ماتت محسنة توفيق التي جسدت مسرحيا شخصية «جميلة بوحيرد»
القاهرة – «القدس العربي»:
ما لا يعلمه البعض أن محسنة توفيق، التي غابت عن شمس الدنيا
أمس كانت تستعجل الموت لتلتقي عزيزين عليها، الأول ابنها الذي لم تلده
الفنان ممدوح عبد العليم، الذي مات قبل ثلاثة أعوام وبكته طويلاً وزوجها
أحمد خليل.
لم يصمد جسد محسنة توفيق هذه المرة كما صمد مراراً من قبل
فقد بات منهكاً بفعل العديد من الخيبات الممتدة على مراحل عمرها، حيث حال
المنتجون بينها وبين العديد من الأدوار والشخصيات التي تمنت لو قدمتها
لتذهب في نهاية الأمر لفنانات لا يمتلكن جزءا من موهبتها باعتبارها واحدة
من أساطين التمثيل، لكل ذلك ظلت حبيسة الأدوار الثانية إلا عبر عدد يسير من
الأدوار. وهي على أعتاب الثمانين عرفت الطريق نحو حياة العارفين بالله وبات
أملها أن تنطلق جنازتها من مسجد «السيدة نفيسة» وكان لها ما أرادت. أما
حلمها الخاص يتماهى مع حلم الأغلبية الفقيرة على أمل أن ترى مصر، وقد
استردت نفسها وتحررت من القيود لفسحة الميادين مجدداً. ولدت عام 1939 وهي
حاصلة على درجة البكالوريوس في الزراعة عام 1968. قدمت ما يقرب من 80 عملا
فنيا متنوعا، سواء على المسرح أو في التلفزيون أو السينما أو الإذاعة. كان
آخر ظهور لها على الملأ في فبراير/شباط الماضي، عندما قررت إدارة مهرجان
أسوان السينمائي الدولي لسينما المرأة تكريمها خلال الدورة الثالثة من
المهرجان.
أم بديلة
نشأت في أسرة تنتمي للطبقة الوسطى، استهوت القراءة خاصة في
الأعمال الروائية والفكرية مبكراً وواجهت عدة صدمات قاسية على الصعيد
الشخصي، حينما غيب الموت أمها في سن مبكرة لتجد نفسها بمثابة أم «بديلة»
لشقيقتيها الأولى الفتاة التي ستتحول لاحقاً لإذاعية مرموقة وهي فضيلة
توفيق المعروفة بلقب «أبلة فضيلة»، والثانية يسرا توفيق، التي كانت مغنية
في دار الأوبرا المصرية.
دخلت مجال الفن عن طريق الصدفة منذ كانت تبلغ من العمر 9
سنوات، حيث أنها لم تكن تفكر في التوجه إلى التمثيل، وإنما كانت تقوم
بالغناء عندما انتبه معلم اللغة العربية لموهبتها في التمثيل وبالفعل أصبحت
«دوبليرة» لبطلة عرض مسرحي أثناء دراستها في المدرسة، ومن وقتها بدأ
مشوراها الفني. اقتربت أدوارها من درجة الكمال الفني بتعاونها مع المخرج
الراحل يوسف شاهين في مجموعة من أبرز أعماله، هي: (إسكندرية ليه، العصفور،
الوداع يا بونابرت).
وارتوت حديقة مشوارها الدرامي بمسلسلات: (ليالي الحلمية،
الشوارع الخلفية، الوسيه، أم كلثوم). بدأت نشاطها الفني عام 1962 بمسرحية
«مأساة جميلة»، ثم عقب تخرجها عام 1966 قدمت مسرحية «أجاممنون» على مسرح
الجيب.
عام 1971انطلقت مسيرتها السينمائية بفيلم «حادثة شرف» عبر
دور «مسعدة»، زوجة فرج الذي قام ببطولته الفنان شكري سرحان. ومن أدوارها
الخالدة فيلم «البؤساء» مع المخرج عاطف سالم وفيلما «قلب الليل» و»الزمار»
مع المخرج عاطف الطيب. و»ديل السمكة» مع المخرج سمير سيف.
