن سيفوز بسواها.
ولأسباب ذكرناها سابقاً، فإن لجنة تحكيم مؤلفة من ستة
مخرجين وثلاثة سينمائيين آخرين لن يكون في وسعها الوصول إلى القرارات
سريعاً. هذا بالطبع مع تعدد التوجهات التي ينطلق منها كل عضو.
لكن إذا كانت السياسة هدفاً فإن المخرج كن لوتش سيكون
سعيداً لأن يدعي أن فيلمه «آسف... افتقدناك» هو ما يملأ هذه الخانة، وهو
أفضل من فيلم الأخوين داردان «الشاب أحمد».
أما إذا ما كانت البوصلة ستتوجه عاطفياً وتقديرياً لفيلم
يقدمه مخرج سبق له أن شارك كثيراً ولم يفز بالسعفة (بل بأقل منها أحيانا)،
فإن بدرو المودوفار هو السينمائي النموذجي رغم أن «ألم ومجد» ليس أفضل
أفلامه.
هناك بالطبع احتمال أن يصوّت المحلّفون، بعد تذويب الخلافات
المتوقعة (والطبيعية) لفيلم ترنس مالك «حياة خفية»، خصوصاً إذا ما روعي أن
على الجائزة أن تذهب لأفضل فيلم متكامل. لن ينافسه فعلياً في هذا الاعتبار
سوى الفيلم الكوري «بارازيت» لبونغ جو - هون.
يبقى ما يُشاع من أن الأميركي كونتِن تارانتينو اشترط على
إدارة المهرجان الحصول على الجائزة الأولى وليس سواها، وهي إشاعة سادت في
مطلع المهرجان ثم ترددت في أيامه الأخيرة لكن لا مكان لاحتمالاتها، لأن
المهرجان لا يستطيع أن يضمن خط سير المداولات ولا يتدخل في قراراتها.
إذا ما أراد تارانتينو السعفة فعليه أن يضمن إعجاب رئيس
لجنة التحكيم أليخاندرو غونزاليز إيناريتو بفيلمه، كذلك معظم المخرجين
الآخرين الذين لا يكترثون كم دقيقة وقف الحضور للتصفيق لفيلم تارنتينو «ذات
مرة في هوليوود».
اعتبارات أوسكارية
لكن احتمال فوز «ذات مرة في هوليوود»
(Once Upon a Time…
in Hollywood)
ليس معدوماً، وإن كان بحاجة إلى الكثير من الهضم قبل أن يقبل المرء به.
على هذا الأساس، قد يكون من الأسهل الحديث عن الأفلام التي
لن تحصل على «السعفة الذهبية» (إلا بمفاجأة ستكون غير مفهومة الدوافع على
الإطلاق) وهي كثيرة.
هناك فيلم عبد اللطيف كشيش الجديد «مكتوب، حبي: مداخلة»
(Mektoube,
My Love
- Intermezzo)
الذي ساد عنه صيت سلبي حتى من قبل عرضه الرسمي مساء الخميس.
وهناك فيلم الإيطالي ماركو بيلوكيو «الخائن» الذي هو أقرب
إلى فيلم تلفزيوني طويل، لجانب أن سرده هو العائق الرئيسي في قبوله، إذ
ينتقل بين الأزمنة بلا سبب كافٍ، ويمضي ردحاً طويلاً من الوقت في المحاكم
التي نظرت في قضية المافيا الصقلية في التسعينات. «فرانكي» لإيرا ساكس
(فرنسا)، و«بورتريه لسيدة على نار» لسيلين شياما (فرنسا أيضاً)، يبدوان
خارج المعادلة تلقائياً ومعهما الفيلم المقدّم من مخرج الكندي إكزافييه
دولان الذي، وبعد أربع سنوات من اشتراكه لأول مرة في سباق «كان»، لا يزال
لا يعرف كيف يرتقي. فيلمه «ماثياس ومكسيم» هو بإجماع كثيرين أحد أسوأ ما
ظهر على شاشة المهرجان هذا العام.
