قد يعتقد البعض أن شهادتي مجروحة عن
مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية
وفريق عمله، وفي مقدمته الفنانة عزة الحسيني، مدير المهرجان، والمخرج
المسرحي والسيناريست سيد فؤاد، رئيس المهرجان؛ وذلك بحكم أني عملت معهما
عدة مرات، فقد أصدرا لي من قبل- بمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية- كتابي
عن الناقد السينمائي الكبير سمير فريد، ثم هذا العام يُصدران لي عن
المهرجان ذاته كتابي الجديد «فريد شوقي وحش الشاشة.. ملحمة السينما
المصرية» والذي شرفني الكاتب والصحفي الكبير
مجدي الجلاد
بكتابة مقدمة له بعنوان «البطل الذي صنعه البسطاء».
كذلك، عملت مع إدارة المهرجان في لجنة اختيار الأفلام
المشاركة في المسابقات المختلفة بصحبة الأصدقاء الأعزاء: المخرج أحمد
رشوان، والناقد أسامة عبد الفتاح، فكان أعضاء اللجنة يجمعون بين تخصص
الإخراج وكتابة السيناريو أو النقد، مما يُشكل تكاملا في الرؤية الفنية
للعمل، وتنوع زوايا الرؤية والنقاش.
لذلك، وشخصياً لن أعتبر شهادتي مجروحة، لأني عشت تجربة سعدت
بها، سواء مع إصدار الكتابين، والحرص الذي لمسته من سيد وعزة، بملاحقتهما
لي دوما بالسؤال في كل مرة نتحدث هاتفياً أو نتقابل: «أمل، أخبار الكتاب
إيه؟ أمل، وصلتِ إلى أين في الكتاب؟ أمل، الكتاب لازم نستلمه يوم ١٥ في
الشهر القادم! أمل، هل كتاب فريد شوقي سيكون بنفس حجم وقوة كتاب سمير
فريد؟!».
كانت تساؤلاتهما أحياناً تزيد من رعبي القائم أصلاً وأنا
أكتب العمل. مع ذلك كنت أقدر وأتفهم قلقهما خصوصاً أنني لا أحب أن أتحدث عن
كتابي قبل أن يكتمل نموه وهيئته تماماً، كأنه كائن حي ينمو، ويتشكل
بالتدريج، ولا أجرؤ على كشفه على الملأ قبل أن أكون راضية عنه وفخورة به.
واليوم بعد ساعتين فقط من تسليم هذا المقال ستُقام ندوة وحفل توقيع لكتابي
عن فريد شوقي - بمناسبة الاحتفال بمئوية ميلاده، فهذه الدورة من المهرجان
تحمل اسمه- وذلك في حضور زوجته السيدة سهير الترك، وابنتيه النجمة والممثلة
القديرة رانيا فريد شوقي، والمخرجة عبير فريد شوقي.
سعدت، أيضاً، بمشاركتي مع الأصدقاء بالمهرجان في مهمة
اختيار الأفلام ونقاشي معهم، باتفاقنا أو اختلافنا أحياناً، ودفاع كل زميل
عن رأيه بتقديم مبرراته. هذا الاختلاف - لو تعلمون- له قيمة كبيرة وأثر
عظيم علينا. إنه يُوسع الرؤية ويعمقها، لمن يريد. فلمشاهدة الأفلام متعة
كبيرة، لكن مناقشتها تخلق حالة متعة ذهنية لا تقل عن المشاهدة، خصوصاً إذا
كانت عالية المستوى.
والحقيقة أن الدورة التاسعة من الأقصر للسينما الأفريقية
تضم مجموعة متميزة من الأفلام، وقد أعجبني بشدة أغلب الإنتاج الوثائقي الذي
وصل للمهرجان. لذا كانت المهمة أصعب للاختيار من بين الأجمل. وكان هناك
أفلام أخرى نجحت إدارة المهرجان في الوصول إليها لكن في النهاية هناك عدد
محدد يجب عدم تجاوزه.
خلال تلك الزيارات إلى مقر المهرجان لمناقشة مشاهداتنا
الأخيرة لمحت ورقة مُعلقة على باب أحد المكاتب الذي يضم شبابا وشابات
منهمكين في شاشات الكمبيوتر. كان مكتوبا عليها «باقي من الزمن ٦٢ يوماً».
أحيت هذه الجملة في ذاكرتي رعب الثانوية العامة عندما كتبت أعلى باب غرفتي
بالطبشور العد التنازلي قبل ثلاثة أشهر من الامتحان.
أسأل نفسي: هل لديهم الشعور نفسه بالخوف أو الرعب الذي
صاحبني خلال ذلك العام المصيري؟!