الملهم والقديرة
مثل المخرج يوسف شاهين بالنسبة للفنانة التي رحلت أمس
ملهماً وباعثاً لها نحو المجد الفني عبر أدوار وإن قلت لكنها وهبتها الخلود
الفني عبر عدة تجارب سينمائية، منها دور «أم يحيى» وزوجة محمود المليجي من
خلال فيلم «إسكندرية ليه»، ودور الأم في فيلم «الوداع يا بونابارت» وجاء
دورها في فيلم «العصفور» ليكون مختلفاً على كافة المقاييس، حيث تميزت بدور
«بهية» وأصبحت رمزا للوطنية، وعبرت عن رغبة الشعب المصري في النضال بعد
تنحي جمال عبدالناصر عن الحكم. وبالنسبة لتاريخها السياسي الممتد مثلت لها
ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011 منعطفاً تاريخياً في
مشوارها، الذي حرصت خلاله على ألا تفرق ما بين الشخصي منه والفني ولا بين
الفني والسياسي، لذا أصبحت بمثابة التميمة، التي لا تعصف بها الأزمات ولا
تخبت أضواءها البطالة. أما عن آخر عمل شاركت فيه فكان مسلسل «أهل
إسكندرية»، والذي صورته منذ خمسة أعوام، والذي لم يُعرض حتى الآن على
الشاشة. آخر ظهور تليفزيوني للفنانة محسنة توفيق في نهاية شهر مارس/آذار
الماضي، مع الإعلامية شيرين حمدي، في برنامج «أون ست»، الذي يُعرض عبر قناة
«أون إي». وكشفت خلاله عن ذكرياتها مع مجال التمثيل، حيث ارتبطت بالمسرح
المدرسي منذ صغرها، داخل مدرسة «غمرة» وسط القاهرة، حيث أسند لها المخرج،
دور أحد الأبطال، كـ«دوبليرة». وتقول: «حصلت على السيناريو، وتوجهت إلى
المنزل، لمذاكرته بشكلٍ جيد، واتخذت من الكرسي شخصًا لمحاورته».
وعبرت عن فرحتها قائلة «مثلت الدور بشكل جيد، لدرجة أن
المخرج تعامل مع الدور كبطولة». وحول أبرز الأدوار التي تشبهها على مدار
تاريخها، قالت محسنة توفيق دوري في مسرحية «مأساة جميلة» هو الأقرب لي على
وجه التحديد، حيث أنها كانت مرتبطة هي وجيلها بالثورة الجزائرية، وجميلة
بوحيرد على نحو خاص.
لم تبك السادات
للراحلة محسنة توفيق مواقفها السياسية التي لا تنسى وأبرزها
تنديدها بالرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، حيث أعلنت رفضها لزيارته
القدس المحتلة (1977) واتفاقية كامب ديفيد (1978)، وفور علمها بالقرار،
الذي اتخذه السادات قامت بـ «اللطم على خديها».
وأشارات إلى أن صوت المذيع الذي أعلن الخبر ظل يتردد في
أذنيها حتى وقت قريب. وتعد الراحلة أبرز ضحايا السلطة في زمن السادات، حيث
صدرت «تعليمات سرية» بعدم ترشيحها لأعمال فنية، وعلمت بالأمر عن طريق:
«رئيس التلفزيون الأسبق، حيث كان زوج لأختها الصغيرة، وقد أبلغها بالقرار
وعزاها بسبب مواقفها السياسية».
ومن أبرز من نعوا الفنانة القديرة أمس الفنان نبيل الحلفاي
الذي يتذكر العديد من المواقف المشرفة لها على مدار سنوات تاريخها: «لا
أذكر أني سمعت صوتها إلا متهدجا، ربما كان هذا سببا في خسارتنا للمساحة
التي تليق بها، اختلفت أو اتفقت مع مواقفها، يكفي أنها كانت ممن يدفعون
الثمن لا ممن يتربحون». وقد خيم الحزن على الوسط الفني والثقافي إثر اعلان
وفاتها فنعت الدكتورة إيناس عبد الدايم، وزير الثقافة، الفنانة الكبيرة،
التي رحلت عن عالمنا في الساعات الأولى من صباح الثلاثاء، عن عمر ناهز 80
عاما بعد صراع مع المرض.
وقالت إن تاريخ الإبداع الدرامي العربي فقد إحدى علاماته،
التي تميزت بالأداء الفني الصادق. ونشرت المخرجة نادية كامل عبر حسابها على
«فيسبوك» صورة للفنانة الراحلة. وعلقت عليها: «مع السلامة محسنة راحت
لخليل، لك السكينة والسلام»، في إشارة إلى زوجها أحمد خليل، الذي توفي منذ
عامين. |