هناك أفلام أخرى ستشهد المصير نفسه، لكن من غير المعروف كيف
سيكون استقبال النقاد لفيلم إيليا سليمان الجديد «لا بد أنها الجنة». لقد
عرض مسبقاً للجنة التحكيم وعرضه الصحافي الرسمي هو بعد ظهر هذا اليوم، لذلك
من المبهم قليلاً ما قد يأتي به الفيلم من جديد.
بالعادة، قلّما احتفت النتائج النهائية بأفلام بُرمجت في
اليومين الأخيرين من المهرجان. لا أفهم السبب، لكن ذلك يحدث كثيراً ليس في
«كان» فقط بل في رفيقي دربه برلين وفنيسيا. كذلك لن يكون حال الفيلم
الأفريقي - الفرنسي «أتلانتيك» لماتي ديوب أفضل من هذه القائمة وهو عرض في
الأسبوع الأول من المهرجان.
لكن كل هذه الاعتبارات، إيجاباً أو سلباً، تدخل أنبوب
التجربة حتى اللحظات الأخيرة. ما يشغل بال بعض الحاضرين هنا هو أي من
الأفلام سيبقى حياً لمدة كافية ليدخل سباق الأوسكار في العام المقبل.
السؤال طرح من دون داعٍ حقيقي من قِبل بعض النقاد الذين
رغبوا في أن يكونوا في عداد أوائل من يبدأ بطرح أسئلة حول شاكلة سباق أفضل
فيلم أجنبي (سيتم تغيير الاسم إلى «أفضل فيلم عالمي» بدءاً من دورة
الأوسكار المقبلة).
لكن حتى مبدأ التجاوب مع مثل هذا النظر البعيد لمستقبل ما
زال من المبكر جداً البحث فيه لا يفي بغاية الترويج لأفلام «كان» على أساس
أن أحدها سيخرج فائزاً بالأوسكار. طبعاً هناك أفلام من «كان» تم ترشيحها
(من بينها فيلم نادين لبكي «كفرناحوم») لكن لم يفز فيلم من «كان» بأوسكار
أفضل فيلم أجنبي منذ 54 سنة، عندما قدم دلبرت مان فيلمه «مارتي».
للحقيقة، فإن فيلم رومان بولانسكي «عازف البيانو» عرض في
دورة كان سنة 2002 ثم فاز بثلاثة أوسكارات هي أفضل مخرج وأفضل ممثل (أدريان
برودي) وأفضل سيناريو مقتبس (رونالد هروود). لكن ذلك الفيلم لم يكن
«أجنبياً» بل ناطق بالإنجليزية، وهو لم ينل أوسكار أفضل فيلم بل ذهب
التمثال الذهبي إلى «شيكاغو» لروب مارشال.
رغم كل ذلك لا يجب أن يشغل بال أحد أيّ مِن أفلام «كان»
سيخطو إلى ربوع الأوسكار، لكن هذا ما يقع بالفعل، بل ما بدا أنه يشغل بال
إدارة المهرجان عندما أشارت في أحد تصريحاتها إلى أن أربعة من أفلامها في
العام الماضي وصلت إلى ترشيحات الأوسكار الرسمية (تحديداً «حرب باردة»
و«النشالون» و«كفرناحوم» في المسابقة الأجنبية و«بلاككلانكسمان» في
المسابقة الأولى). مع ذلك يبقى أن الفيلم الفائز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي
كان «روما» الذي عرضه مهرجان فينيسيا.
طموحات عربية ذات ثمن
هذا العام، وإذا ما أردنا مجاراة التوقعات التي بدأت تغلي
على نار غير هادئة، فإنه من المقبول توقع وصول فيلم «روكتمان» إلى سدة
المنافسات الرئيسية أسوة بفيلم «بوهيميان رابسودي» الذي أنجز الترشيح
الرسمي. كونتِن تارنتينو يطمح لأن يدخل بفيلمه «ذات مرة في هوليوود» سباق
الأوسكار كذلك أي فيلم سيتسلم «السعفة الذهبية» سواء أكان ناطقاً
بالإنجليزية أو سواها.
سواء تحققت أي من هذه التوقعات، سواء بالنسبة لجوائز الدورة
الحالية من مهرجان «كان» أو بالنسبة للأوسكار بعد تسعة أشهر من الآن، فإن
هذا الخليط من الآراء والنتائج يخدم صناعة سينمائية نشطة تمتد بالعرض
والطول لتشمل معظم مناطق العالم حتى المنطقة العربية منها.
