طرق قديمة وتقنيات
جديدة في مهرجان برلين السينمائي
أمير
العمري
سالي بوتر بلا جديد و"ناتاشا" السوفياتية تجربة هائلة
ومفاجأة في مهرجان برلين.
من بين الأفلام التي تنافست على جائزة “الدب الذهبي”
لمهرجان برلين السينمائي في دورته السبعين التي اختتمت مساء أمس السبت، حظر
فيلم “الطرق التي لم نقطعها” للمخرجة سالي بوتر، والفيلم الكوري “المرأة
التي جرت” لهونغ سانغوسو، اللذان لم يتركا أثرا كبيرا، أما مفاجأة المهرجان
فكان الفيلم الروسي “ناتاشا” لمخرجه إيليا كرجانوفسكي.
برلين –
لم يترك فيلم المخرجة الشهيرة سالي بوتر “الطرق التي لم نقطعها” تأثيرا
ملحوظا رغم أنه كان أحد الأفلام المنتظرة في الدورة الـ70 من مهرجان برلين
السينمائي. فالفيلم الذي يجمع بعض الأسماء الشهيرة في عالم التمثيل مثل
خافيير بارديم وسلمى حايك وإيل فاننغ، بدا كما لو كان يكرّر ما سبق أن
شاهدناه وخبرناه في أفلام قديمة، ربما حقّقت نجاحا أكبر.
والفيلم عبارة عن رحلة في عقل رجل فقد ذاكرته إلى درجة أنه
لا يتذكّر ابنته التي انفصلت والدتها عنه عندما كانت صغيرة، لكنها التصقت
به الآن، وأصبحت الكائن الوحيد الذي يرعاه في محنته.
ورغم فقدانه الذاكرة إلاّ أن بناء الفيلم بأكمله يقوم على
تداعيات من الماضي تعبر الذاكرة، فهذا الرجل “ليو” نعرف من خلال الحوار أنه
كاتب، وأنه كان مهموما بالبحث عن نهاية ملائمة لروايته الأخيرة التي لم
يكتب بعدها، ولو عن طريق استطلاع آراء الآخرين من جيل الشباب. والواضح أنه
كان يرغب في كتابة عمل مستمد من تعقيدات حياته.
سرّ الصدمة
المشكلة أنه حتى الدقيقة الـ75 من الفيلم الذي لا تزيد مدته
عن 85 دقيقة، لا نعرف سرّ أزمة ليو إلى أن نعرف أن الصدمة التي تسببت في
فقدانه ذاكرته أو دخوله تلك الحالة المرضية الأقرب إلى “الزهايمر”، ترجع
إلى أنه تسبّب في مقتل ولده من حبيبته المكسيكية “دولوريس” (سلمى حايك)
التي سيهجرها ويأتي إلى أميركا، كما يقال لنا، منذ ثلاثين سنة. ولكن من دون
أن تبدو عليه أي تغييرات سواء على تكوينه الجسماني أو على ملامح وجهه مع
مرور الزمن.
هذه الصدمة تتفاعل بسبب شعوره بالذنب لتسببه في مصرع ابنه
بعد أن تركه يذهب إلى المدرسة وحده ممّا أدى إلى أن تدهسه شاحنة. وكلها
معلومات تأتي من خلال الحوار.
وستظهر زوجته “ريتا” التي أنجب منها ابنته “موللي”، والتي
أصبحت وسيلته الوحيدة للنجاة، في مشهد وحيد في المستشفى الذي ينقل إليه بعد
تدهور حالته العقلية.
كل مشهد من مشاهد فيلم "ناتاشا" يقع في الزمن الحقيقي، وليس
من خلال تقنية اقتصاد الزمن المعروفة في السينما
أما دولوريس فتظهر عبر مشاهد استعادة الماضي في المكسيك.
وعندما يختلف الاثنان ويصرّ هو على النزول من السيارة وتبتعد بها هي، يسير
ليو وحيدا وسط الجبال في الصحراء على نحو يذكرنا بمسيرة الممثل الراحل هاري
دين ستانتون في فيلم “باريس – تكساس”.