أتأمل الوجوه. أغلبها شباب وشابات، مع تطعيم بخبرات من
الجيل الأكبر، العدد ليس كبيراً كما في المهرجانات التي تمتلك ميزانيات
ضخمة، لكن اللافت أن جميعهم يتمتعون بالحيوية، بالحماس، بالإيمان بما
يفعلون. أسمع آية، إحدى الشابات، تحتج بصوت هادئ على شيء قامت به عزة،
فتعتذر المديرة التي كنت أراها، منذ لحظات، تتحدث بحسم قاطع وغضب في أحد
الأمور، وهي نفسها التي رأيتها مرات عدة تتفاوض، من أجل بناء جسور بين
المهرجان وجهات أخرى. مرات تبتسم بود وفرح طفولي، ومرات تراها غاضبة بسبب
المعوقات، أو لأن التمويل ضعيف وغير كافٍ للطموح. العمل والمهام بينها وبين
رئيس المهرجان مُقسمان بحرفية عالية. كل له دوره، ومهامه، ومسئولياته،
لكنهما أيضاً يجتمعان ويتبادلان الرأي والمشورة في مهام كل طرف.
كنت أشعر أن المكتب- حيث مقر المهرجان- قد تحول إلى خلية
نحل. أسأل نفسي: كيف جمعهم
سيد فؤاد
حوله؟ كيف انتقاهم من بين الآخرين؟ أعرف
سيد فؤاد
منذ نحو عشرين عاماً، منذ عملت في مجال الإعداد وكتابة
الإسكريبت بقناة النايل دراما- أول قناة مصرية متخصصة، منذ كانت بثا
تجريبيا. التقيت به هناك، كان دائما نشطاً، له مجموعة من الأصحاب تلتف من
حوله، تُؤخذ آراؤه في أفكار البرامج، والحلقات التسجيلية السينمائية
والمسرحية. كان له مصداقية عالية، يتميز بأنه يقول رأيه دون مواربة فيما
يخص الفن، وهو- بالمناسبة- قاسٍ في تقييمه وفي حكمه على الأفلام.
مع ذلك يمتلك سيد من الذكاء والاحترافية أنه إذا قال شخص
آخر فكرة ما جيدة تُضيف للعمل يقبلها بترحاب من دون أي «نفسنة». هكذا كان
دوما منذ عرفته، وأعتقد أن هذا يساهم كثيراً في نجاحه المستمر، وفي تطوير
أدواته. هذا طبعاً إلى جانب ارتباطه بمجتمعه، لذلك لم يكن من فراغ أن يفكر
في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، خصوصاً أنه أحد أبناء الصعيد. إضافة
إلى علاقاته وصداقاته بالوسط الفني منذ كوَّن مع رفاق مشواره- منهم الممثل
الراحل خالد صالح، وخالد الصاوي وعطية الدرديري وآخرون- فرقة مسرحية قدمت
عروضا عديدة، ثم لاحقاً عندما واصل كتاباته السينمائية توطدت علاقاته
بالمخرجين والكتاب أكثر.
في أثناء وجودي بالمكتب، إحدى المرات، طرحت سؤالي بصوت
عالٍ. كان أحمد حلبة بعد انتهاء مناقشة الأفلام يُواصل نسخ وطباعة بعض
الأشياء بالجدية والهدوء ودماثة الخلق نفسها التي يتميز بها، إنه يجمع بين
عمل فني وآخر إداري مكتبي برحابة صدر واسعة جداً. وهو في الوقت نفسه يحلم
بإخراج فيلمه الطويل الأول الذي يعمل على كتابته، بعد تجربتين قصيرتين.
أجابني
سيد فؤاد
على
سؤالي قائلاً: في إحدى السنوات، ونحن في الدورات الأولى للمهرجان، أحضر لي
الأستاذ فاروق عبد الخالق مجموعة من الأفلام القصيرة لشباب كانوا يُجربون
صناعة الأفلام. يومها لم يُعجبني منها شيء، لكن لفت نظري أن هناك اسماً
تكرر في جميع الأفلام في أدوار مختلفة، فمرة يكون مساعد مخرج، ومرة يقوم
بدور السيناريست، ومرة يشارك في المونتاج، شعرت أنه شاب يُحاول تحقيق شيء،
فقلت لأستاذ فاروق أريد هذا الشاب، فلندْعُه لحضور الورشة التي ننظمها في
مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية
ليكتسب خبرة في صناعة الأفلام، وكذلك أريده أن ينضم إلينا
في العمل. هذا الشاب اسمه أحمد حلبة.
أذكر هذه القصة؛ لأنها تشي بقدرة ومهارة
سيد فؤاد
في التنقيب عن العناصر والكفاءات التي تساعد على إنجاح
العمل؛ فهو يمتلك بصيرة وموهبة التقاط الكفاءات والناس الجيدة لحشدهم إلى
جواره، ربما عمله المسرحي علّمه ذلك، ربما شخصيته المنفتحة المستنيرة.
ومَنْ يتأمل فريق عمل المهرجان يُدرك ذلك.
أتأمل آية، نعمة، محمد جلال، علاء السركي، هالة الماو، أحمد
حلبة، أستاذ فاروق عبدالخالق. الجهد الجماعي واضح.
أتأمل علاقة التعاون الفني والإداري بين
سيد فؤاد
وعزة الحسيني، فأشعر أنهما نجحا في تكوين دويتو مهرجاني
سينمائي مُميز، فرغم صعوبة الإمكانات اللوجستية والموارد المالية، فإن
الاثنين معاً يمتلكان قدرة على الصمود والتحدي الناعم، والحفاظ على ما
صنعاه، وتطويره للأفضل. |