لكن المسألة تختلف عندنا عن كثير من دول العالم.
الفيلم اللاتيني، على سبيل المثال، لديه سوق تشمل أكثر من
ست دول لاتينية على نحو دائم. اللغة مشتركة والهموم عادة كذلك كما الثقافة
الواحدة.
الفيلم الفرنسي يغزو باطراد دولاً عدة لا تنطق بالفرنسية
لكنها تفتح شاشاتها لبعض إنتاجاتها المطلوبة.
السينمات الأوروبية المختلفة تفتح حدودها على بعضها، لتشكل
سوقاً كبيرة تموّل نفسها بنفسها.
لكن الأمر نفسه لا يمكن أن يقال عن سينما عربية لا تعرض
أفلامها إلا في الداخل المحلي لكل بلد (إذا ما تسنى لها ذلك)، أو في بعض
المحطات العالمية، مثل مهرجانات برلين وكان وفينيسيا وتورنتو. نعم، بعض هذه
الأفلام تجد نشاطاً دولياً، وفيلم نادين لبكي آخر دليل على ذلك، وقبله
الفيلم السعودي «وجدة» لهيفاء المنصور، لكن هذا يبدو مثل براعم ربيع
متباعدة في حقل تسوده الأعشاب اليابسة. وإخفاق الدول العربية بتنشيط
الأفلام المصنوعة داخلها ثم إخفاق تبادل هذه الأفلام في سوق واسعة من حيث
المبدأ يجعل معظم ما يرى نور العرض في المناسبات الدولية تكملة عددية تجلب
بعض المسرات، لكنها تبقي الحياة السينمائية في بلدانها على حالها.
المنتج التونسي توفيق قيقة يضع النقاط على الحروف عندما
يجيب عن تساؤلاتنا حول واقع السينما العربية حالياً، فيقول: «لا يزال على
وضعه السابق. نعم، هناك أفلام تخرج للعروض الدولية في بعض المهرجانات، لكن
دورها يتوقف أساساً عند هذا الحد. لكن الشيء الأخطر هو أن الأفلام التي
تنجز أكثر من غيرها يتم صنعها بتمويل غربي، وهذا التمويل يشمل على نحو سائد
تحقيق الفيلم الذي يود الغربيون مشاهدته، وليس العرب».
لسنوات كثيرة دار الحديث حول شروط تضعها شركات الإنتاج
الغربية على المخرجين العرب الطامحين لتأمين ميزانيات الأفلام التي يودون
تحقيقها من تلك الشركات. يذهب البعض إلى التأكيد على أن تلك الشركات تفرض
وجود صور نمطية معينة حيال العرب وقضايا الإسلام حتى من قبل وصول هذه
القضايا لما نعايشه اليوم.
لكن الواقع هو أن العلاقة لا تتم على أساس وضع شروط، بل
تلبية تلقائية لما هو مرغوب. وهذه التلبية تتم على نحو متفاهم عليه. لذلك
نجد أن الأفلام التي تتعامل وقضايا المرأة العربية وتلك التي تتعامل
و«الإرهاب الإسلامي» والأخرى التي تبحث في الحروب العربية في ارتفاع ملحوظ.
في العام الماضي وحده شاهدنا، بين المتوفر كأفلام تسجيلية وروائية، عدة
أفلام تتعرض لهذا الموضوع أو ذاك وكلها من إنتاجات يسهل توزيعها غرباً، من
بينها على سبيل الذكر: «أمل» لمحمد صيام، و«عن الآباء والأبناء» لطلال
ديركي، و«بلا وطن» لنرجس النجار، و«ريح رباني» لمرزاق علواش، و«صوفيا»
لمريم بن مبارك، و«جسد غريب» لرجا عماري، و«زينب تكره الثلج» لكوثر بن
عطية، وأفلام أخرى كثيرة.
ليس أن السينما العربية تخلو من أفلام جيدة تستحق
الاهتمامين الغربي والعربي على حد سواء، لكنها إنتاجات تعتمد على الداخل من
ناحية ولا تحاول أن تبيع القضايا لمن يدفع فيها. |