ما يشغل ليو هو السؤال التالي: ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن
حياته أخذت مسارات أخرى؟ وهي المسارات التي يتخيل نفسه قطعها. ولكن دون أن
يبدو شيء منها مثيرا لاهتمام المتفرّج. فهذا عمل رتيب يسير على وتيرة
واحدة، ويدور حول فكرة واحدة لا تتطوّر ولا تصل إلى شيء.
وأداء خافيير بارديم لدور الكاتب الذي يحن إلى علاقته
القديمة الرومانسية بحبيبته المكسيكية دولوريس لا يبدو مقنعا أو مؤثرا، بل
هو أداء آلي رتيب من دون أي إضافات. والسبب، لا شك، يرجع إلى سطحية الشخصية
كما في السيناريو الأصلي الذي كتبته سالي بوتر نفسها.
أما فيلم “المرأة التي جرت”
The Woman Who Ran
للمخرج الكوري هونغ سانغوسو، فهو يقع في فصول محدودة (4 فصول)، تبدو كما لو
كانت فصولا في مسرحية من أعمال مسرح العبث. فهو يعتمد على الحوار الذي لا
شك في طرافته كما أن شخصيات الفيلم طريفة، وهي تحديدا ثلاث أو أربع نساء
ورجلَيْن. الرجل في الفيلم بليد وفظ وعديم الحساسية، لا يقبل ما تفعله
المرأة. بل إن أحد الرجلين يحتج ويواصل احتجاجه في إصرار على اهتمام جارته
برعاية القطط الجائعة في الشارع. فقط لأن زوجته لا تحبها وتخشاها. والآخر
يطرق باب زوجته السابقة لكي يلح عليها في العودة إليه دون أن يبالي
بمشاعرها وما أصبحت تتطلع إليه بعد أن انفصلت عنه منذ فترة.
فيلم سانغسو على أي حال يمكن فهمه واستيعابه والاستمتاع
بحواره الطريف أيضا خلافا لفيلم زميله الكوري تسايمينغ ليانغ “أيام”
Rizi.
فهذا عمل تجريبي يعوّل على صبر المتفرج، فهو يعتمد على المشاهد الصامتة
الطويلة التي تلتقط صورة من الطبيعة أو من الشارع أو من الحياة الداخلية
الحميمية لرجل. لا أكثر ولا أقل. وذلك في عمل يستغرق أكثر من ساعتين!
مفاجأة المهرجان
الآن نأتي إلى المفاجأة الحقيقية في المهرجان، وهو الفيلم
الروسي الكبير “ناتاشا” الذي يسبق عنوانه “داو”
Dau
وهو اسم الأستوديو السينمائي الذي أنشأه مخرجه إيليا كرجانوفسكي بأموال
الملياردير الروسي سيرجي أدونييف في أوكرانيا، كما أنه عنوان فيلمه السابق
الذي استغرق عشر سنوات في تصويره وإعداده للعرض، وكان يفترض أن يكون عن
العالم السوفييتي ليف لانداو حائز جائزة نوبل في العلوم. إلاّ أنه انتهى
إلى أن أصبح 12 فيلما ضمن مشروع “داو”.
أما “ناتاشا” فهو استكمال لتلك السلسلة. وعندما نقول
“الأستوديو” الذي أقيم في خراكوف بأوكرانيا، فالمقصود ليس مجرد أستوديو
للتصوير السينمائي بل منشأة ضخمة في ملعب قديم في المدينة، أي على بضعة
آلاف من الأمتار، تحاكي معهدا سريّا للأبحاث العلمية السوفييتية في الاتحاد
السوفييتي.
وقد تطوّع للعمل في هذا “المشروع الضخم” الآلاف من الأشخاص
الذين ظلوا لسنوات يعيشون ويتعايشون مع المكان، إَضافة إلى استضافة الكثير
من العلماء الحقيقيين والاستعانة بعدد كبير من المصوّرين والممثلين الهواة
وغيرهم، ساهموا جميعا في الأداء المرتجل من دون سيناريو نهائي في أفلام تلك
السلسلة.
