ما الذى يبقى بعد أى مهرجان سينمائى؟ لا الافتتاح ولا الختام، ولا السجاجيد
الحمراء، أو الفساتين الحمراء، ولا السهرات أو اللقاءات أو حتى علاقات الحب
العابر التى تنشأ أحياناً بين الضيوف والمنظمين وبعضهم البعض، رغم أن بعض
العلاقات التى شهدتها تطورت واستمرت بنجاح!
من عشرات المهرجانات التى حضرتها وشاركت فى صنعها بمصر وخارج مصر، لم يبقَ
فى ذاكرتى سوى أثر الأفلام الرائعة التى لا يستطيع الزمن، ولا الأفلام
الجديدة أن تمحوها.
لا أذكر المرة الأولى التى حضرت فيها أفلام مهرجان القاهرة كمشاهد عادى،
مراهق، أيام الطوابير التى كانت تمتد أمام دور عرض وسط القاهرة فى ثمانينات
القرن الماضى، لكننى أذكر جيداً بعض الأفلام ووقعها الذى لا يُنسى داخل
عقلى ونفسى.
أتذكّر «كارمن» كارلوس ساورا، و«ريمبيتكو» كوستاس فيرس، و«مفيستو» استيفان
زابو، و«عصفور سطح» فريد بوجدرة، و«إنترفيستا» فللينى.. وأفلام كثيرة لم
أعد أذكر أسماء مخرجيها ولا أسماءها.
وعندما يتصادف أن أتبادل هذه الذكريات مع بعض الأصدقاء القدامى أكتشف أنهم
يحتفظون بأثر أفلام أخرى، شاهدناها معاً، لا أذكر عنها شيئاً، مع أن أثرها
عليهم لا يمحى.
بعد كل مهرجان أحاول أن أحصى الأفلام الأكثر إبهاراً وإثارة بالنسبة لى..
تلك الأفلام التى تتميز بابتكارات فنية أو أسلوب مختلف أو مستوى غير مسبوق،
أو ببساطة، تلك الأعمال التى استمتعت بمشاهدتها، وأتمنى بشدة أن تتاح لى
الفرصة لمشاهدتها مرة أخرى.
فى فترة ما كان مهرجان القاهرة يحرص على استمرار العروض بعد حفل الختام
ليوم أو اثنين، وبعض المهرجانات الدولية تفعل ذلك، لإعادة عرض الأعمال
الفائزة، أو الأعمال التى أثارت أكبر الإعجاب بين الحضور. وهى فكرة ناجحة
ومفيدة جداً لا أعلم لماذا توقفت، لكننى أقترحها بشدة على القائمين على
مهرجان «القاهرة».
أعلم طبعاً أن هذه ليست مهمة المهرجان، وأحياناً تتعذّر إعادة عرض الأفلام
لأسباب تتعلق بحقوق الملكية أو الرقابة أو غيرها، خاصة أنه لم يعد هناك فى
مصر كيان يهتم بتوزيع وعرض الأفلام الفنية الجيدة، باستثناء قاعة عرض سينما
«زاوية» التى لم تعد تكفى الإقبال المتزايد، وتتطلع لليوم الذى تحظى فيه
بحفنة من الإخوة والأخوات.. وحتى يأتى ذلك اليوم، إن أتى، فلا بد أن تصبح
المهرجانات كما يقول المثل الشعبى «بنّا ومناول»، أى تختار وتحضر وتعرض
الأفلام، ثم تسعى لتوزيعها!
هل يمكن مثلاً أن تكون هناك قاعة صغيرة على مدار العام تحمل اسم «مهرجان
القاهرة».. أو «سينما المهرجانات»، تتولى مهمة عرض أهم الأفلام التى تعرضها
المهرجانات المصرية؟ ربما. هذه فكرة أطرحها على وزارة الثقافة ولجنة
المهرجانات وإدارة مهرجان القاهرة.. إذا وجدت من يتحمس لها.
من دورة هذا العام، اخترت عشرة أفلام أتمنى أن أشاهدها مرة أخرى، وأتمنى أن
تُعرض مجدداً فى مصر ليراها الناس.
«الأيرلندى» لمارتن سكورسيزى، الذى عُرض فى الافتتاح، لا يمكن إعادة عرضه
لأنه من إنتاج «نتفليكس»، وسوف يبث قريباً، ويحظى بمشاهدة يستحقها،
و«برازيل» الذى عُرض فى إطار تكريم تيرى جيليام، فيلم قديم، متوفر على
الإنترنت بنسخ عالية الجودة، وهو عمل بديع يستحق المشاهدة وإعادة المشاهدة.
من أفلام المسابقة، أختار الأعمال التالية:
«لونانا: ثور داخل الفصل» للمخرج باو تشو ينينج دورجى من دولة بوتان. أعتقد
أنك تضحك الآن من غرابة اسم الفيلم واسم مخرجه وحتى اسم الدولة التى أتى
منها. ولهذا بالتحديد تُصنع الأفلام وتُقام المهرجانات، وتتحاور الثقافات،
من أجل المعرفة وكسر الجهل والخوف والعنصرية ضد الآخر.