“ناتاشا”
عمل مستقل من أعمال هذا المخرج المجنون بفكرة مطابقة الواقع وليس محاكاته،
من خلال منهج “المذهب الطبيعي في الفن”، وقد استعان بامرأة يقول إنها ليست
ممثلة بل كانت قبل مشاركتها في الفيلم “تبيع السترات”، هي التي تقوم بالدور
الرئيسي، أي دور “ناتاشا” وهو اسمها الحقيقي (ناتاشا بريجينايا). كما
استعان بضابط سابق في المخابرات السوفييتية (الكي جي بي)، هو الذي يقوم
باستجوابها وتعذيبها في الفيلم.
وليس في الفيلم أي نوع من الخدع السينمائية أو “الإيحاء”
بالعنف والجنس، فما نشاهده على الشاشة هو ما حدث فعلا أمام الكاميرا، بما
في ذلك مشهد جنسي طويل تفصيلي يشمل كل شيء، ومشهد آخر تُرغم فيه ناتاشا على
إدخال زجاجة كونياك ضخمة في مهبلها وإخراجها مرات عدة، على سبيل الإهانة
والتحقير والتعذيب النفسي الشديد.
ويقع الفيلم في سبعة مشاهد فقط. ويستغرق زمن عرضه نحو
ساعتين ونصف الساعة. وما يحدث داخل كل مشهد يقع في الزمن الحقيقي وليس من
خلال تقنية “اقتصاد الزمن” المعروفة في السينما. ومن الواضح أن هناك الكثير
من الارتجال في التمثيل خاصة في المشاهد الأولى من الفيلم، وبوجه خاص مشهد
المداعبة وممارسة الجنس بين ناتاشا والعالم الفرنسي لوك بيجيه الذي كان في
زيارة رسمية إلى معهد العلوم في الاتحاد السوفييتي.
المخرج إيليا كرجانوفسكي يقدّم في فيلمه الروسي "ناتاشا"
تجربة لها سحرها الخاص في السينما، رغم قسوتها
مشاهد حقيقية
البناء في الفيلم لا يسير في المسار الصاعد التقليدي؛ فهو
يبدأ من مشهد متأخر سيعود إليه بعد أن يرتد إلى ما وقع قبل هذا المشهد
الافتتاحي الذي يدور داخل “كانتين” أو “كافتيريا” تديرها ناتاشا داخل معهد
الأبحاث العلمية السوفييتي، أي أنه جزء من ممتلكات الدولة. ويتردّد على هذا
المطعم البسيط العلماء والباحثون والحراس وضباط الأمن والمخابرات وغيرهم.
وناتاشا سيدة في أواخر الأربعينات، كانت تتمتع في الماضي
بقسط لا بأس به من الجمال. نراها في المشهد الأول غير سعيدة. تدخن كثيرا
وتشرب أكثر، فهي مهمومة، تشعر بأن أيامها في المكان الذي تعمل فيه قد باتت
معدودة، وأنها لم تعد حتى تحظى باهتمام الرجال كما كان الأمر في الماضي.
ويتسبب تعليق من جانب مرؤوستها الشابة الجميلة “أولغا” (اسمها الحقيقي
أولغا شكابارنايا) التي تعمل تحت إدارتها في “الكانتين” في نشوب مشاجرة
حادة بينهما. فناتاشا تصرّ على أن أولغا يجب أن تقوم بكنس الأرض قبل أن
تغادر، والثانية تصرّ على أنها لن تفعل ذلك سوى في الصباح كالمعتاد.
من هذا المشهد ننتقل إلى مشهد زيارة عدد من الضباط والعلماء
وبينهم العالم الفرنسي الزائر “لوك” الذي سينجذب إلى ناتاشا عندما تحضر في
المشهد التالي إلى حفل صاخب لمجموعة من العلماء السوفييت في شقة أولغا،
التي سيتضح لنا أنها تستضيف هؤلاء الرجال وتسهل لهم مضاجعة النساء. وهي
التي تقدّم ناتاشا إلى لوك وتترجم له من الإنجليزية إلى الروسية ولو بلغة
ضعيفة مهشمة، وبعد العشاء وفوضى احتساء الخمر، يضاجع لوك ناتاشا في مشهد
طويل تفصيلي.