«لونانا».. القادم من بلاد ربما لا نعرفها يتحدّث عنا أكثر من أى فيلم آخر
فى المهرجان، وهو درس لنا، بلد المائة عام سينما، فى الكيفية التى يمكن بها
عمل فيلم شديد الفنية، شديد العذوبة، شديد الشاعرية، بأقل التكاليف وأبسط
الأدوات.
«احكيلى» لماريان خورى، الذى يمثل مصر فى المسابقة، فيلم تسجيلى، لن تتاح
له الفرصة للعرض العام إلا فى أضيق الحدود، لكنه يستحق المشاهدة على نطاق
واسع. هو عمل مختلف، ربما لا يكون معتاداً على ذائقة معظم جمهورنا، حتى
المتعلمين منهم، لكن لهذا أيضاً من المهم مشاهدته، لنتعلم أن هناك أنواعاً
أخرى من الأفلام، أكثر صدقاً من القصص الخيالية، يمكن أن تثير فينا الكثير
من المشاعر والأسئلة والإعجاب.
الفيلم اللبنانى «جدار الصوت» للمخرج أحمد غصين، من الأعمال العربية
القليلة التى تهتم بالإبداع والتجريب الفنى، بجانب الاهتمام بالقصة
الواقعية السياسية، وتأكيد أن الاثنين لا يتعارضان.
خارج المسابقة كان هناك العشرات من الأفلام التى تتراوح فى أنواعها
وأساليبها ومستواها الفنى، لكن بعضها لا يمكن إغفاله.. مثل فيلمى «حياة
خفية» و«عن الأبدية» لشاعرى السينما الكبيرين الأمريكى تيرانس مالك،
والسويدى روى أندرسون.
نقول دائماً إن السينما فن، لكن الفن لا بد أن يحتوى على الشعر، والفلسفة،
وللأسف هناك سوء تفاهم مزمن بين جمهورنا والشعر والفلسفة. لذلك تحديداً
اخترت هذين الفيلمين لمن لم يشاهدهما، ولمن شاهدهما.
تيرانس مالك، أحد الكبار فى عالم السينما اليوم. من أعماله السابقة «أيام
النعيم»، «الخيط الأحمر الرفيع» «العالم الجديد»، و«شجرة الحياة». هو أستاذ
فى الفلسفة، وفيلسوف سينمائى، كل أعماله تتأمل الحياة والموت والجمال
والأخلاق ووضع الإنسان داخل الكون. وفى عمله البديع الجديد «حياة خفية»
يعود إلى زمن الحرب العالمية الثانية، وقت الأزمة والكارثة النازية، ليعيد
طرح الأسئلة من خلال حياة فلاح بسيط أكثر نبلاً وشجاعة من آلاف المثقفين
الذين رضخوا للنازيين بدافع الخوف أو النفاق.. درس فى معنى الحياة
والأخلاق.
«عن اللانهاية» أو «الأبدية»، حسب ترجمة المهرجان، هو أيضاً عمل فلسفى
بديع، لواحد من علماء جمال فن السينما هذه الأيام، وهو روى أندرسون، صاحب
«أغانٍ من الطابق الثانى» و«حمامة تجلس على فرع شجرة وتتأمل الوجود». هنا
أيضاً يواصل أندرسون أسلوبه «السيريالى»، بصناعة شخصيات ومواقف وأجواء أشبه
بالأحلام..وكما لو كنا بصدد رواية، أو قصيدة، مكتوبة، يتتابع أمامنا تاريخ
الإنسانية بلحظاته الأكثر نبلاً، والأكثر خسة ووحشية، من الأحداث الكبرى
وحتى أبسط المشاعر وأكثرها عمومية.
وبما أننا ذكرنا الفلسفة والسيريالية، فلا بد أن نذكر شاعر السينما
الفلسطينية والعربية إيليا سليمان، وأحدث أعماله «إن شئت كما فى السماء»،
أو
Just Like heaven «تماماً
مثل الجنة»، حسب اسمه بالإنجليزية.
هذا واحد من أجمل أفلام مهرجان القاهرة، وأفلام إيليا سليمان. وللأسف
أيضاً، نحن لا نعلم «سليمان»، ولا السينما العربية، والفضائيات المصرية
والسعودية واللبنانية التى تمطرنا بالأفلام الأمريكية والمصرية التجارية
يومياً، لا تفكر أبداً فى دعم وتوزيع وعرض الأفلام العربية لكبار
السينمائيين العرب المعروفين فى العالم كله، ما عدا البلاد العربية.
ونحن نذكر السينما والشعر لا بد أيضاً أن نذكر الفيلم البرتغالى «فيتالينا
فاريلا» للمخرج بيدرو كوستا، صاحب الأعمال الفنية البديعة، التى تصنع
السينما بروح الفن التشكيلى.
وقبل أن نغادر لا يمكن أن أنسى الفيلم الصينى «غبت طويلاً يا بنى» للمخرج
وانج شاو شواى. هنا أيضاً كثير من الفن التشكيلى والشعر والفلسفة، لكن من
خلال قصة عائلية درامية ومؤثرة من النوع الذى يعجب كل الناس، خاصة جمهورنا
الشرقى، وهو عمل أتمنى من أصحاب دور العرض أو القنوات أن يشتروه ويعرضوه،
وصدقونى سوف ينجح جداً، ويجيب لكم فلوس! |