من هنا ستنقلب حياة ناتاشا رأسا على عقب، ففي اليوم التالي
يتم اعتقالها وتتعرض للاستجواب داخل أقبية سرية في مبنى المخابرات
السوفييتية، كما تتعرّض للتنكيل بها أشد تنكيل على يدي ضابط المخابرات
السوفييتية “فلاديمير أجيبو” (وهو أيضا اسمه الحقيقي).
والسبب كما يقول لها: أنها ضاجعت رجلا أجنبيا يعتقدون أنه
“جاسوس” يضمر الشر للاتحاد السوفييتي. لكن السبب الحقيقي هو تحطيم روحها
المعنوية والقضاء على أي طاقة مقاومة لديها ودفعها إلى التوقيع على اتفاق
تقرّ بموجبه “طوعا” العمل كمرشدة للمخابرات.
بعد أن ترضخ ناتاشا للمطلوب منها بتفاصيله وتخضع لأقصى ما
يمكن تخيله من تنكيل وتعذيب وتوقّع على ما يمليه عليها الضابط الفظ الشرس،
تسير إلى “الكانتين” في الصباح. لنعود إلى المشهد الذي بدأ به الفيلم، أي
إلى تلك المشاجرة مع أولغا التي كانت قد انتهت بمغادرة أولغا، ثم ناتاشا
تجلس وحيدة تصب لنفسها كأسا، تشعل سيجارة وتسب الجميع وتتساءل في غضب:
لماذا أنا؟ الآن عرفنا سبب هذا السؤال الذي لا إجابة عنه!
الكانتين مكان مغلق من دون نوافذ كما لو كان سجنا. ويوجد في
منتصفه حوض لغسيل الأيدي وغسيل الصحون أيضا. والمعروض من الأغذية والخمور
من ممتلكات الدولة السوفييتية. وناتاشا تتجاوز أحيانا وتفرط في تناول
الشراب بل وفي أحد المشاهد القليلة في الفيلم ولعله أطول هذه المشاهد (مع
مشهد الاستجواب)، لا تكف هي وأولغا عن الشراب بل ترغم الفتاة على تناول
خليط من الخمور يجعلها تتقيّأ وتترنّح من السكر.
ولا يبدو أن التمثيل هنا تمثيل بل لا بد أن يكون نوعا من
الاختبار الحقيقي للصمود أمام الكاميرا بعد تناول الخمور بهذه الكميات
بالفعل. وهو نفسه في مشهد العشاء وما يعقبه.
الكاميرا ترصد وتراقب وتسجل وتحضر وتجوس بين الشخصيات، وهي
كاميرا حرة مهتزة، من الواضح أنها تصوّر بحيث لا تكون مكشوفة تماما لمن
يؤدّون أمامها أو أنها قد أصبحت جزءا من عالمهم بعد التدريبات الطويلة. إن
الصورة بكل تفاصيلها تبدو وقد خرجت من أقبية العيش في دولة الرعب والعزلة
والأحلام المحظورة، والفرد لا قيمة لحياته نفسها بل يمكن قتل إنسان دون
حاجة إلى سبب، كما يقول ضابط المخابرات لناتاشا.
ولا شك أن من أهم ملامح الفيلم الأداء، وتحديدا قدرة المخرج
إيليا كرجانوفسكي على التحكم في أداء الشخصيات التي تظهر في الفيلم، وكلها
شخصيات حقيقية. إنه يقدّم هنا تجربة غير مسبوقة في السينما من قبل. وهي
تبقى على الرغم من قسوتها وبشاعتها، تجربة لها سحرها الخاص، تستدرجك إليها
لتعيش تجربة العذاب التي تجعل جسدك يرتجف من الفزع. فليس من الممكن أبدا أن
يعود المشاهد إلى ما كان عليه بعد مشاهدة هذا الفيلم.
كل مشهد من مشاهد فيلم "ناتاشا" يقع في الزمن الحقيقي، وليس
من خلال تقنية اقتصاد الزمن المعروفة في السينما
"الطرق
التي لم نقطعها" شعور قاس بالذنب
المخرج إيليا كرجانوفسكي يقدّم في فيلمه الروسي "ناتاشا"
تجربة لها سحرها الخاص في السينما، رغم قسوتها
كاتب وناقد سينمائي مصري |